لم أعرف أي طائر كان ينادي... ولكنني سمعت النداء، فتتبعت الأثر. كان الغروب يتدرج في الأفق، ويسحب بأذياله الضوء الخريفي الشاحب، ليترك السماء تموج بزرقة داكنة وسكون مريب مشوب بالوحشة. اقتربتُ من الصوت فصمتَ لدى اقترابي. وبقيت واقفة أصغي وأتطلع من الشباك الى الأفق المشتبك بألوانه المتغيرة. كان في الطبيعة أصوات أخرى تهمس بلطف وتتواصل فيما بينها بحركة خفيّة رشيقة الوقع، تتطاير مثل زغب العصافير، وتملأ المكان دون ضجيج. كان موعدنا اليوم، وكنتُ في انتظار أن يحلّ المساء لنلتقي، فيمتلىء به المكان، وتختفي بحضوره كل الموجودات الأخرى. كان موعدنا مساء الأربعاء قبل أن يصدح الطائر ثم يصمت. ترى هل بقي على الأرض، غيرُنا، يستنطق الطبيعة لاستكناه ما سيأتي به الغد، وهل استنطاقها دليل عودتنا الى البداوة الأولى، يوم كان الطائر مرجعاً يستدلُ به الى ما سيأتي من خيرٍ أو شر! كان الهواء، مساء الأربعاء، مشبعاً برائحة الماء، والغيوم المتقطعة تتسابق لإخفاء وجه القمر الذي استدار واكتمل. ولكن المطر كان ما يزال عصيّاً، لم يجُد علينا بقطرة واحدة، ومع ذلك كان الجو مُلطّفاً بالماء، يصافح وجهي بكفٍّ حريرية تشبه نداء الطائر، فيستكين وجهي المتيبّس لملمسه الناعم. لا أعرف كم مضى عليّ من الوقت، ولكنني بدأت أدرك أن أمامي انتظاراً طويلاً، سيطول. توقف نداء الطائر، انقطع صوته، ولم أعد أسمع حتى رفيف جناحيه. عندما كنا صغاراً كان الصبية منّا يتلذذون بصيد الطيور، وكانوا يصوبون نحوها بأية وسيلة يجدونها بين أيديهم، وكانت الحجارة التي تقذف من المصيدة ذات الخيط المطاط أشدها رواجاً، وأرخصها ثمناً. وكانوا يتبارون فيما بينهم: أيّهم يحصد أكثر، وأيّهم في الرماية أمهر. وكنت أشعر بأسى شديد وأنا أرى الطائر يسقط، فيتساقط عشّه معه، وتنكسر البيضات، أو تترامى الأفراخ التي لا قدرة لها بعدُ على حمل نفسها. كنت أرتعش حزناً لمرأى البيت الذي انتثر، وللصغار الذين تشتتوا بلا مُعيل. وكان الصبية يسخرون من مشاعري ويتهمونني بالغباء، لأن الطيور، كما يقولون لي، مخلوقات لا تشعر! ويسخرون مني لأنني، حسب قولهم، جبانة أخشى رؤية الدم، وأنا كنت لا أرى في هذه المخلوقات إلا صورة من صور الإنسان، وإنسان قريب مني، وقد أكون أنا! هكذا، منذ تلك السنوات المبكرة، كنا ننقسم الى فريقين: أبناء وبنات، قسوة وحنو، انتصار وانكسار. كان علي أن أوجد لنفسي عالماً آخر ألوذ اليه بعيداً عنهم. ووجدت في الطبيعة رفقة آمنة، فألفت أصواتها، وتعرفت الى كائناتها الصغيرة، والمتناهية في الصغر أحياناً، كنت أرقبها من كثب، وأرى في حركتها الدائبة وتغلبها على الصعاب ما يبعث فيَّ الاستغراب والتساؤل عن سبب إصرارها على البقاء، وجدوى صراعها من أجله. فتزداد قدرتي على مواجهة ما رأيت، وأرى، من أشكال العذاب الذي يمارس أمامي بصوره المختلفة. وألِفتُ غناء الطائر، فأخذت عنه عادة الغناء. بدأت أخرج كل يوم الى البستان، وأسير على حافة السواقي، وأردد أغنيات حبٍ لم أكن أدرك حقيقتها، ولكنني كنت أشعر بجمالها الأخاذ. وكنت ألمس التوافق بيني وبين ما حولي من عناصر الطبيعة، فكنا نغني معاً: جدولاً وطائراً وسعف نخيل. وكنت أمضي ساعات في صحبة ذلك العالم البرّي، لا أعود الى الدار إلا بعد أن يخفت الضوء، وتسلّم الشمسُ، كما كانوا يقولون في لحظة انحدارها للمغيب، أي تموت كما الروح تسلّم لبارئها، وتذهب للقائه. وفي لحظات التسليم تلك تضجّ الطيور ضجيجاً يُنمُّ عن ارتباكها ورعبها من انحدار الضوء، فتسرع للعودة بحسب طقوسها المعتادة. حينئذ، فقط، تتوقف عن الغناء وتصمت. ولماذا صمت هذا الطائر ألأن الشمس مالت الى الغروب، أم لأنه سمع وقع خطواتي ففزع؟ مهما يكن فقد ذكّرني نداؤه بالغناء الذي اختفى منذ سنوات طويلة، وانقطع منذ تلك الليلة المرعبة، عندما داهم دارنا حفنة من الرجال المقنّعين بأقنعة سود والمسلحين بفؤوس تقطر دماً. قالوا لقد سمعنا صوت غناء شجيٍّ يتسرب من الأبواب والشبابيك المغلقة، فجئنا نستطلع! ودارت عيونهم تبحث في أركان الغرفة، بعد أن توقف سيل الغناء لدى اقتحامهم، وصمتنا جميعاً. لم يقدموا على مسِّ أي من الحاضرين، ولكنهم ظلّوا يلوّحون بالفؤوس ويطلقون ضحكات مفتعلة متواصلة، تكاد تقترب من الصراخ الهستيري، فما عرفنا ان كانت هذه تحيّة أم كانت تهديداً. ولأنني كنت الأعلى صوتاً - هكذا أخبروني فيما بعد - فقد وجدوني متلبسة بالجرم المشهود. فأقبلوا نحوي، وعلّقوني على عصا خشبية غليظة، مرروها بثيابي، ثم حملوني كما تحمل النعجة لتوضع فوق نار الشواء، ومضوا بي الى جهة مجهولة. كانوا يسيرون على أقدامهم يتطلعون نحوي ويضحكون. أشار أحدهم بفأسه: "انها ترتعش... جبانة... جبانة... أين غناؤك؟"، اقتحم صوته الحاد أذني ليستثير في ذاكرتي لهو الصبيان في تلك السنوات البعيدة. أتراهم الصبية قد كبروا، فكبر معهم اللعب، وصار صيد البشر بديلاً عن صيد العصافير! كان سيرهم أسرع من خواطري، وكنا قد وصلنا لا أدري الى أين، ولكنهم أنزلوني من المحمل، وأمروني أن أقف وأسند ظهري الى الجدار. ثم تقدم نحوي رجل من المقنّعين وقرّب فأسه من وجهي وأمرني، بإشارة قاطعة، أن أفتتح فمي. وحين فتحتُ فمي أمرني أن أخرج لساني، فأطعت. فرفع بوجهي علبة معدنية ورشّ فمي بماء لزج، أحسست من جرّائه أن أنفاسي انقطعت، وأصبت بدوار شديد فلم أعد أبصر ما أمامي. لم أدرك كم مضى عليّ من زمن، ولكنني حين استعدت إحساسي شعرت بألم ممضٍّ في بلعومي، حاولت أن أتنحنح، فلم أسمع أي صوت يصدر مني. أردت أن أنادي، فلم يخرج صوتي، كأنّ فراغاً أو تجويفاً قد حلّ محل أوتاري الصوتية. صرخت، فكنت كالنائم الذي يداهمه كابوس ثقيل، وحين يحاول أن يركض يجد أنه عاجز عن تحريك ساقيه، فيصرخ وإذا بصوته محشور في فمه، وكلما يحاول أن ينهض، يدرك عجزه، فيستسلم كالفريسة، ساكناً، لا قدرة له على المقاومة أو الاعتراض. كان الرجال قد غادروا ولم يبق معي غير حارس واحد من المقنّعين. وعندما رآني أتحرك وأتلمس عنقي قال بصوت شبه مخنوق: أنت الآن حرّة، لقد أخرجنا الطائر من حنجرتك، فأرحناك وارتحنا، الطيور شرور. وأشار إليَّ بفأسه نحو الباب الكبير، فخرجت. ومنذ ذلك الحين ظلّ الغناء حبيسَ أعماقي، لا صدى يردّده إلا ضربات القلب. مرّت لحظات الغروب سريعة، وامتلأت السماء بالعتمة. بقيَ الفضاء فارغاً، مهولاً في فراغه، وبدا كل ما وراءه غامضاً ومريباً. وبعد أن انقطع غناء الطائر في الخارج، ساد سكون شامل في الكون، فبدت الحياة معطّلة، بل معدومة، وتساءلت ان كانت هذه نهاية العالم أم أنها لحظة تكوين أخرى... بداية ثانية لعالم جديد؟ ترى ان كانت كذلك حقاً، فكيف سيكون شكل العالم من بعدها؟ أغلقت شباكي، وجلست في الركن الذي اعتدت أن أستريح فيه، وأنتظر فيه، وأترسم خطاك منه. كان رأسي خالٍياً من كل شيء، لم يكن عندي غير يقين واحد: لا أحد سيأتي الآن، وحينئذ فقط أدركت مغزى رسالة الطائر الذي توقف عن الغناء. * كاتبة عراقية مقيمة في البحرين.