تساءل عمر بن الخطاب يوماً: "كيف تختلف امة الاسلام ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟". فقال عبدالله بن عباس ابن عم النبي: "انزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل، وأنه سوف يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، ثم يختلفون في الآراء، ثم يقتتلون في ما اختلفوا فيه". لا نغالي إذا قلنا إن ما حاول ابن عباس القيام به من استشراف مستقبل الخلاف بين ابناء "أمة الاسلام": عوامله وأسبابه، "تحقق"، على الأقل في ما يخص "النهج التفسيري" لنصوص القرآن وألفاظه، والكيفية التي يتم بها النظر الى دلالات هذه الألفاظ. إذا جاءت عصور "الضعف الاسلامي" لتشهد تغييراً في "النهج" الذي رآه ابن عباس، والذي سار عليه الصحابة، أو - في الحد الأدنى - أغلبهم نهج تفسير آيات القرآن وفقا لأسباب تنزيلها. وتبنى الفقه الاسلامي - منذ تلك العصور - نهجا في التفسير يعتمد قاعدة، مفادها: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". ولا حاجة بنا الى القول، هنا إن مثل هذه القاعدة كانت أدت - وما تزال تؤدي - الى تفسير القرآن، أو جانب كبير منه، على غير ما أراد التنزيل، مما يميل به عن معانيه ودلالات ألفاظه الحقيقية. فإذا ما أضفنا الى ذلك، أن ثمة تغيرات دلالية سيما نتيكية للمفردات اللغوية، كتعبير عن تغير المفاهيم المجتمعية التي ترمز إليها، أو قل:كنتيجة لتغيرات مجتمعية مفهومية تفرض نفسها في واقع المجتمع والتاريخ وتنتقل - من ثم - إلى واقع اللغة، يبدو بوضوح كم هي جد مقلقة تلك النتائج التي تنجم عن الفارق بين قاعدتي: "تفسير آيات القرآن على خصوص أسباب التنزيل" أو "تفسير هذه الآيات على عموم ألفاظها"، خصوصا وأن هذا الفارق ثار في الفكر الإسلامي، ومازال يثور، متخذا ثوبا فلسفيا ومتشحا بوشاح جدلي. ولعل ضمن أهم النتائج المترتبة على هذا الفارق بين قاعدتي التفسير، هي تلك المتعلقة بتقديم وجهين مختلفين تماما للإسلام، وذلك من منظور، أن الفارق إياه لا يقف عند حدود مجرد الجدال اللفظي أو التنظير الفلسفي، وإنما هو "نهج متكامل" في فهم القرآن، وفي تفسيره، وفي تطبيقه، ناهيك عن كونه مفتاحاً مهما لفتح باب التحديث تحديث الفكر والتطبيق أو اغلاقه تماماً. المثال الذي نود ان نسوقه، هنا، لتبيان هذه الاشكالية هو اصطلاح "الحكم"، خصوصاً وأنه تعرض، عبر التطور التاريخي لهذه الكلمة في اللغة العربية الى تغيرات دلالية أدت الى تباين واختلاف في مفهومه: بين معناه اللغوي - والقرآني - الاصلي، وبين المستجد المحدث الذي اصبح سائداً في الاستخدام اللغوي العربي في العصر الحديث. جاء في "لسان العرب" لابن منظور، أن "الحَكم" بفتح الحاء لغة: الله تعالى، ومن اسماء الله: الحكم والحكيم، وهما بمعنى الحاكم، فهو فعيل بمعنى فاعل أو هو الذي يحكم الاشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم، والمختار في معنى هذا الاصطلاح قوله سبحانه وتعالى: "كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" هود: 1 وقالت العرب: حكمت واحكمت بمعنى منعت ورددت، والمنع والرد للضبط والتنظيم مادة ح ك م، ج12، ص 140 - 141. فإذا ما اقتربنا اكثر من المفردة ذاتها "حكم" ولكن هذه المرة "بضم الحاء" نجد ان هذا الاصطلاح الحكم، بمعنى تولي وممارسة السلطة السياسية، أي: بمفهومه السياسي الذي شاع في اللغة العربية حديثا، سواء بتأثير الفكر السياسي الاوروبي ومفاهيمه ومصطلحاته، أو عبر التطور الدلالي الذاتي للاصطلاح مع تغييرات الحياة العربية نفسها، نجد انه لم يرد اطلاقاً - بهذا المفهوم او ذلك المعنى - في الاستعمال اللغوي الاصلي لدى العرب في الجاهلية او صدر الاسلام، ولا في المعاجم