الكتاب: غرفة البرتقال رواية المؤلف: عارف علوان الناشر: دار الجمل، كولونيا 1999 أقبل الكاتب المسرحي العراقي عارف علوان على كتابة الرواية في سن متأخرة بعض الشيء. فروايته الاولى "محطة النهايات" صدرت قبل عامين فقط، وكان الكاتب بلغ الخامسة والخمسين. ولهذه الحقيقة اثرها الذي لا يمكن اغفاله في قراءة الرواية الاولى او الثانية الصادرة حديثاً. فثمة تفاوت واضح بين مستوى الخبرة الحياتية التي يُفصح عنها السرد الروائي وبين البطاقة التعبيرية التي يُناط بها تصوير هذه الخبرة. ففي حين يظهر الراوي صاحب خبرة ناضجة تؤهله لمعرفة الناس وطبيعة العلاقات التي تربطهم ببعضهم والعادات والمصالح التي تحكم سلوكهم معرفةً تربأ به عن تصويرهم تصويراً نمطياً، فان السرد يبقى دون استيفاء هذه الخبرة حقها. ولا ريب ان هذا راجع الى قلة تمرّس في حرفة الكتابة الروائية. فاذا تبين ان غرض الكاتب في رواية "غرفة البرتقال" سرد قصة تحدث في اقل من ساعة من الزمن الروائي الفعلي، امسى من الجائز احتساب الضعف الذي يعتري السرد والقصور عن بلوغ مقصد الرواية. فلا شك في ان ثمة اسلوباً أسلس وأنجع من تصوير الموقف العلني في السطور التالية مثلاً: "رغم الجمود الملازم لملامحها، الا انه يستطيع الغور وراء خوفها، يتذكر الرعب الذي ينتابها حين تتأرجح السيارة قليلاً بين يديه وهو يتجاوز السيارات الاخرى في الطرق الضيقة، او يعبر منعطفاً ضيقاً من غير تخفيف السرعة، فلن يمكنها التستّر على خوفها الآن وراء قناع صامت". الحرص على تصوير حالة التوتر المقصود تصويراً مكثفاً، رجع هنا سرداً مقتضباً واختزالياً على سرد رحب يسترسل فيفصح. ولأن الطاقة التعبيرية اضعف من استيفاء حاجة كهذه كان انعدام السلاسة والدقة في التعبير عاقبة لا مفر منها. وقلة التمرّس في الكتابة الروائية ليست وحدها ما يتسبب في القصور المشار اليه. فلاكتمال الخبرة اثرها غير المريح ايضاً. ففي اكتمال الخبرة الحياتية ما يتناقض مع الرواية من حيث انها تميل الى ان تكون محاولة اكتشاف غير المصرّح به، ومن ثم الوصول الى معرفة طازجة تولد اشياء جديدة وتزول اخرى قديمة وتنعقد علاقات وتنفض اخرى. فعلى رغم ان شخصيات الرواية ابعد ما تكون عن النمطية، او التمثيل لافكار وقيم محددة ونهائية، الا ان ظهورها يبدو مكتملاً منذ البداية. اي انها لا تكتمل خلال العملية الروائية نفسها، فهي اذا تأملت في ذواتها وماضيها، فان فعل التأمل لا يتجاوز استدعاء سيرها الذاتية استدعاءً عابراً لا يخلو من المجانية في بعض الاحيان. ان اياً من الشخصيات لا تخوض في عملية اكتشاف الذات طالما ان الذات مكشوفة لها وتدرك اين تقف وماذا تريد. غير ان حرمان القارئ من فرصة اقتفاء الشخصيات في سياق اكتشاف ما لا يعرفه لا يحرمه من فرصة ادراك ذلك التعقيد الذي يسم نفوسهم وما يربطهم ببعضهم من علاقات. بل يجوز القول ان هذا التعقيد هو الذي انقذ الرواية من شرّ مزالق العقدة الميلودرامية وسبيل الاخبار النازع الى الريبورتاج السياحي. فعقدة "غرفة البرتقال" هي تلك العقدة الناشئة عن العلاقة المتضاربة بين الزوج والزوجة والعشيق، هذا وحده كان من الممكن ان يفضي بالرواية الى المواقف