في عرضه لكتاب "الاعتبار" للمؤرخ اسامة بن منقذ الحياة/ صفحة تراث 9/10/1999 ينحو محمد نورالدين أفاية، منحى تفخيم ماهو فخم أصلاً في رواية بن منقذ لسيرته الذاتية ومواقفه ورؤيته للأحداث، فيشير الى ايمانه المتشبع بالقيم الكبرى للاسلام وبأطره المعيارية الجوهرية في الوجود والسلوك والعلاقات. وكذلك الى نزوعه الارادي البارز في الشجاعة والاقدام والحرب، فهو كما يقول: "رجل انتزع لقب الفارس بسبب شجاعته وخوضه لحروب لا حصر لها ضد الاتراك والاعراب والافرنج … وعاش المراحل الاولى لاستنهاض فكرة الجهاد مع عماد الدين زنكي وابنه نورالدين وعاصر التتويج الحاسم لهذه الفكرة مع طرد الصليبيين من القدس على يد صلاح الدين… الخ". ويعيد أفاية هذه الصفات الايمانية والفروسية لدى بن منقذ الى العامل التربوي، وتحديداً الى التأثير الذي تركه والده عليه وعلى نشأته الاسلامية وشجاعته "فهو سليل أسرة أمراء عربية النسب ومسلمة، ولكنه تأثر ايما تأثر باخلاقيات ابيه وورعه وشجاعته". وكما هو واضح فان مصدر هذا الاستنتاج، الذي يخلص اليه أفاية يعود الى ان بن منقذ نفسه يتحدث في كتابه "الاعتبار" مراراً وبكثير من التقدير والاحترام عن ابيه "الشغوف بالصيد" الذي ليس له شغل سوى الحرب وجهاد الافرنج ونسخ كتاب الله عزّ وجل". لا ملاحظة على هذا كله ذلك ان بن منقذ يستحق الاطراء في مختلف اوجه نشاطاته الابداعية والفكرية، الا ان الملاحظة الأساسية تنصب على المبالغة في اطراء نشاطه السياسي وتحديداً موقفه من الافرنجي. فالاستاذ أفاية اذ يعيد هذا الموقف ايضاً الى المناخ الأبوي الغالب على البيئة العامة التي تكوّن فيها أسامة، والذي ترك آثاراً عميقة على موقفه من العالم والحياة والاخلاق العامة، يرى ان وعي اسامة بالآخر الافرنجي استند الى نموذج معياري قوي يتمثل ببعض تجلياته في النمط التصوري والسلوكي للأب، ثم يربط أفاية هذا الوعي بمصدر آخر يسميه المرجعية القرآنية واخلاقيات الصحابة، فهو في حكمه على صدقية الناس في القتال يعتبر ان من الناس من يقاتل كما كان الصحابة يقاتلون للجنة لا لرغبة ولا لسمعة … وهي عبرة استمدها من ابيه. ولهذا يرى أفاية ان هذه النظرة الشمولية التي اقتبسها اسامة عن ابيه ستوجه، الى حد ما، تصوره للآخر الافرنجي فليس الدين هو أفق الرؤية الوحيد للحكم لأن القيمة تتجاوز الانتماء العقدي او الثقافي او العرقي والجودة يمكن العثور عليها في كل الاديان والثقافات والأجناس. هنا يجب التوقف لمعاينة اطراء أفاية لموقف بن منقذ ورؤيته للآخر، وكذلك لمعاينة حقيقة هذا الموقف وطبيعته الفلسفية من جانب بن منقذ نفسه. فالاستاذ أفاية يريد ان يصور موقف بن منقذ هذا باعتباره خلاصة لفكرة فلسفية مستمدة من المناخ الأبوي الغالب على البيئة العامة في النمط التصوري والسلوكي للأب، من جهة، ومن المرجعية القرآنية واخلاقيات الصحابة من جهة ثانية. ولهذا كان بن منقذ كما يقول "مسلماً يحمل نظرة كلية الى الانسان مهما كان اختلافه". وانطلاقا" من هذه النظرة الكلية لا يجد بن منذ حرجاً في التعامل مع