قضت المحكمة الدولية الخاصة بالخمير الحمر في الجاني الكمبودي كانغ غيك إيف، المدعو دوش، بالحبس 35 عاماً. وكان دوش المسؤول عن المعتقل إس 21، حيث مات 12380 معتقلاً بعد تعذيبهم. وقصمت كمبوديا الديموقراطية (الشيوعية)، وعلى رأسها بول بوت، حياة الضحايا المباشرين، والذين بقوا على قيد الحياة بعد انهيارها. فهل ينزل الحكم الصادر عن قضاة كمبوديين ودوليين بعض السلام والطمأنينة على قلوب الضحايا؟ وكتب القاضي انطوان غارابون، جواباً عن السؤال: «تخييب الضحايا أمر خطير ولكن تلبية انتظارهم يفوق قوة البشر». وتطمح العدالة الدولية، بكمبوديا وغيرها، الى مصالحة الضحايا والجلادين. ويحجز القاضي، في اثناء المحاكمة، بين الجهتين والطرفين. ويتولى كلام الشهود، تحت قوس المحكمة، كسر الصمت الذي يلي الجريمة. ويدل رسم خريطة العدالة الدولية على نظام قضائي عالمي في طور الإنشاء، ولا يزال معلقاً وغير متوازن. ومنذ محاكمات نورمبرغ وطوكيو، غداة الحرب العالمية الثانية، نشأ عدد كبير من الهيئات القضائية أوكل اليها تعقب كبار المسؤولين عن الجرائم التي ذهب ضحيتها عدد كبير من الناس. فأنشأت الأممالمتحدة محاكم نظرت في قضايا رواندا ويوغسلافيا السابقة. والمحاكم الخاصة تخلط القضاة الوطنيين بقضاة دوليين، على شاكلة المحكمة الخاصة بالبوسنة - الهرسك، وكوسوفو. وفي وسع المحكمة الجنائية الدولية، الناشئة بموجب معاهدة 1998، تعقب رعايا 111 دولة وقعت المعاهدة الى اليوم، أو ملاحقة مرتكبي جرائم مقيمين بأراضي هذه الدول. والمحكمة الجنائية الدولية تمسك عن التدخل ما لم ترفض الدول ملاحقة المجرمين المفترضين أو لم تعجز عن الملاحقة. وبعض الدول منحت قضاءها اختصاصاً كونياً يتيح له محاكمة مرتكبي الجرائم من غير اعتبار الحدود الوطنية. وعلى هذا، وسع القضاء الإسباني ملاحقة الديكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه. ولكن نهاية الإفلات من العقاب الذي وعدت بها الجمعيات غير الحكومية في مراحل انشاء العدالة الدولية المفصلية، لم تبلغ ولم تصر واقعاً. والمسؤولون عن ارتكاب جرائم في بلاد الشيشان وسريلانكا وجنوب لبنان وغزة والعراق لا يزالون أحراراً وطلقاء. والتفاوت في المعاملة صارخ. وتندد الجمعيات غير الحكومية بعدالة تكيل بمكيالين، وتغضي عن جورج بوش الابن وطوني بلير وارييل شارون وآخرين. ولا يستوي معسكر الجلادين المنتشرين في أنحاء الكوكب ومعسكر الضحايا على قدم المساواة في ميزان العدالة الدولية. وحيث أنشئت محاكم دولية، في الكونغو - كينشاسا وأوغندا وكوسوفو ورواندا، أغضت هذه عن بعض الضالعين في المجازر. ولقاء الكومبودي المدان، دوش، ثمة آخرون يروحون ويجيئون في أروقة الحكم الكمبودي الى اليوم. والمحكمة التي أنشئت للنظر في الإبادة برواندا لاحقت مرتكبي الإبادة عن قوم الهوتو في حق التوتسي وبعض الهوتو، ولكنها كفت عن ملاحقة جنود النظام الرواندي الحاكم. والمحكمة لأجل يوغوسلافيا السابقة أدرجت في باب «الأضرار الجانبية» جرائم الحرب التي ارتكبت ابان قصف حلف «الأطلسي» صربيا في 1999. وهل من الجائز ترك القضاة يبتون في قضايا يترتب عليها انتظام العالم؟ والحق أن العدالة الدولية تحت مراقبة الدول، على ما ينبغي ويفترض. ولكنها، والحال هذه، غير مستقلة عن مطامح الدول. والدول تمول الهيئات القضائية المتفرقة، وتعرف وكالاتها في ضوء سياساتها وغاياتها. ولم تستجب الأممالمتحدة، على رغم مناشدة المدعين العامين، انشاء شرطة (بوليس) دولية. فالمحاكم الدولية عالة على الدول وتعاونها فيما يعود الى التحقيق والى توقيف المظنونين. ويعول تعقب الهاربين والمتوارين على الوقت. وتغير الأوقات يجر معه تبدل الديبلوماسيين، وتطور موازين القوى، وتعب الهاربين واعياءهم. فرئيس ليبيريا السابق، تشارلز تايلور، وهو حوكم بارتكاب جرائم في حق الانسانية، دين بينما كان يقصد غانا للاسهام في مفاوضات سلام. وفي أعقاب ثلاثة أعوام قضاها منفياً بنيجيريا، أوقف واعتقل في 2006، فطويت صفحة زعيم الحرب السابق. وأتاحت العدالة الدولية اخراج بعض «الخصوم السياسيين» من مسرح السياسة على نحو قانوني شكلاً. فإدانة زعيم الحرب الصربي والبوسني السابق، رادوفان كاراجيتش مهد أمام المفاوضين طريق شطبه من مفاوضات السلام. وتحظر الأممالمتحدة على الوسطاء الوعد بالعفو لقاء توقيع على اتفاق سلام. والعدالة والسلام لا يمشيان يدا ًبيد على الدوام. فإدانة المحكمة الجنائية الدولية جوزيف كوني، أحد قادة جيش الرب بأوغندا عرقلت مفاوضات كانت كمبالا تولتها. ومذكرة توقيفه، في 2005، حملته على الجلوس الى طاولة المفاوضات، والمساومة على العفو عنه. ولما لم يعف عنه، هرب الى جمهورية الكونغو الديموقراطية ثم الى وسط افريقيا، يحفه موكبه الدامي. وقد لا يكون القضاء الدولي رادعاً، الا انه دعا مجرمي الحرب الى التستر على جرائمهم. فبعد أسابيع على مجزرة سريبرينتشا في تموز (يوليو) 1995، نبشت القوات الصربية المقابر الجماعية ونقلت بقايا القتلى الى مدافن أخرى. * صحافية، عن «لوموند» الفرنسية، 27/8/2010، إعداد وضاح شرارة