ليس من شك بأن القرآن الكريم عربي اللغة والبيان، فقد قال الله سبحانه وتعالى: ]إنّا أنزلناه قرآناً عربياً[ يوسف، 2، ]وكذلك أنزلناه حكماً عربياً[ الرعد، 37. وقد اثار بعض العلماء قضية ذات صلة بعربية القرآن الكريم، فتساءلوا: هل بقيت بعض الألفاظ القرآنية مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة، الحج، الشرك الخ... في حدود مدلولها اللغوي ام انها اصبحت مصطلحات ذات مدلولات خاصة بعد ان اعطاها الشرع معاني اخرى؟ لقد اجاب المعتزلة عن السؤال السابق بأن تلك الألفاظ بقيت في حدود مدلولها اللغوي، وإذا أردنا ان نفهم معناها بشكل دقيق علينا ان نفهم معناها اللغوي لنحدد معناها الشرعي، واستشهدوا على رأيهم بقوله سبحانه وتعالى: ]وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيّنَ لهم[ إبراهيم، 4، فهم يرون ان كل نبي ارسل بلغة قومه ليوضح لهم دينهم، ومقتضى ذلك ان يكون هناك تطابق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للكلمات التي يدعو اليها النبي، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلّم دعا الى الإيمان، والإيمان لغة هو التصديق، ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى على لسان اخوة يوسف عليه السلام لأبيهم تعقيباً على حادث ضياع يوسف عليه السلام: ]وما أنت بمؤمِنٍ لنا[ يوسف، 17، بمعنى "وما انت بمصدّق لنا" فيكون الإيمان هو التصديق في مذهبهم ولا يدخل العمل فيه لأن اللغة لا تقتضي ذلك. ولكن علماء آخرين مثل: الشافعي، وابن حنبل، والباقلاني، وابن تيمية وغيرهم الخ...، خالفوهم وقالوا: صحيح ان القرآن الكريم عربي البيان وأنه استخدم ألفاظاً وكلمات عربية لكنه جعل بعض هذه الألفاظ مصطلحات، بمعنى انه اعطاها معاني اخرى بالإضافة الى معناها اللغوي بحيث اصبح معناها الشرعي مختلفاً اختلافاً كبيراً عن معناها اللغوي، فالإيمان لغة هو التصديق لكن الشرع جعله مصطلحاً فأصبح يعني بالإضافة الى التصديق بالله الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، وأصبح يستلزم عبادة الله وحده، وتعظيم امره، والخضوع لشريعته سبحانه وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وولاء المؤمنين، ومعاداة الكافرين، وخوف نار الله، ورجاء جنته الخ...، اصبح الإيمان يحتوي كل تلك المعاني، فشتّان ما بين الإيمان لغة واصطلاحاً. والصلاة تعني لغة الدعاء والصلة، لكن الشرع جعلها مصطلحاً فأصبحت تعني بالإضافة الى دعاء الله سبحانه وتعالى والصلة به التطهر قبلها بالإغتسال او الوضوء، وأداءها خمس مرات في اليوم في الأوقات المعروفة، وأصبحت تتضمن القيام والركوع والسجود، ويتوجب التوجه فيها الى القبلة عند أدائها، كما يتوجب أن يؤديها المصلّي في مكان طاهر، وأن تكون ثيابه طاهرة الخ... فشتّان إذاً ما بين الصلاة لغة واصطلاحاً. والزكاة تعني لغة النماء والتطهر، ولكن الشرع جعلها مصطلحاً فأصبحت تعني بالإضافة الى النماء والتطهر إخراج المسلم قسماً من امواله بنصاب معيّن عند بلوغ ماله مقداراً معيناً في زمن معين، وأصبحت تعني التصدق بمقدار معين من أنعامه اذا بلغت نصاباً معيناً، فشتّان ما بين الزكاة لغة واصطلاحاً، وقس على ذلك كثيراً من الكلمات التي نقلها الشرع من معناها اللغوي وأصبحت مصطلحات شرعية ذات مدلولات مختلفة، مثل: الكفر، الشرك، الإسلام، الوضوء، التيمّم الخ... وقد نحا بعض الكتّاب المعاصرين كأبي الأعلى المودودي والدكتور محمد شحرور نحو المعتزلة في التعامل مع بعض الكلمات القرآنية، وتوقفوا عند مدلولاتها اللغوية، فسنوضح الكلمات التي درسوا معانيها اللغوية، ونتائج ذلك على كتاباتهم. لقد درس ابو