الافرنج وذلك "لفض نزاعات كثيرة ولتسوية خلافات لا حصر لها، حتى اصبح وسيطاً نافذاً بين المسلمين والافرنج". ويخلص من هذا الى القول "انه رغم الاحكام السلبية التي يطلقها بن منقذ عليهم الافرنج فان جدلية الصراع والتساكن فرضت عليه التعامل معهم … وتحولت بعض علاقاته مع الافرنج الى صداقة. سننطلق من عبارتي الصراع والتساكن وكذلك من التعميمات غير الدقيقة التي يسوقها أفاية لتبرير تعامل بن منقذ مع الصليبيين، كي نرى الى طبيعة هذا التعامل وأبعاده السياسية وما اذا كان هكذا حقاً وكما يصوره لنا أفاية. بداية لا بد من القول ان تعامل بن منقذ مع الافرنج وعلاقاته مع بعض قادتهم وتساكنه معهم في القدس التي احتلوها واستباحوا مقدساتها وطردوا اهلها، لم يكن يدخل، حينها، في نطاق الصراع بين المسلمين والافرنج ولا علاقة له بافكار الجهاد والتحرير وما شابه، بل كان يدخل ضمن نطاق صراع الدويلات الاسلامية بين بعضها بعضاً. وفي ظل نزاع حكام وامراء لا يحركهم سوى التسلط وروح الاستئثار بالحكم والطموح الشخصي، وهذا ينفي، بداية، مسحة التبرير او الشرعية التي يراد اضفاؤها على علاقة بن منقذ مع الافرنج المحتلين، فهي علاقة أملاها صراع حاكم دمشق معين الدين بن أُنر، الذي كان اسامة صديقه ومبعوثه الى القدس، مع حاكم حلب عماد الدين زنكي، الذي كان يقود حملة التوحيد ويرفع راية الجهاد والتحرير. اما في شأن علاقة اسامة مع الافرنج فهي تعود الى وقت مبكر من الاحتكاك الذي حصل بين أُنر وزنكي، فكما هو معروف زار بن منقذ القدسالمحتلة اكثر من مرة كانت الاولى عام 1138م بتكليف من صديقه أُنر لدراسة امكان عقد معاهدة تعاون مع الافرنج تحسباً للمخاطر التي كان حاكم دمشق يتوقع التعرض لها من جانب زنكي. وتمكن بن منقذ، في هذه الزيارة، من الحصول على وعود أولية مشروطة من ملك القدس وافق عليها أُنر بعد تردد. فقام بن منقذ بزيارته الثانية عام 1140 وهو يحمل عرضاً لمعاهدة مذلة تقترح على ملك القدس ان يتولى جيشه الافرنجي حماية دمشق من هجوم زنكي المتوقع مقابل دفع نفقات سخية لهذه العملية مضافاً اليها وعوداً بشن حملة عسكرية مشتركة لاحتلال قلعة بانياس التي كان يحكمها احد اتباع زنكي وتسليمها الى ملك القدس، وكذلك الاتحاد في جيش واحد اسلامي - افرنجي لمواجهة اية مخاطر تتهدد احدهما من جانب زنكي او غيره من قادة الدويلات الاسلامية. ولكي يثبت أُنر وصديقه بن المنقذ، حسن نيتهما للافرنج اصطحب اسامة مجموعة من الرهائن، اختارهم من عائلات وجهاء المدينة، وسلمها لملك القدس، وهكذا عاشت العاصمة الشامية طوال سنوات تحت الحملة الافرنجية التي نتجت عن تحالف أُنر مع ملك القدس. وكان مهندس هذا التحالف هو اسامة، الذي استطاع ان يبني علاقات وثيقة مع بعض قادة الجيش الافرنجي وخصوصاً قادة فرسان الهيكل المتطرفين، الذين كانوا يدافعون عنه عندما يهاجمه جنودهم وهو يصلي في المسجد. وأخيراً زار بن منقذ القدس بصحبة أُنر وكانت المناسبة مخزية، اذ جرى خلالها الاحتفال بتسليم أُنر قلعة بانياس التي كان يحكمها مسلم، الى ملك القدس