أمير القصيم يرعى انطلاقة ملتقى القطاع التعاوني    الطائف تودع الزمزمي أقدم تاجر لأدوات الخياطة    مستقبل السعودية.. جذور متأصلة ورؤية متمكنة    الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز..سيرة عطرة ومسيرة ملهمة    الأمير سعود بن مشعل يدشن الهوية الجديدة لموسم جدة    هجوم استيطاني غير مسبوق على أغوار فلسطين    «بوريس جونسون»: محمد بن سلمان قائد شجاع    القيادة تهنئ الرئيس النيبالي    فيصل بن نواف يتسلم تقرير أحوال الجوف    محافظ الطائف يطَّلع على برامج يوم التأسيس    هنا في بلادي.. نحتفل بالإنجاز    الذهب يستقر عند مستويات مرتفعة وسط التهديدات الجمركية الأميركية    وزير الخارجية يصل جوهانسبرغ للمشاركة في اجتماعات G20    أستون فيلا يعيد ليفربول لنزيف النقاط ويقدم خدمة لآرسنال    ميزانية الإنفاق ونمو الإيرادات    المحادثات الروسية - الأميركية دور ريادي سعودي في دعم الاستقرار العالمي    نائب أمير الرياض يطلع على جهود الموارد البشرية.. ويرعى حفل زواج «كفيف»    د. عادل عزّت يشكر المعزّين في وفاة والده    المملكة تبحث سبل دعم العمل الإنساني في طاجيكستان    "الداخلية" تنظم ندوة يوم التأسيس    قاعة تركي السديري: إرث إعلامي يحتضن المستقبل في المنتدى السعودي للإعلام    توظيف التقنية للحفاظ على الحرف التراثية    تنفيذ "برنامج خادم الحرمين لتفطير الصائمين" في 61 دولة    علاقة الحلم بالاستدعاء الذهني    أهمية إنهاء القطيعة الأمريكية الروسية !    التمويل السكني للأفراد يتراجع الى 2.5 مليار ريال    توحيد السجل التجاري للمنشآت    منح 30 شركة رخصا لمحاجر مواد البناء    سكري القصيم.. حلاك غطى آسيا    الاتفاق يواجه دهوك العراقي في نصف النهائي لدوري أبطال الخليج للأندية    نادي فنون جازان يحتفي بالمشاركين في معرضي "إرث" و" في حياة الممارسين الصحيين"    قلم أخضر    جمعية«اتزان» تعقد اجتماعاً تحضيرياً لفعاليات يوم التأسيس بجازان    الهيئة العالمية للتبادل المعرفي تكرم رواد التربية والتعليم    ليب 2025 وصناعة المستقبل الصحي !    إطلاق النقل الترددي في المدينة    العالم يضبط إيقاعه على توقيت.. الدرعية    «التخصصي» ينقذ ساقاً من البتر بعد استئصال ورم خبيث    محافظ الطائف يطَّلع على برامج وأنشطة يوم التأسيس بالمدارس    استدامة العطاء بصندوق إحسان    اكتمال وصول المنتخبات المشاركة في كأس الخليج للقدامي    أمير المدينة يلتقي أهالي محافظة وادي الفرع ومديري الإدارات الحكومية    على نفقة الملك.. تفطير أكثر من مليون صائم في 61 دولة    نيابة عن أمير منطقة الرياض.. نائب أمير المنطقة يرعى حفل الزواج الجماعي لجمعية "كفيف"    الأمير عبدالعزيز بن سعود يعقد جلسة مباحثات رسمية مع وزير الداخلية الأردني    بوتين: سأتصل بولي العهد لأشكره شخصيا لدور السعودية في المحادثات    محافظ صامطة يدشن الحملة الوطنية المحدودة للتطعيم ضد شلل الأطفال    مؤتمر بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية في مكة المكرمة    ما أسهل «الوصل».. وما أصعب «الهلال»    هطول أمطار رعدية وجريان السيول على عدة مناطق    بتوجيه من سمو ولي العهد.. استضافة محادثات