أصرت الحكومات الاسرائيلية منذ اتفاقات اوسلو والقاهرة على تحديد خرائط اعادة الانتشار ورسمها من دون مشاركة فلسطينية. وانفردت اسرائيل مرة اخرى بعد اتفاق شرم الشيخ الأخير بتحديد "النبضة الثانية" واقترحت على الفلسطينيين ابداء رأيهم في المرة المقبلة متعهدة "الاستماع" لمطالبهم. وعملياً رفضت اسرائيل الانسحاب في كل مرة الى ان وقّع الفلسطينيون على خرائطها. وهذه الخرائط تعتمد عادة اعادة الانتشار على مراحل وفي مناطق ليست ضمن خطة ايغال آلون التي اقترحها اواخر الستينات وحددت الأراضي التي لن تنسحب منها اسرائيل. وهذه المناطق تشمل منطقة القدس بدون تعريف لها وهي على ما يبدو ستشمل معالي ادوميم وجبل الخليل ومعبر اريحا وغور الأردن ومناطق الخط الأخضر والسفوح الغربية حيث مصادر المياه. وأضيفت اليها لاحقاً المستوطنات بين المدن الفلسطينية الأكبر التي قطعت التواصل الجغرافي الفلسطيني. هذه هي الوديعة التي تركها آلون والتي تناقلتها حكومات اسرائيل المختلفة، وهي النواة الصلبة لاستراتيجية باراك التفاوضية. ستبقي اسرائيل، بحسب وديعة آلون ، سيطرتها على ما لا يقل عن 40 في المئة من الضفة الغربية. وتظهر عملية حسابية بسيطة ان الفلسطينيين سيبسطون سلطتهم الكاملة او المدنية على حوالى 40 في المئة من الضفة مع انتهاء المفاوضات المرحلية مما يترك 20 في المئة للتفاوض في التسوية النهائية تحاول اسرائيل ان تكون لها سلطة مشتركة مع الفلسطينيين فيها. لكن وديعة آلون تقول اكثر من ذلك: حدود اسرائيل السياسية هي غور الأردن والقضية الفلسطينية "بدعة عربية" ولا بد من الانفصال فيزيائياً عن الفلسطينيين للحفاظ على يهودية الدولة. أما اذا نجحت "البدعة" واستطاع العرب فرضها على المنطقة، فحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني او للفلسطينيين يمكن تطبيقه في الأردن لأنه ليس هنالك مكان لجيش او لدولة ذات سيادة غرب نهر الأردن. هذا هو الإرث السياسي - العسكري الذي خلّفه آلون وتمسك به اسحق رابين ويمثله اليوم ايهود باراك. وهذه هي الترويكا الاسرائيلية التي حملت تيار "أحدوت هعفودا" العمالي على مدى الثلاثين سنة الماضية الذي يرى في الفلسطينيين والعرب خطراً امنياً واستراتيجياً وليس سوقاً تجارياً او الساحة الخلفية للاقتصاد الاسرائيلي كما يراها امثال شمعون بيريز. وهذا هو التيار العسكري - الأمني الارثوذكسي الاسرائيلي الذي يرى الحلول مع العرب امنية في اسسها باعتبار ان الأمن يضمن السلام وليس العكس. هذا هو ما ورثه باراك عن معلميْه آلون ورابين. وإذا كان لا بد من تذكر رابين، الأب العسكري والسياسي لباراك، في الذكرى الرابعة لاغتياله فلن يقتصر ذلك على "شجاعته" السلمية او على سياسة تكسير العظام، وإنما ما جاء في كتاب افرايم إمبار "رابين" الذي صدر قبل بضعة أسابيع والذي استخلص ان رابين هو أب المؤسسة العسكرية الحديثة. فإذا كان بن غوريون مؤسس الجيش فإن رابين هو الذي اوصله ان يكون اهم وأقوى جيش في المنطقة. كان جندياً كل شبابه ومتأثراً بآلون ومعجباً بغولدا مئير - وهو الذي شغل رتبة رئيس اركان الجيش في السنوات الانعطافية 1964 - 1967 حين رعى عملية تحويل الجيش الاسرائيلي الى جيش "هجومي" كما قال في مذكراته وقد شغل منذ ذلك الحين وزيراً للدفاع على مدى تسع سنوات ورئيساً للوزراء ست سنوات، اضافة الى خدمته سفيراً في واشنطن لحوالى ست سنوات اخرى 1968 - 1973 حين ارتفعت المساعدات الاميركية لاسرائيل عشرات الأضعاف وأصبحت اسرائيل فعلياً حليفاً استراتيجياً لأميركا في المنطقة. هذا هو إرث رابين. وكذلك الأمر بالنسبة ليغال آلون الذي لم تكن شخصيته كرزماتية ولكنه كنائب لرئيس الوزراء بعد نكسة 67 رسم الخطوط العريضة