يصعب وجود تاريخ خالص للفرق الدينية والفكرية الإسلامية، فتاريخها مثل تاريخ الدول والرجال تعرض إلى الزيادة والنقصان، وبالتالي دخلته أحداث لا وجود لها، كما حذفت أخرى. والتأثيرات التي سجل التاريخ تحت هيمنتها، المذهبية أو السياسية، ما زالت قائمة، وأغلب المساجلات بين المهتمين المعاصرين تبدو وكأنها نسخة من الماضي. يحدث هذا في تاريخ الفرق ذات الأصول الثابتة، عقائد وشخوصاً وأحداثاً، فماذا عن الفرق المختلف على وجودها وذات العقائد المتناقضة والقلقة؟ اللافت للنظر ان عشرات البحوث والدراسات تناولت الكيسانية كحقيقة مسلم بها من دون الإشارة إلى الشكوك التي تدور حولها، مع أن بعض الباحثين أشرفوا على القول باختلاقها. ففي اطروحتها الأكاديمية قالت وداد القاضي: "حتى يكاد يبدو للدارس أن بعض تلك الفرق مما لم يكن له وجود حقيقي في واقع الأمر" الكيسانية في التاريخ والأدب - ص19، لكنها أهملت ذلك ومضت في دراستها. وينطبق هذا الأمر أيضاً على الفرق السبأية، فعلى رغم رأي طه حسين الصريح باختلاقها كما ورد في كتابه "الفتنة الكبرى"، ودراسة مرتضى العسكري "عبدالله بن سبأ وأساطير أخرى"، التي استغرقت مجلدين، هناك من يكتب عنها من دون أي اكتراث بالمؤلفات المذكورة. وبرأيي أن ما قدمه طه حسين والعسكري سد الحاجة وأغنى عن المقال، فليس لباحث في هذا الموضوع تجاوزهما. اختلف في اسم الكيسانية، فهي مرة منسوبة إلى المختار الملقب بكيسان، وأخرى منسوبة إلى مولى لعلي بن ابي طالب، قتل بصفين بعد أن تقدم لمبارزة الأحمر مولى ابي سفيان فقتل محمد بن الحنفية والحسين قاتله، وأخرى منسوبة إلى صاحب شرطة المختار المعروف بأبي عمرة السايب بن مالك الأسدي، وكان لقبه كيسان أيضاً. وهذا اللقب اضيف إلى أبي عمرة لأنه نفذ عمليات اغتيال وقتل قتلة الحسين بأمر من المختار. فمعنى كيسان الغدر القاموس المحيط، ولعل النوبختي في عبارته التالية في "فرق الشيعة" قصد هذا المعنى: "وإنما لقب المختار كيسان لأن صاحب شرطته المكنى بأبي عمرة كان اسمه كيسان وكان أفرط في القول والفعل والقتل من المختار جداً". وفي أبي عمرة، قال المعتزلي أبو الحسين البصري، برواية ابي حيان التوحيدي: "صاحب شرطة المختار بن أبي عبيد، كان لا ينزل بقوم إلا اجتاحهم، فصار مثلاً لكل شؤم وشر، ويقال أيضاً إن أبا عمرة اسم الجوع" الإمتاع والمؤانسة. وما زال اسم هذه الفرقة وعقيدتها ودورها المزعوم في وجود الشيعة وانتصار الحركة العباسية تستهوي الباحثين. وعلى حد علمي ان من من أوائل الذين أشاروا إلى اختلافها عبدالواحد الأنصاري في "مذاهب ابتدعتها السياسة في الإسلام" 1973، لكن الغرض كان لتأكيد أحقية حركة المختار، مع أن أخبارها وعقائدها شغلت العديد من المعاصرين وكأنها حقيقة قائمة، ومن هؤلاء - إضافة إلى صاحبة "الكيسانية في التاريخ والأدب" دار الثقافة 1974 - أحمد عُلبي في "العهد السري للدعوة العباسية" دار الفارابي 1989، ومحمود إسماعيل في "فرق الشيعة بين التفكير السياسي والنفي الديني" سينا للنشر 1995. كما جمع عامر عبدالله فالح معجم "ألفاظ العقيدة" 1997 بما يخص الكيسانية والفرق الأخرى، من دون اكتراث والتفات لشكوك الباحثين