بين روسيا وأمريكا.. مملكة الأمن والسلام العالمي    نقل تحيات القيادة الرشيدة للمشاركين في المؤتمر العالمي لسلامة الطرق.. وزير الداخلية: السعودية حريصة على تحسين السلامة المرورية بتدابير متقدمة    القمة العربية الطارئة 4 مارس المقبل.. السيسي يبحث خطة إعمار غزة    أمير الرياض يتسلم تقرير جامعة المجمعة.. ويُعزي السليم    سعود بن خالد الفيصل كفاءة القيادة وقامة الاخلاق    طبية الملك سعود تختتم «المؤتمر الدولي السابع للأورام»    محافظ محايل يتفقد مشروع مستشفى الحياة الوطني بالمحافظة    ما أشد أنواع الألم البشري قسوة ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بشارة الخوري ورياض الصلح عشية الاستقلال : أضواء على الميثاق الوطني اللبناني
نشر في الحياة يوم 20 - 11 - 1999

ما الذي أدى الى انتخاب بشارة الخوري رئيساً للبنان في 21 أيلول سبتمبر 1943، ثم تعيين رياض الصلح رئيساً للحكومة بعد ثلاثة أيام، الحدثين اللذين حددا صيغة لبنان المستقل؟
ما الذي قادهما الى الاجتماع في 19 أيلول وإلى التفاهم الشفهي بينهما الذي سمي لاحقاً الميثاق الوطني؟
هذا ما شغل المؤرخين والرأي العام في لبنان سنين طويلة، اذ يشكل الحدثان جوهر النقاش على هوية لبنان الوطنية ونظامه الطائفي. ومع تصاعد أهمية الميثاق الوطني تصاعدت حدة الخلاف على جذوره ومحتواه، وصار من الصعب التمييز بين الحقيقة والأسطورة. لكن من شأن دراسة مفصلة للوثائق التي كشف عنها أخيرا الأرشيف الفرنسي ومقارنتها بالمصادر البريطانية واللبنانية ازالة بعض الأساطير التي تحيط بمولد الميثاق الوطني.
المحور الرئيسي لانتخابات 1943 كان الصراع المرير على الرئاسة الذي استمر 15 سنة بين بشارة الخوري واميل اده. لكن انتخابات 1943 اختلفت عن سابقاتها اذ كان لها ان تحدد مصير دولة لبنان. ولم تكن الانتخابات الاشتراعية التي دارت في اجواء بالغة التوتر وانتهت في 6 أيلول سوى مقدمة لتلك الانتخابات الرئاسية التي حددت نتيجتها جملة من القوى الداخلية والخارجية، جسّدها كل من الجنرال سبيرز البريطاني وجان هيلو الفرنسي واميل إده وبشارة الخوري.
ترأس الجنرال سبيرز البعثة البريطانية الى سورية ولبنان ما بين 1941 و1944، ولعب دوراً حاسماً في ضمان انتصار الخوري وتعيين الصلح لرئاسة الحكومة. لكن، لا نجد حتى الآن دراسة مفصلة لحقيقة الدور الذي لعبه سبيرز في اخراج الفرنسيين من سورية ولبنان ومدى تدخله في السياسة الداخلية للدولتين. فقد كان الجنرال البريطاني وقتها على علم بانتقادات أوساط وزارة الخارجية البريطانية لسياسته المعادية للفرنسيين، ولجأ في احيان كثيرة الى كتم نشاطاته أو تمويهها. وبلغت تدخلاته في السياسة اللبنانية أوجها في الانتخابات الاشتراعية والرئاسية في 1943 ثم أزمة تشرين الثاني نوفمبر التي نجمت عنها. المهمة التي وضعها سبيرز على نفسه كانت اخراج "الفرنسيين الأحرار" من بلاد الشام، معتبراً ان فرنسا امة في طور التفكك والانحدار، ومشككا في قدرتها على استرجاع مكانتها بين القوى العالمية الرئيسية بعد الحرب. هكذا نظر الى نفسه على انه "لورنس العرب" الجديد، وأن دوره التاريخي كان انهاء النفوذ الفرنسي في سورية ولبنان وضمان استقلالهما.