الافرنجي، وفاءً بعهده له وبعد ان شن على القلعة هجوماً ذبح خلاله المئات من المسلمين. تلك هي ابرز "منجزات" اسامة بن منقذ على صعيد الصراع بين المسلمين والافرنج اما على صعيد علاقاته مع هؤلاء المحتلين فأقل ما يقال فيها انها كانت نوعاً من التدليس والتخادم مع السلطان وأهوائه ونزعاته السلطوية، ذلك ان "اصدقاء" بن منقذ هؤلاء كانوا، حتى عقود قريبة من ذلك التاريخ، استباحوا، بكل وحشية، اعراض المسلمين ونهبوا املاكهم وحرقوا بيوتهم ومساجدهم فمن اين جاء بن منقذ بفكرة الصداقة مع هؤلاء؟ ان سيرة بن منقذ، او ما يمكن تسميته بالفصل الناقص من هذه السيرة، ونعني هنا علاقته مع الافرنج ودوره في ابرام المعاهدات معهم، كما اسلفنا، انما يكشف من دون لبس عن انغماسه في اللعبة السياسية التي كانت سائدة في تلك الحقبة المظلمة من التاريخ العربي الاسلامي، كما يكشف عن نزوعه البراغماتي غير المحدود للعب دور المثقف المتخادم مع السلطة والطموح الى اعتلاء كرسيها وهو ما تؤكده، لا نشاطاته كوسيط بين حاكم دمشق المسلم وملك القدس الافرنجي فقط، بل وكذلك الكثير من الروايات التي تتحدث عن اشتراكه في الدسائس والمؤامرات التي كانت تحاك في كواليس الدويلات الاسلامية المتصارعة. فهو متهم من قبل الشيعة مثلاً، بتدبير مقتل خليفة فاطمي ومتهم بمحاولة قتل عمه سلطان بن منقذ حاكم امارة شيزر الصغيرة، كما هو متهم بالتآمر على صديقه معين الدين أُنر. وهكذا يتضح ان أطراء الاستاذ أفاية لنشاط بن منقذ السياسي وعلاقته بالافرنج انما يقوم على أساس "شهادة" بن منقذ عن نفسه من خلال كتاب "الاعتبار" وحده وهو الامر الذي يوقعه في الكثير من التناقضات، فهو من جهة يحاول اضفاء نوع من الشرعية الاسلامية على علاقة اسامة بالافرنج من خلال اعتبار تلك العلاقة ناتجة عن فكرة فلسفية تستند الى المرجعية القرآنية واخلاقيات الصحابة، ومن جهة اخرى يعيدها الى وعي اسامة الشمولي المتجاوز للرؤية وحيدة الجانب. وفي واقع الحال يمكن التحفظ على الفكرتين معاً. فالقول بشرعية علاقة بن منقذ مع الصليبيين يناقض جوهر فكرة الجهاد وتحرير القدس، التي كانت مقياس الايمانية الاسلامية في تلك الحقبة من التاريخ العربي الاسلامي، خصوصاً وان تلك العلاقة كانت تقوم على مصلحية فردية يمثلها طموح صاحب دمشق معين الدين أُنر في الحفاظ على امارته في مواجهة صاحب حلب عماد الدين زنكي، الذي هو وليس أُنر، من يرفع لواء الجهاد والتحرير. ثم ان دعوة الاسلام الى احترام الآخر لا تعني اطلاقاً احترام المحتل الذي استباح ديار المسلمين وانتهك اعراضهم، فكيف اذا كان الأمر يتعدى الاحترام الى التخادم والتواطؤ مع هذا المحتل وعلى حساب الدولة الاسلامية نفسها؟ اما فكرة الوعي الشمولي المتجاوز فهي فكرة ينقضها بن منقذ نفسه في سخريته وتهكمه على الافرنج الذين لا يرد ذكرهم في كتابه من دون ان تتبعه شتيمة او لعنة؟ اخيراً ماذا لو كان اسامة بن منقذ يعيش اليوم بين ظهرانينا فهل سنجد له الذرائع اذا ما صار صديقاً لحراس الهيكل الصهيوني؟ * كاتب عراقي مقيم في دمشق.