لسياسة الاستيطان والضم. وهو مؤلف كتاب "بناء الجيش الاسرائيلي" The Making of Israel Army وممثل التيار الأمني في حكومات العمل بعد حرب 67. وبناءً على خطته استولت اسرائيل على ما لا يقل عن 30 في المئة من أراضي الضفة الغربية مع نهاية 1973 وانطلقت اسرائيل في تنفيذ برنامج يسرائيل غاليلي الاستيطاني بناء على خرائط آلون الكولونيالية. وها هو باراك الذي يقل شجاعة وأمانة عن سابقيه آلون ورابين، ينفذ ما جاء في وديعة آلون نصاً وروحاً بدون الرجوع الى الفلسطينيين وبما لا يتعدى مشاورات صورية مع الاميركيين. لماذا؟ لأن خرائط التسوية النهائية شبه جاهزة وهي في أحسن الأحوال تخيّر الجانب الفلسطيني بين اتساع حدوده ضمن سقف ال60 في المئة نسبة لحدوده الأمنية ولاكتمال سيادته في مناطق نفوذه. ويرفض باراك ان يجازف كما فعل رابين حين قاد حكومة أقلية يهودية وعرّض نفسه لكراهية المستوطنين، ليبقى في مسافة آمنة من أية مخاطرات تتعدى الوجهة العامة لخطة آلون ولكن بدون الاصطدام مع المستوطنين الذين انتشروا بعد 1977 تحت حكم ليكود. وعملياً لا بد لباراك ان يختلق سياسة خاصة به مع بدء مفاوضات التسوية النهائية تعتمد وديعة آلون. وهو كرجل عسكري لم يستطع بعد ان يصبح رجل دولة بالرغم من انتخابه رئيساً للوزراء، مقارنة برابين الذي أخذ خطوات هامة بهذا الاتجاه بعد 1992. وكرجل عسكري لا يعرف باراك حقيقة ماهية التسوية النهائية التي يضمنها السلام بل ينفذ "وصية" آلون ورابين بالادوات العسكرية التي يعرفها وبدون الرجوع الى الفلسطينيين. وهذا ما يسمح بتوسيع رقعة الاستيطان في اماكن معينة ويفرض شق الطرق الالتفافية وبدء الضم الفعلي لمناطق استراتيجية مثل القدس والغور والخط الأخضر. وبهذا المعنى فالإنفراد في رسم الخرائط وتوسيع الاستيطان هو جزء من تنفيذ "الوصية" التي كتبها آلون ورابين وليس جزءاً من أي تفاوض او، بالمفهوم الاسرائيلي، ليس خرقاً للاتفاقات، وإنما امانة بالحفاظ على الوديعة والإرث السياسي العمالي. وبهذا المعنى يصح التفاوض أو الديبلوماسية عامة عقيماً لأنه بالعمق تفاوض مع الاموات. وتكون المشاركة الفلسطينية ضرورية للتوقيع لا اكثر. وهكذا تصبح "العملية السلمية" مهرجاناً اعلامياً للتأكيد على الانجازات وعلى التقدم نحو السلام. وهذه ضرورية كي تحصل اسرائيل على دعم اميركي وراء كل تحرك. ولربما كان العائق الأهم للتوصل الى اتفاقات هامة في السنة القادمة هو عدم امكانية ادارة كلينتون تقديم معونة كافية لتنفيذ اتفاقات هامة وهي التي وافقت منذ أيام على اطلاق مليار ونصف دولار لاسرائيل بعد تفاهمها مع الكونغرس. هذا يفرض على اسرائيل ان تخرج عن النقاش السياسي الداخلي حول قضايا التسوية لتشارك فيها واشنطن التي من المفترض ان تموّل العملية السلمية بمساعدة الأوروبيين. وتغيير السفير الأميركي في اسرائيل بإعادة مارتن انديك الى تل أبيب هو جزء من محاولات اسرائيل لابعاد واشنطن عن المفاوضات عموماً وتقريبها لاسرائيل من حيث التنسيق الثنائي للحصول على دعم اميركا قبل التفاوض مع الفلسطينيين. هذا لا يعني بمجمله انه على الفلسطينيين ان ينصاعوا وراء اسرائيل وان يكونوا مجرد موقعين على ارثها السياسي وخرائطها الأمنية. وهذا يبدأ اولاً بالاعتراف بأن المسار الديبلوماسي ليس صالحاً للتوصل الى اتفاق نهائي وانه لا بد لهم ان يتحركوا سياسياً، محلياً واقليمياً، على المستويين الوطني الاجتماعي والسياسي الاقتصادي، ويجهزوا انفسهم لما بعد سنة 2000، لأنه لن يكون هنالك حل نهائي ولا تسوية شاملة، حتى ولو تم الاعلان عن الدولة والاعتراف بها. الصراع مع اسرائيل ما زال سياسياً واستراتيجياً يتعدى الديبلوماسية الباردة. * كاتب وباحث فلسطيني