كان في مواجهة سبيرز وقتها ممثلو "الفرنسيين الأحرار"، تلك الحركة الضعيفة المنقسمة، المعتمدة عسكرياً ومالياً على بريطانيا وأميركا. مع ذلك كان قائد الحركة الجنرال شارل ديغول مصمما على ادامة موقع فرنسا كقوة عالمية والمحافظة على امبراطوريتها، خصوصاً موقعها المتميز في لبنان. ممثل الحركة في سورية ولبنان كان الجنرال كاترو، الذي تمكن دوما من مواجهة سياسات سبيرز العدوانية. لكنه نقل الى الجزائر في حزيران يونيو 1943 وحل محله سفير فرنسا في انقرة جان هيلو الضعيف الشخصية. واستغل سبيرز هذا التغيير لكي يضاعف من تدخلاته في الانتخابات الاشتراعية، حيث حذر الضباط البريطانيون المسؤولين الفرنسيين بشدة من التدخل، فيما لعبوا هم انفسهم دوراً مباشراً في ضمان فوز المرشحين المعادين لفرنسا، خصوصا في شمال لبنان وجنوبه وسهل البقاع.
وأولى البريطانيون والفرنسيون الانتخابات الرئاسية اهتمامهم البالغ. واعتبر ديغول وهيلو ان بشارة الخوري ممالئ للبريطانيين وانه ينوي انهاء العلاقة الخاصة مع فرنسا وادخال لبنان في النظام الاقليمي العربي الوليد، الخاضع للنفوذ البريطاني، فيما اعتبر الاثنان اميل اده وطنياً لبنانياً يلتزم استقلال بلده وعلاقته التاريخية بفرنسا. في المقابل حاول سبيرز اضعاف موقف اده بالتشكيك في دستورية ترشيحه، وعندما بدا ان موقف اده قد تحسن في البرلمان حذر سبيرز النواب دون اذن لندن من أن بريطانيا لن تعترف بحكومة يرأسها اده. على رغم ذلك فإن سبيرز لم يساند الخوري، اذ اعتبره سياسيا ضعيفا لن يستطيع الصمود امام ضغوط فرنسا والطرف الماروني، كما شكك في قدرته على دحر اده في الانتخابات، مفضلا عليه كميل شمعون او حميد فرنجية المعروفين بميلهما الى بريطانيا. هكذا هدف سبيرز الى اضعاف الموقف الفرنسي وضمان فوز مرشحه في الانتخابات مع اخفاء تدخله في العملية السياسية.
مع اشتداد التنافس بين الخوري واده تنامت لدى المسؤولين البريطانيين والفرنسيين، اضافة الى السياسين اللبنانيين وقيادات الطوائف والرأي العام، فكرة الاتفاق على مرشح ثالث. وكان من بين الاسماء المقترحة أيوب ثابت وبترو طراد والفريد نقاش ويوسف اسطفان وحميد فرنجية وكميل شمعون.
كان اده بالطبع يطمح الى الرئاسة، لكن همّه الأكبر انصب على منع الخوري من الفوز بها. وحاول في 14 أيلول اقناع سبيرز بالتراجع عن الفيتو الذي وضعه على ترشيحه، ولم تنجح المحاولة. اضافة الى ذلك اضطر اده تحت ضغط سبيرز الى الموافقة على التنازل لحبيب السعد أو يوسف اسطفان او حميد فرنجية أو كميل شمعون، متخذاً تلك الخطوة من دون تنسيق مع هيلو. وكانت هذه غلطة كبيرة من اده، إذ أنها سمحت لسبيرز بتقديم شمعون.
ادعى بشارة الخوري في مذكراته انه كان في تلك المرحلة ضَمن أصوات غالبية النواب، لكن الحقيقة هي أن حجم التأييد له بقي غامضا الى ما قبل اسبوع من الانتخابات. وبعد فشل قائمته في الانتخابات الاشتراعية لمنطقة جبل لبنان بدأ حتى اقرب مؤيديه بالبحث عن مرشح رئاسي بديل قادر على الحاق الهزيمة بادّه. لكن الرئاسة اصبحت شغل الخوري الشاغل، وصمم على الفوز بها مهما كان الثمن. وسرعان ما بينت تحركاته انه سياسي لامع وتكتيكي من الدرجة الأولى، ونجح في الأيام الاخيرة قبل الانتخابات في الالتفاف على سبيرز وهيلو واده، لكي يبرز مرشحا وحيدا.
رأى هيلو، ازاء فيتو سبيرز على ترشيح اده والانشقاق المتزايد ضمن الطائفة المارونية، ان الحل الأفضل هو انسحاب الخوري واده بعد الاتفاق على مرشح ثالث. لكنه فشل في اقناعهما بذلك عندما دعاهما الى اجتماع سري في مقره لبحث الموضوع. ثم اجتمع هيلو الى سبيرز في 16 أيلول واتفقا على ضرورة اقناع الاثنين بالانسحاب لمرشح ثالث على ان يضغط سبيرز على الخوري لالتزام هذا الحل. وعرض هيلو على سبيرز ان يتفقا مقدما على المرشح الثالث، الا ان سبيرز رفض العرض، محتجا بأن القرار يعود الى اللبنانيين دون غيرهم.