اللغوية العربية القديمة المعتمدة، ولا في القرآن الكريم أو السنة النبوية. ففي القرآن الكريم، لا يعني اصطلاح "الحُكم" لا "نظام الحكم السياسي" ولا "سياسة امور الناس" بل انه يعني القضاء في الخصومات، كما يعني الرشد والحكمة، وهو ما تشير اليه وتؤكده، جوانب ثلاثة اساسية: أولاً: إن "الحكم" في القرآن الكريم يأتي ليترادف مع "الحكمة" التي هي عبارة عن: "معرفة افضل الاشياء بأفضل العلوم" كما ورد في شرح مادة "حكم" في لسان العرب ج12، ص140 بل ان هذا الترادف بين مفردتي "الحكم" و"الحكمة" في نسق النص القرآني، يبدو بوضوح: إذا لاحظنا، من جهة، أن بعد "الكتاب المنزل" مباشرة وقبل "النبوة" ولاحظنا، من جهة أخرى، أن "الحكمة" عندما ترد بعد "الكتاب" بديلا عن "الحكم" كمرادف ينوب عنه - لا ينص على "النبوة" وكأنها متضمنة فيها = الحكمة. يمكن ملاحظة الجهة الاولى ثلاثية: الكتاب والحكم والنبوة من خلال قوله سبحانه وتعالى: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا من دون الله" آل عمران: 79 وقوله سبحالنه : "اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين" الانعام: 89. كما يمكن ملاحظة الجهة الأخرى عدم النص على "النبوة" عند ورود "الحكمة" لتحل محل "الحكم" بعد "الكتاب". من خلال قوله سبحانه وتعالى: "إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك، إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل" المائدة: 110 وقوله سبحانه: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" الجمعة: 2 لاحظ النسق والتراتب ذاته، في البقرة: 129، 151، 231 آل عمران: 48، 81، 164 النساء: 54 الاحزاب: 34. وفي ما يبدو، هكذا عبر هذه الآيات، فإن المعنى المتضمن في نسق النص القرآني بشأن مفردتي "الحكم" و"الحكمة"، هو ابعد ما يكون عن المعنى - السياسي - الشائع حاليا إذ احتفظت الحكمة - في مجمل المفهوم القرآني - بمعنى: "الاصابة في القول والعمل". وذلك كما في قوله سبحانه "يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا" البقرة: 269 كما احتفظ "الحكم" عندما يترادف مع "الحكمة" - بمعنى "القدرة على تمييز الحق من الباطل" وذلك كما في قوله تعالى "يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا" مريم: 12 وكما في قوله "وكذلك انزلناه حكماً عربياً" الرعد: 37. ثانيا: إن "الحكم" في القرآن الكريم يأتي ليتميز عن كل ما من شأنه أن يشير الى المسألة السياسية. وهو ما يبدو بوضوح إذ لاحظنا هذا التمييز، في نسق النص القرآني في ما بين "الحكم" و"الملك" من جهة، و"الحكم" و"الأمر" من جهة أخرى. من الجهة الأولى فإن القرآن الكريم عندما يشير الى معنى السلطة السياسية، التي كانت لبعض الانبياء وغيرهم من الشخصيات التاريخية، فإنه، وكما يشير محمد جابر الانصاري في كتابه: "التأزم السياسي عند العرب، 1999" لا يستخدم مصطلح "الحكم" وانما يستخدم المصطلح السياسي العربي المتعارف عليه - حينئذ - بشأن سياسة الدول وهو "الملك". ففي قوله سبحانه وتعالى: "فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما" النساء: 54 يبدو تكرار "آتيناهم" تمييزا بين عطاء الملك العظيم وبين عطاء الكتاب والحكمة، وفي قوله سبحانه: "إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم" النمل: 23 قال "تملكهم" ولم يقل "تحكمهم" وفي قوله تعالى: "وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء" البقرة: 251 يبدو التمييز واضحا بين "الملك" و"الحكمة" ومرادفها "الحكم". أما من الجهة الاخرى، فإن القرآن الكريم عندما يشير الى اصحاب السلطة والقرار - السياسي - النافذ في المجتمع الإسلامي لا يستخدم مصطلح "الحكم" وانما يستخدم المصطلح الدال على ما يتضمنه الشأن السياسي من آراء وميول ومصالح، أي: مصطلح "الامر" ففي قوله سبحانه وتعالى: "حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر" ال عمران: 152 اشارة ذات دلالة على أن التنازع، أي: تعارض الآراء وتصادمها يكون في "الامر" لا في "الحكم" لذلك جاء التلازم بين "الشورى" و"الأمر" كما في قوله سبحانه: "وشاروهم في الامر" ال عمران: 159 وكما في قوله تعالى "وأمرهم شورى بينهم" الشورى: 38 وهو ما يوضح أن "الشورى" واردة في "الأمر" - لا "الحكم" - من حيث طبيعته السياسية وتمحوره حول المصلحة العامة. ومن ثم، يمكن ادراك دلالة عدم ورود ذكر ل"حكم" ومشتقاته في قوله سبحانه: "قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون، قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر اليك فانظري ماذا تأمرين" النمل: 32 - 33 اذ تعبر هذه الايات عن "المداولة السياسية" التي دارات بين بلقيس وقومها، ولذا كان استخدام النص القرآني لمصطلح "الامر" الانصاري : ص 165 - 167. ثالثاً: إن "الحكم" في القرآن الكريم يأتي ليتمحور - في اغلب الحالات - حول مسائل الفصل القضائي في ما يتعلق بطرفين او فئتين. وهوما يبدو بوضوح اذا لاحظنا تواتر صيغة "حكم بين" في نسق النص القرآني، أي ورود "الحكم" من خلال صيغة حكم "بين" الناس، وليس حكما ل"الناس". وهي الصيغة التي تبدو في قوله سبحانه وتعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" النساء:58 وفي قوله سبحانه: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين" المائدة: 42 وفي قوله تعالى: "اذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط" ص: 22 وغير ذلك من آيات النص القرآني لاحظ النسق والتراتب ذاته، في المائدة: 48، 49 ص: 26 بل ان مما له اكثر من دلالة، هو ذلك التلازم بين "الحكم" و"القضاء"، الوارد في قوله عز وجل: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" النساء: 65. وهكذا... فإن النقطة المحورية التي تلتقي عندها هذه الجوانب الثلاثة، تشير، بل تؤكد على أن مصطلح "الحكم" وجميع مشتقاته، في القرآن الكريم لا تحمل أي معنى من معاني "الحكم السياسي" الذي شاع في عصرنا الراهن، بل جاء ليتمحور - في اهم معانيه - حول الاصابة في القول والفعل أي القدرة على التمييز في ما بين الصواب والخطأ. بيد أن هذا لا يعني، أن القرآن لا يتضمن مفهوماً ل"الحكم السياسي" ونظاما له، كما ذهب علي عبدالرازق - ومن هم في رأيه - في كتابه: "الاسلام واصول الحكم، 1925". اذ ان القرآن قد استخدم مصطلحا آخر لهذا المفهوم السياسي هو مصطلح "الامر". بهذا. يكون استعمال مصطلح "الحكم" بمعنى "الحكم السياسي" اعتمادا على قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" يمكن أن يؤدي إلى تغيير معاني القرآن الكريم وتبديل لمقاصد الله سبحانه وتعالى من التنزيل، نقول "يمكن" لأن تطبيق القاعدة، اياها، ما زال يتم - في غالب الأحيان - من خلال علاقة "المساواة" الضمنية بين "عموم اللفظ" و"ظاهر اللفظ" وليس من خلال "عموم اللفظ في مجمل نسق النص القرآني". ولعل علاقة "المساواة" هذه، بين عموم اللفظ وظاهره، لن تكون لها من نتيجة سوى ذلك "الالتباس الدلالي" لمفهوم "حكم" بين اصله "اللغوي - القرآني"، وبين معناه "السياسي" الشائع في العصر الحديث. انه ذلك "الالتباس" الذي أدى إلى اشتقاق وشيوع مصطلح "الحاكمية" من "حكم" و"حاكم" ليؤدي إلى "التباس" جدي، أوسع من سابقه في فهم المعنى الدقيق المقصود بهذه الصياغة الاصطلاحية المحدثة حاكمية وفي فهم المصدر الاصلي الذي اشتقت منه. غير ان هذا يحتاج إلى حديث خاص. * كاتب مصري.