وتناقضات مؤلفي كتب الملل والنحل. اعتمد واجدو الكيسانية أربع شخصيات رئيسية: شاعرين هما كُثير عزة والسيد الحميري، وشخصيتين بارزتين في الأحداث هما محمد بن علي بن ابي طالب، المعروف بإبن الحنيفة، والمختار بن أبي عبيد الثقفي. وبالنسبة إلى الشاعرين، كانت سنة وفاة الأول 105ه عاماً لميلاد الثاني، وكأن تزامن الوفاة والميلاد بينهما ورد تأكيداً لاستمرارية منهجهما المذهبي والشعري، فكلاهما عدَّ من شعراء الشيعة، وتنسب إليهما القصيدة العقائدية سنأتي على ذكرها لاحقاً، فأغلب مؤرخي الأدب والملل والنحل يوردونها في شعر كُثير وينسبونها إلى السيد الحميري أو العكس. وعلى رغم تشيع الشاعرين، كما يبدو ذلك من شعرهما وأخبارهما، اختص كل منهما بخليفة عصره، مع أن الخليفتين لا ينظران إلى الشيعة بعين الرضى، فكيف لمن ينتسب إلى الفرق التي سميت بالغالية مثل الكيسانية؟ كان كُثير عزة شاعراً ببلاط عبدالملك بن مروان، والسيد الحميري ذا منزلة خاصة عند ابي جعفر المنصور. ويذكر ابن المعتز في "طبقات الشعراء" أنه وقف إلى جانبه ضد قاضيه سوار بن عبدالله، وحين كتب القاضي إلى المنصور ان الحميري "رافضي يقول بالرجعة ويرى المتعة"، أجابه: "إنا بعثناك قاضياً ولم نبعثك ساعياً"، وعزله وقطع السيد أرضاً بالبصرة من أراضي الحجاج بن يوسف الثقفي. ويؤكد كُثير صحبته لعبدالملك بقوله: جزتك الجوازي عن صديقك نظرة/ وأدناك ربي في الرفيق المقرّب وإنك ما تمنع فإنك مانع/ بحق وما عطيت لم تتعقب كما قال السيد الحميري في صاحبه ابي جعفر المنصور: إن الإله الذي ر شيء يشبهه/ اعطاكم الملك للدنيا وللدين اعطاكم الله ملكاً لا زوال له/ حتى يُقاد إليكم صاحب الصين وصاحب الهند مأخوذاً برمته/ وصاحب الترك محبوساً على هون واصل كُثير الصحبة مع خلفاء آل مروان، وعذره في ذلك ان إمامه محمد بن الحنفية بايعهم، واعتزل بالطائف حتى وفاته 81ه، واعتز به الأمويون على رغم أنه كان "غالياً في التشيع يذهب مذهب الكيسانية، ويقول بالرجعة والتناسخ، وكان محمقاً مشهوراً بذلك، وكان آل مروان يعلمون بمذهبه فلا يغيرهم ذلك لجلالته في أعينهم ولطف محله في أنفسهم" الأغاني. كما واصل السيد الحميري قربه من آل العباس، وعذره انهم من بني هاشم، فهو القائل: آليت لا أمدح ذا نائل/ من معشر غير بني هاشم وقال ابن طاووس ت 673ه، مشيراً إلى ازدواجية الشاعرين، كُثير والسيد، في كتابه "بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية"، التي ردّ فيها على رسالة الجاحظ: "إذ الشعراء يميلون إلى الجانب الذي تحصل أغراضهم يذمون الممدوح ويمدحون المذموم، ألم ترى أنهم في كل واد يهيمون ... والحميري مدح الخليفة المنصور بن العباس وهو عدو هذا البيت، يصطلم أرواح أكابره مجداً في هدم سور مفاخره". ويعدّ كتاب محمد بن عمران المرزباني ت 384ه، وهو معتزلي ويميل للشيعة، "أخبار السيد الحميري" الذي نشر مع كتاب "أخبار شعراء الشيعة" النجف 1965 مصدراً للعديد من روايات شعر السيد وحياته. لكن هناك شكاً في صحة نسبته إلى المرزباني، مع أن مراجع شيعية اعتمدته في ترجمة الشاعر، ومنها "أعيان الشيعة" لمحسن الأمين العاملي. ومبرر ذلك أنه لم يذكر