مساء ذلك اليوم اجتمع سبيرز مع الخوري وهنري فرعون. وجاء في تقرير سبيرز الى لندن ان الخوري وافق بعد ضغوط من سبيرز على سحب ترشيحه، لكنه اشترط ان يكون ذلك لمصلحة شمعون دون سواه، وأن يحصل على تعهد خطي من النواب المؤيدين للطرفين بالتصويت لشمعون. واذ تقدم مذكرات الخوري رواية مشابهة فان قراء متأنية للمصادر الفرنسية والبريطانية تقوي احتمال ان سبيرز هو الذي اقنع الخوري بترشيح شمعون. أما الرواية عن ترشيح شمعون لمجرد الضغط على الفرنسيين لكي يساندوا الخوري فقد قدمها سبيرز لاحقا لكي يخفي مبادرته ويعزو الى نفسه الفضل في انتصار الخوري.
بعد نصف ساعة لا أكثر على الاجتماع الذي كان يفترض له السرية بين سبيرز والخوري وفرعون تسربت التفاصيل الى هيلو، مشيرة الى ان سبيرز ضغط على الخوري للتنازل لمصلحة شمعون. وقابل الفرنسيون بغضب بالغ تحرك سبيرز من وراء ظهرهم لدعم شمعون الذي اعتبروه من أشد معارضيهم. واتصل هيلو فورا بسبيرز مؤكدا رفض الفرنسيين الأحرار المطلق لرئاسة شمعون. وفوجئ سبيرز بالاتصال الفرنسي وأنكر القيام بأي نشاط سلبي. فيما أبرق هيلو في الوقت نفسه الى الجنرال ديغول في الجزائر وماسيغي ممثل الفرنسيين الأحرار في لندن للابلاغ عن تحركات سبيرز. واستدعى لاحقاً في الليلة نفسها بشارة الخوري وطالبه بسحب تأييده لشمعون، ورفض الخوري الطلب محتجاً بأنه اعطى كلمته الى كل من سبيرز وشمعون. وفي منتصف تلك الليلة اجتمع هيلو والخوري واده في مقر الأول لكنهم لم يتوصلوا لنتيجة.
في صباح 17 أيلول استدعى سبيرز الخوري وفرعون وحقق معهما في تسرب تفاصيل اجتماعهم السابق الى هيلو، وانكر الاثنان المسؤولية، فيما قدم الخوري الى الجنرال البريطاني تفاصيل اجتماعه الى هيلو مؤكداً أنه رفض ضغوط الفرنسيين عليه لاتهام سبيرز بالتآمر ضدهم. ثم اخبر سبيرز عن اجتماعه مع اده وأكد له الولاء، لكنه لمح أيضاً إلى تزايد ضغوط الفرنسيين عليه.
بعد ذلك تراجع اده، تحت الضغط الفرنسي، عن تأييده لشمعون، وأوضح ذلك لشمعون وفرعون عندما جاءا لزيارته. ثم التقى ظهر ذلك اليوم الجنرال سبيرز ليحاول الاتفاق معه على مرشح غير شمعون. ورفض سبيرز ذلك مدعياً ان الخوري سيصر على شمعون، والا فإنه سيواجه اده في الانتخابات، وفي هذه الحال فإن سبيرز سيعارض اده. وقرر سبيرز، ازاء الفيتو الفرنسي على شمعون واحتمال نجاح هيلو في اقناع اده والخوري بالتعاون، ان يدعم الأخير لكي يدعي الفضل في نجاحه ويضمن بذلك نفوذ بريطانيا. وتباحث مع هيلو مساء ذلك اليوم، واخبره ان الأفضل للطرفين في الظروف السائدة تأييد الخوري. وقدم الى المندوب الفرنسي نسخاً عن مقالات نشرتها في 1934 صحيفة "لو جور" الناطقة باسم الكتلة الدستورية تتهم اده بالتدخل في شؤون القضاء، ملمحاً إلى الكشف عن المزيد من الادعاءات المعادية لأده في حال اصراره على الترشيح. وهنا فكر هيلو باستباق سبيرز عن طريق الانتقال الى تأييد بشارة الخوري ضمانا لحصة فرنسا من النفوذ في حال فوزه.