الميلودرامية الشائعة. الى ذلك فان الرواية تحدث في سياق "نزهة" في جبل لبنان في عزّ الموسم السياحي، قبل نشوب الحرب، وكان من الممكن ان ينحو بالسرد الى ضرب من التصوير الريبورتاجي المعهود. غير ان افلاح الكاتب في التحكّم بسياق القصة من خلال التركيز على الابعاد النفسية للشخصيات مكّنه من تلافي مزالق كهذه. ولا يحدث النزاع بين الشخوص الثلاثة، وان يقتصر بشكل رئيسي على صبحي، الزوج، ووداد، الزوجة. اما جلال العشيق، فانه يبدو اقرب الى ذريعة لمعركة الزوجين المؤجلة منذ بعض الوقت. فوداد تتذرع في طلب الانفصال عن زوجها فيما يتخذه الاخير منافساً لا بد من الانتصار عليه لكي يتلافى الاذعان لمطلب وداد، بما يؤكد حقه في الاستئثار بها وحده دون غيره. وهو حينما يرى اليها موضوع منافسة فإنه يجعلها غنيمة للمنتصر الذي لا يشك بأنه سيكونه. وفي هذا ما يتوافق اصلاً مع نظرته اليها منذ البداية كإمرأة أثارت تحديه في ان يجعل منها ملكية خاصة، فتزوجها ثم حاول ان يشدّ قيدها اليه من خلال محاولة انجاب الاطفال. بيد ان صبحي لا يبدو انه مخطئ في التقدير اذا ايقنا ان وداد ليست المرأة الحرّة او المستقلة، وانما هي تلك الفتاة التي نشأت يتيمة الام فلم تواجه من الضوابط ما يحدّ حركتها او من الاعراف ما يخضعها لما تخضع لنا النساء عادة في الوسط الاجتماعي الذي تنتمي اليه. ومن ثم فانها بدلاً من ان تستخدم الحرية الناشئة عن انعدام الضوابط في سبيل تكريس استقلال مادي واجتماعي، تذهب مذهب الفتاة التي تتردد على حلقات الرجال بغية الاستئثار بقدر من الاهتمام حُرمت منه في طفولتها نتيجة فقدانها الام، وفي شبابها بسب انعدام الجاذبية الجسمانية. ويمكن القول على هدي ذلك ان وداد لا تقل خداعاً لذاتها عن خداع من حولها، لا سيما زوجها الذي يتوهم ويحاول ايهام الآخرين بأن الحب هو الحافز الكامن خلف زواجه منها وتعلّقه بها تعلّقاً قد يدفعه الى القتل اذا ايقن ان خسارته لها امر واقع. ان الرواية برمتها تدور حول الخداع الذاتي. فهذا ما يمكن ان يُستشف من خلال وجهين: الاول من خلال عجز الشخصيات الثلاث عن فهم العلاقة الفعلية التي تربط واحدهم بالآخر ومن ثم مواجهة نواياهم واغراضهم، والثاني من خلال الشحّ العاطفي الذي يسم هذه العلاقة. والى ما ذكرنا من أمر الزوجين اللذين يبطنان غير ما يزعمان، فان شخصية جلال لتبدو الصورة الأوفى لذاك الغارق في الخداع الذاتي. فهو كان يمم شطر بيروت كي يصير شاعراً ذائع الشهرة، الا انه بعد انقضاء اعوام واقتصار نتاجه على القليل الذي لا يبشّر بموهبة واعدة لكنه كان يوهم نفسه بأنه على وشك بلوغ مأربه. ولا تكتفي الرواية بهذا القدر في تصوير الشظف العاطفي الذي يعانون منه، خصوصاً وداد. فثمة ميل الى اتخاذ العلاقة المُثلية التي تنضوي فيها عمتها وصديقتها دلالة على انعدام العلاقات السوية والافتقار بالتالي الى العاطفة الطبيعية. اي ان الرواية تتخذ من التصوّر العمومي الشائع للعلاقة من هذا القبيل عبارة على محض رغبة حسيّة شاذة. ومثل هذاالتصوّر قد يُضيء جانباً من طبيعة الشخوص ويسهم في فهم من حولهم، غير انه بما ينطوي عليه من حكم اخلاقي مسبق يبدو اسقاطاً يُثقل كاهل القصة.