مع مؤلفات المرزباني الكثيرة، كذلك لم يذكر المرزباني السيد الحميري في كتابه "معجم الشعراء"، وكان ذكره ذكراً خاطفاً في كتابه "نور القبس" بقوله: "كان السيد مشتهراً بمدح أهل البيت". كما لم يذكره الشيخ أغا الطهراني في "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" ضمن الكتب السبعة لمؤلفين مختلفين بعنوان "أخبار السيد الحميري"، كان أحدها لأبي بكر الصولي ت 335ه، ولعله هو مؤلف الكتاب المقصود. ومن أخبار هذا الكتاب المقابلة بين عبدالله بن اباض والسيد الحميري بحضرة ابي جعفر المنصور. وصف الكتاب ابن أباض انه "يظهر التسنن ويكتم مذهب الاباضية"، ولهذا هجاه السيد في قصيدة طويلة. وخلاف ذلك، هناك من أشار إلى رسالة عبدالله بن أباض إلى عبدالملك بن مروان وتوفي في عقد الثمانينات من القرن الأول الهجري. بمعنى أنه لم يكن معاصراً لأبي جعفر المنصور، ولم يخرج على مروان بن محمد السنة 129ه، كما أورد ذلك الشهرستاني في "الملل والنحل". وافتراض معاصرته لعبدالملك بن مروان، التي أشار إليها الشهرستاني، جعلت بعض الدارسين يعتقدون خطأً بأنه كان مصدراً لمقالة خلق القرآن، لا الجعد بن درهم، الذي قتل بسبب هذه المقالة أيام هشام بن عبدالملك مثلما ورد أخيراً في مقال "علم الكلام: جدل العقلانية واللاعقلانية" مجلة النهج، ربيع 1999. والمعتزلة من جانبهم ينسبون ابن اباض إليهم، فيروى أن المعتزلي عبدالله البلخي قال عنه: "لم يمت حتى ترك قوله أجمع، ورجع إلى الاعتزال" الحور العين. والتشابه بين مقالات الاعتزال ومقالات الإباضية يسمح بقبول مثل هذه الرواية. ومن المفارقة في حياة الشاعر الحميري ان أبويه كانا على المذهب الإباضي، ذكر أبو الفرج الأصفهاني وغيره "ان أبويه لما علما بمذهبه شيعي همّا بقتله"، وأن والدته كثيراً ما كانت تحمل همه بسبب اختلاف مذهبه. ويذكر ابن تغري في "النجوم الزاهرة" التسامح الفكري الذي شهده السيد الحميري، وكان موجوداً بالبصرة كمقدمة لظهور المناظرات الفكرية لاحقاً في عصر الخليفة عبدالله المأمون. ورد ذلك في روايته عن خلف بن المثنى: "كان يجتمع بالبصرة عشرة في مجلس لا يعرف مثلهم: الخليل أحمد صاحب العروض سُني، والسيد الحميري الشاعر الرافضي، وصالح بن عبدالقدوس ثنوي..." وغيرهم من أقطاب المذاهب والأديان. إن قول الحميري: "تجعفرت باسم الله والله أكبر/ وأيقنت أن الله يعفو ويغفر" يؤكد تحوله إلى المذهب الإمامي الجعفري، لكن راوية السيد قال: "هذه القصائد التي يقولها الناس ... لغلام للسيد يقال له قاسم الخياط، قالها ونحلها للسيد، وجازت على كثير من الناس ممن لم يعرف خبرها بمحل قاسم منه وخدمته إياه" الأغاني. لم يذكر للحميري شعر في النسيب، فقد نذر شعره لمديح بني هاشم، وهجاء مناوئيهم، إلا الخلفاء، وظل على نذره حتى وفاته السنة 173ه. أما كُثير فعلى رغم نسبته إلى عزة بنت حُميل، وشعره العاطفي فيها، ومنه قوله: "لعزة نار ما تبوح كأنها/ إذا ما رمقناها من البعد كوكب"، فهناك شك بصدق عاطفته، حتى قيل: "كان جميل صاحب بثينة يصدق وكُثير يكذب" مختار الأغاني. ويروى أن عزة اختبرت عاطفته في أكثر من موقف فلم ينجح في واحد منها. والقصيدة المنسوبة