في صبيحة 18 أيلول اجتمع سبيرز مع الخوري وفرعون وأطلعهما على حديثه مع هيلو واعلن تأييده للخوري. ووجه سبيرز رسالة الى النواب يعلمهم بموقفه ويحضهم على تأييد الخوري. وفي عصر ذلك اليوم أعلن هيلو للخوري تأييده الرسمي لترشيحه، مشترطا تعهده الدفاع عن استقلال لبنان وسلامة أراضيه، وأن يركز في خطابه الرئاسي الأول على ان لفرنسا، حليف لبنان التقليدي، موقعها المتميز هناك. ووافق الخوري فوراً، على رغم انه كان كتب الى سبيرز قبل ذلك باسبوع انه سيسعى من اجل الحصول على السيادة الكاملة للبنان.
هكذا، بحلول 18 أيلول، كان الخوري ضمن انتخابه، بعدما حصل على تأييد الطرفين البريطاني والفرنسي، فيما انهار معسكر اده وطلب عشرة من النواب المؤيدين له مقابلة سبيرز. ووسط مشاعر الخيبة والمرارة اتهم اده المندوب الفرنسي هيلو بالتخلي عنه وهدد باثارة الوضع في جبل لبنان. ثم عاد الى عرض تأييده على شمعون. لكن الأخير رفض الترشيح بسبب الضغوط البريطانية. اخيرا حاول اده، في محاولة يائسة لوقف تقدم الخوري، استعمال التكتيك نفسه الذي استعمله في 1932، أي تأييد مرشح مسلم سامي الصلح، لكن المحاولة فشلت.
هكذا فان اجتماع الخوري ورياض الصلح في 19 أيلول جاء بعد ان ضمن الخوري انتصاره في معركة الرئاسة. لكن، ما الذي دعاه الى عرض رئاسة الحكومة على رياض الصلح، عندما كان يعلم ان ذلك كان سيقابل بالعداء ليس من قبل الفرنسيين فحسب بل ايضا أنصاره في الكتلة الدستورية اضافة الى عدد من القادة المسلمين البارزين؟
شهد لبنان، بالتوازي مع السباق على الرئاسة، صراعاً على رئاسة الحكومة والحقائب الوزارية، في سياق التقليد اللبناني المترسخ بحلول 1943 الذي يخصص رئاسة الدولة لشخص ماروني ورئاسة الحكومة لسني. وكان من بين المرشحين سامي الصلح وعبدالله اليافي وعبدالحميد كرامي وصائب سلام ورياض الصلح. لكن الأخير، على رغم تمتعه بالكثير من التقدير من قادة الدول العربية، خصوصا الكتلة الوطنية السورية، كان محدود النفوذ في البرلمان. بل انه في الواقع دان بانتخابه الى البرلمان نائبا عن صيدا في الجنوب الى الدعم البريطاني من وراء الكواليس، اضافة الى مساعدة من عادل عسيران ويوسف سالم واميل اده. وكانت علاقات رياض الصلح مع الأخير ودية على رغم الخلاف الأيديولوجي بينهما. في المقابل كانت للصلح شكوك في نوايا بعض أقرب حلفاء الخوري.