الأعلى المودودي اربعة الفاظ، هي: الإله، الرب، العبادة، الدين، في كتابه المشهور "المصطلحات الأربعة في القرآن" والذي ألّفه في مرحلة مبكرة من حياته عند إنشائه الجماعة الإسلامية قبل قيام باكستان عام 1947م، وقد اعتبر المودودي في كتابه قلّة الذوق العربي السليم ونضوب معين العربية سببين في عدم إدراك المعاصرين معاني تلك الألفاظ ومدلولاتها، لذلك اتجه المودودي الى المعاجم والقواميس لينقل منها معاني تلك الألفاظ فتبيّن له ان المعنى الرئيسي الذي يشتمل عليه لفظ الإله هو السلطة، فالذي لا سلطة له لا يمكن ان يكون إلهاً، ولا ينبغي ان يتخذ إلهاً، وأما من يملك السلطة فهو الذي يجوز ان يكون إلهاً، وهو وحده ينبغي ان يتخذ إلهاً. وأما لفظ الرب فأوضح المودودي ان القرآن الكريم جعل الربوبية مترادفة مع الحاكمية والملكية، وأما لفظ العبادة فذكر المودودي له ثلاثة معان، هي: العبدية، والإطاعة، والتأليه. اما الدين فيستخلص المودودي له اربعة معان اساسية، منها: القهر والغلبة من ذي سلطة عليها، والإطاعة والتبعية والعبودية، من قبل خاضع لذي السلطة. فماذا كانت نتيجة اعتماد المنهج اللغوي في فهم الألفاظ عند المودودي؟ كانت النتيجة إبراز صفات معينة من صفات الله، هي صفة الحكم والغلبة والقهر والسلطة، وإغفال صفات اخرى كثيرة، منها: الود، الرحمة، الكرم، الرأفة، العلم، الخبرة، الحكمة الخ...، وترتبت نتيجة اخرى هي ان المودودي جعل العلاقة بين المسلم والله علاقة طاعة من المسلم وحكم من الله سبحانه وتعالى، وليس من شك بأن علاقة المسلم بربه علاقة طاعة وحكم، لكن هذا جانب واحد من جوانب علاقة العبد بالرب، وهي اوسع من ذلك، فهي ايضاً علاقة حب، ورجاء، وتعظيم، وإنابة، ورهبة، وثقة، وتوكل، وأنس، وودّ الخ... اما الدكتور محمد شحرور فقد تناول في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة" ألفاظاً متعددة اكثر مما تناوله المودودي، منها: الكتاب، القرآن، الرسول، النبي، الرب، الإله، الشيطان، الصور، الذكر، الفرقان، الساعة، الزمن، الدائم، الوقت، الباقي الخ... واعتمد اللغة في استنباط معاني كل الألفاظ التي تعرض لها، ولم يفرق في دراسته لتلك الألفاظ بين اللفظ المصطلح الذي أعطاه الشرع معنى محدداً واللفظ العادي الذي يمكن ان يستقرئ معناه من معاجم اللغة، فمثلاً: الرب، والإله، والرسول، والنبي، والكتاب، والقرآن الخ... هي مصطلحات اعطاها الشرع معنى معيناً، فيجب ان يأخذه ويقف عنده ثم يبني عليه، أما الألفاظ الأخرى مثل: الزمن، الدائم، الباقي، الوقت الخ... فيمكن ان يستقرئ معناها من معاجم اللغة ثم يبني على ما يصل اليه، إن عدم اخذه بالحقيقة السابقة التي هي حق لكل مذهب ودين في ان يصطنع ألفاظاً معينة ويعطيها المعاني الخاصة التي تكون مفتاحاً لفهم فضائه الفكري، جعله يبتعد عن معالجة بعض القضايا المعالجة الصائبة التي تستحقها، ويخطئ في بعض الأفكار التي اطلقها في مجال العلاقة بين الله والناس، وفي مجال تأثير الشيطان في الناس، وفي مجال صورة العلاقة بكتاب الله، وفي مجال تصور اليوم الآخر الخ... الخلاصة: لا شك ان من حق كل مذهب ودين ان يتخذ مصطلحات خاصة به تكون مدخلاً لفهمه وإدراك معطياته الفكرية، ولم يشذ الإسلام عن هذه القاعدة، لكننا نجد ان المعتزلة قديماً وبعض الكتّاب حديثاً لم يراعوا هذه القاعدة، بل اتخذوا منهجاً مغايراً يقوم على اعتماد اللغة وحدها في فهم الكلمات القرآنية، وقد طبق ابو الأعلى المودودي هذا المنهج على اربع كلمات فقط في حين ان الدكتور شحرور طبقه على كل الكلمات القرآنية مما أدى الى الابتعاد عن الصواب في بعض التصورات والأحكام. * كاتب فلسطيني.