إلى الشاعرين التي شاعت منها عقائد الكيسانية الكربية هي: ألا أن الأئمة من قريش/ ولاة الحقّ أربعة سواء عليّ والثلاثة من بنيه/ هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر/ وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى/ يقود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يُرى عنهم زمانا/ برضوى عنده عسلّ وماء والأئمة الأربعة، كما ورد في القصيدة، هم علي بن ابي طالب وأولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية. واختلف المؤرخون في نسبتها، فقد نسبها ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" لهما معاً، ونسبها إلى كُثير كل من: الأصفهاني في "الأغاني" والأشعري في "مقالات الإسلاميين"، والمسعودي في "مروج الذهب"، وسعد الأشعري في "المقالات والفرق"، والبغدادي في "الفرق بين الفرق"، والشهرستاني في "الملل والنحل"، كما أوردها إحسان عباس في "ديوان كثير" مع القصائد المنسوبة. أما النوبختي في "فرق الشيعة"، وهو من أقدم مؤرخي الملل والنحل، فذكر عقيدة الكيسانية بأبيات أخرى، أكد نسبتها إلى السيد الحميري، وهي: الا حي المقيم بشعب رضوى/ وأهد له بمنزله السلاما وما ذاق ابن خولة طعم موت/ ولا وارت له أرض عظاما وجبل رضوى الذي اختاره الشعراء مكاناً لمهدي الكيسانية، وعلى وجه الخصوص الفرقة الكربية منها، يقع بين مكة والمدينة، زاره ياقوت الحموي فوجده "أخضر وفي شعابه مياه كثيرة وأشجار". وذكر الطبري وهو يروي أحداث السنة 144ه بقوله: "جبل به الحبّ الأخضر والقطران". ومثل هذه البيئة لا تخلو من العسل والماء، وهذا هو سبب اختيار هذا الجبل من دون غيره من جبال المنطقة. ولم يكن جبل رضوى الوحيد الذي أثر في خيال اتباع الفرق الكيسانية، فقد ذكر القاضي عبدالجبار المعتزلي، وهو ببلخ، حكايات عن غائب الفرقة الحربية وهو ينتظر بجبل أصفهان، وغائب الفرقة المغيرية وهو ينتظر بجبل يخضب المغني في أبواب التوحيد والعدل. وإمام الكيسانية المفترض هو محمد بن الحنفية، وكان أبرز أولاد علي بن أبي طالب بعد الحسن والحسين، وتشير الروايات إلى مرافقة أبيه في حروبه أثناء فترة خلافته 35-40ه، وكان حاملاً الراية في المعارك. وبعد قتل الحسين برز ابن الحنفية في الرواية التاريخية التي تحدثت عن فرقة الكيسانية، ومعظم الاخباريين يشيرون إلى استغلال المختار بن أبي عبيد الثقفي لاسمه، فيتحرك بدعوة منه بالكوفة وملحقاتها، ويقتل قتلة الحسين كافة، كما سيأتي تفصيل ذلك في الحلقة الثانية من المقال. وكان قبلها ضد معاوية بن ابي سفيان، وأحد الذين استقبلوا مسلم بن عقيل رسول الحسين بن علي بن ابي طالب إلى الكوفة. وبعد قتل الحسين القي القبض عليه وكاد عبيدالله بن زياد، أمير العراق، يقتله لولا تدخل بعض الوجهاء، فأبعد عن العراق والتحق بعبدالله بن الزبير، فبعثه الأخير إلى الكوفة وسيطر عليها ثم استقل بدعوته، فقتله مصعب بن الزبير. هذان الرجلان كانا مادة خيال الاخباريين في خلق فرقة حركتها محدودة وعقائدها لا تتعدى أبيات الشاعرين المذكورين، ملخصها إمام مستور في جبل شعابه خضراء، يتغذى من الطبيعة ويحتمي بالوحوش. * باحث عراقي مقيم في لندن.