تظهر تفاصيل السباق على الرئاسة بين 16 و18 أيلول ان لا أساس للرأي القائل بأن بشارة الخوري احتاج الى دعم رياض الصلح. اضافة الى ذلك فان بعض اقرب الحلفاء الى الخوري، خصوصا هنري فرعون وميشال شيحا، رفضوا بشدة الاتفاق مع الصلح، كما عارض ترشيحه لرئاسة الحكومة عدد من أهم القادة المسلمين، من بينهم عبدالحميد كرامي، الذي كان موقفه تعزز الى حد كبير اثر انتصاره في الانتخابات الاشتراعية، وأوضح وقتها انه لن يؤيد الصلح. واذ لم يكن كرامي راغبا في المنصب فقد تعاون مع هنري فرعون لدعم ترشيح صائب سلام هناك علاقة مصاهرة بين عائلتي كرامي وسلام. وعارضت ترشيح رياض الصلح عائلتا بيهم والداعوق السنيتان المرموقتان، كما عارضه حتى ابن عمه سامي الصلح. أما في المعسكر المسيحي، خصوصا الكنيسة المارونية، فكان لا بد لترشيحه من ان يثير المزيد من الانتقاد لشارة الخوري، الذي كانت قدرته على الصمود أمام الضغط العربي مشكوكاً فيها أصلا. أخيرا كان من المعروف تماما ان الفرنسيين اعتبروا الصلح من بين أشد اعدائهم، وان ترشيحه كان يشكل تحدياً لهم في الوقت الذي كان الخوري في حاجة الى مساندتهم. ماذا اذن قاد الخوري، رجل التسويات، الى اتخاذ خطوة جريئة كهذه على الرغم من كل ما تثيره من صعاب؟
الظاهر، على رغم نفي سبيرز، ان هناك أساسا قويا لادعاء المسؤولين الفرنسيين وقتها ان الجنرال البريطاني فرض الصلح على الخوري. ذلك ان سبيرز، على رغم ادعائه الفضل في انتصار الخوري عن طريق الالتفاف على هيلو واده، لم يثق بقدرة مرشحه على الثبات في سياسة معادية للفرنسيين، وأعطى اهمية كبيرة لترشيح رئيس للوزراء وحكومة جديدة تسير من دون تردد وفق تلك السياسة. وأصر سبيرز على ادخال شمعون في الحكومة، وتوليه منصباً نافذاً هو وزارة الداخلية. أما في ما يخص رئاسة الحكومة فقد اعتبر رياض الصلح المرشح الأقدر على اتخاذ سياسة تقود الى انهاء النفوذ الفرنسي في لبنان. كما اعتبر سبيرز ان علاقات الصلح القوية مع الحكومة التي انتخبت حديثا في سورية عنصر أساسي في تنسيق سياسة الحكومتين ضد الفرنسيين الأحرار. وكان مستعداً من اجل تحقيق ذلك لتجاهل موقف الصلح القومي العربي وانتقاداته السابقة للسياسة البريطانية تجاه العراق وفلسطين. وعلى رغم النفي الشديد من قبل سبيرز فان نظرة تفصيلية الى تحركاته تؤيد الرأي القائل انه كان وراء ترشيح الصلح. فقد ضغط المسؤولون السياسيون البريطانيون بشدة على كرامي وفرعون للتراجع عن معارضتهم للصلح، كما "نصحوا" النواب المترددين بالتصويت لحكومته باعتباره "مرشح بريطانيا". وفي رسالة شخصية الى وزير الدولة البريطاني في القاهرة كيسي سمح سبيرز لنفسه بالتعبير عن الموقف بحرية اكثر عندما كتب: "تعيين رياض الصلح يعني ان كل شيء انتهى في شكل أفضل بما لا يقاس مما جرؤت ان احلم به. لقد شعرت دوما وكانني ابني بيتا من الورق، وان البناء كان سينهار مع كل ورقة اضيفها. ولم يتم الانجاز الا بعد الانتهاء من الطابق الأخير".
جرت مراسيم انتخاب الرئيس في الساعة العاشرة من صباح الثلثاء 21 أيلول، بحضور سبيرز وهيلو واعضاء البعثات الديبلوماسية. ولوحظ ان سبيرز شارك بحماسة في الهتاف والتصفيق فيما اهمل الجميع هيلو. النتيجة كانت معروفة مسبقا لأن الخوري كان المرشح الوحيد. وحصل في التصويت السري على تأييد 44 نائبا مقابل امتناع ثلاثة نواب عن التصويت. ذكر تقرير فرنسي ان الممتنعين كانوا الخوري نفسه وسامي الصلح، فيما كان الثالث الفريد نقاش او غبريال المر. وغاب عن الجلسة اميل اده وستة من مؤيديه من النواب، اضافة الى أيوب ثابت.
يقول بشارة الخوري في مذكراته انه أبلغ رياض الصلح نيته تعيينه رئيسا للوزراء قبل يومين من الانتخاب. لكن النجاح في ذلك كان يتوقف على كتم الخطوة الى ان يقوم الخوري بالتهيئة لها. وتظاهر الخوري خلال الأيام الثلاثة التالية بالتشاور مع مختلف السياسيين والاجنحة والمسؤولين الفرنسيين لتحديد المرشح المطلوب. لكن الصلح اجتمع في عاليه قبل ساعات من الانتخاب بالكولونيل فرلونغ، كبير المسؤولين السياسيين لدى سبيرز، وأخبره انه سيكلف تشكيل الحكومة الجديدة، مؤكدا عزمه على التعاون الوثيق مع السلطات البريطانية وطالبا "المشورة والدعم" من سبيرز. وتعرضت نيته هذه الى امتحان سريع عندما "نصحه" فرلونغ بتعيين شمعون وزيرا للداخلية، وهو ما وافق عليه الصلح فورا. المرشحون الآخرون لعضوية الحكومة كانوا عادل عسيران وسليم تقلا وحبيب ابو شهلا وجميل تلحوق. وجاءت الحكومة التي تشكلت في 25 أيلول مطابقة لذلك، عدا الاستعاضة عن تلحوق بمجيد أرسلان. وقدم الصلح الى المسؤول البريطاني في هذه المرحلة المبكرة خطة عمل تفصيلية شكلت الأساس لبرنامج الحكومة الشهير الذي اعلن في السابع من تشرين الأول اكتوبر. اي ان الصلح اخبر فرلونغ عن نيته تعديل الدستور والمطالبة بالسيطرة على المصالح المشتركة وتصميم علم جديد للبنان والغاء كون الفرنسية اللغة الرسمية الثانية للبنان. ولم يكن لسبيرز الا الارتياح لتقرير فرلونغ عن ذلك الاجتماع، خصوصا ان الصلح أكد مرارا خلاله انه سيستغل ضعف فرنسا وقتها للحصول على اكثر ما يمكن من التنازلات منها وفي أسرع وقت ممكن، كما ركز على ان سياسته تجاه فرنسا تأتي بالتنسيق مع الحكومة السورية.
تطرح الخطة المفصلة التي قدمها الصلح الى فرلونغ حتى قبل تكليفه تشكيل الحكومة سؤالا مثيرا عن مدى معرفة الخوري بنوايا رئيس حكومته العتيد. كما تثير الشكوك حول ادعاء الخوري في مذكراته انه اطلع مقدما على خطة الصلح ووافق عليها. لكن الواقع ان الوثائق البريطانية والفرنسية على السواء تكشف ان الخوري بذل محاولة فاشلة في تشرين الأول لاقناع رئىس الحكومة باتخاذ سياسة اكثر حذرا تجاه فرنسا. وربما كان هناك نوع من العدالة في ان الخوري، الذي تمكن من الالتفاف على سبيرز وهيلو واده للفوز بالرئاسة، كان نفسه ضحية لمناورة التفاف قام بها رئيس حكومته خلال الشهرين الحاسمين اللذين تقرر خلالهما مستقبل لبنان المستقل.
الاحداث التي ادت الى ازمة تشرين الثاني نوفمبر معروفة وليس من داع لايرادها هنا. وشعر الصلح من جهته بأنه تمكن خلال تلك الأيام البطولية من تشرين الثاني من اكمال دوره التاريخي في تحرير لبنان وسورية من فرنسا، وهو ما كان يكافح من اجله منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وقال الصلح للجنرال كاترو، بعد وقت قصير من عودته من القاهرة في كانون الثاني يناير 1944 حيث تم البحث في قضية الوحدة العربية، انه أبلغ الخوري برغبته في الاستقالة لكن الأخير أقنعه بالاستمرار.
يجدر بالذكر ان الصلح لم ينس الدور الذي لعبه الجنرال سبيرز في ترشيحه لرئاسة الحكومة ودعمه له في تشرين الثاني خلال صراع اللبنانيين من اجل الاستقلال. ففي كانون الأول ديسمبر 1944، عندما رضخ تشرشل في النهاية لضغط من ديغول بتنحية سبيرز، ودعه الصلح بأفخم ما يمكن من المراسيم، معتبرا ان على شعب لبنان ان يظهر امتنانه العميق للجنرال البريطاني. وفي 15 كانون الأول، قبل وقت قصير من عبور سبيرز الى فلسطين من رأس الناقورة، شكره الصلح هاتفيا في مكالمة رصدتها الاستخبارات الفرنسية، وانهى المكالمة بالقول انه اراد "أن يكون آخر من يودعه على التراب اللبناني".
* مؤلف كتاب "تشكيل لبنان الحديث: 1918 - 1926"، و"المطلب اللبناني: الطريق الى الدولة: 1926 - 1939". وهو يعمل الآن على كتابه الثالث: "صراع لبنان من اجل الاستقلال: 1940 - 1946".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.