لا يعرف البعض عن أوغاريت، التي كانت جاثية في تل رأس الشمرة شمال اللاذقية في سورية، أكثر من أنها المدينة الكنعانية التي أبدعت اولى الأبجديات. وبعض زوار أطلال أوغاريت تبهرهم الاطلالة على الشاطئ اللازوردي اكثر من الأطلال. فمن واجب الآثاري المؤرخ ان يعيد الموقع حياً في بهائه، وان يروي الحديث المهموس وراء كل حجر والقصة الكامنة وراء كل جدار، وان يستعيد أيام السعد والنحس في هذه الحاضرة الكنعانية، ويرسم صور ما هو الحقيقة أو أقرب ما يكون الى الحقيقة. ونحن نود في هذه النبذة ان نستعيد رحلة مركب أوغاريتي ذهب ذات يوم منزلقاً على مياه البحر الابيض المتوسط وأوغل في إبحاره الى ان رقد في اللجج على شواطئ الأناضول قبل حوالى ثلاثة آلاف وثلاثمئة عام، ولم يستفق الا منذ ثمانية عشر عاماً. أوغاريت والبحر كان امتداد مملكة أوغاريت على اليابسة قليلاً نسبياً، قد لا يتجاوز حدود محافظة اللاذقية الحالية بكثير. لكن مدّها التجاري على البحر كان واسعاً جداً، شأنها في ذلك شأن اخواتها أرواد وجبيل وصيدا وصور، كلٌ في فترة زمنية محددة. ولم تكن أوغاريت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد تتعامل مع الشاطئ الكنعاني ومصر فحسب، اذ ان هناك دلائل لا يرقى اليها الشك في تعاملها المبكر مع قبرص والحثيين في الاناضول ومع رودس وكريت وبحر ايجه. ولا نستبعد ان يكون القصدير الذي تستجلبه أوغاريت لخليطة البرونز وللتجارة في البحر المتوسط، لا تقتصر مصادره على آسيا وما وراء الرافدين، بل ربما كان المهتمون في أوغاريت يعرفون مناجمه عبر جبل طارق في الكورنواي وجزر الكاستيتيريدس جنوب انكلترا ومن اسم الاخيرة اشتق اسم القصدير. كانت هذه الانشطة الواسعة جغرافياً تحتاج لاسطول تجاري كبير، وهذا الاسطول يحتاج لأسطول حربي يحميه من العدوان والقرصان. وكان ابحار المراكب يتم بالمجاذيف والأشرعة معاً، وبالاعتماد على الرياح المواتية. وكان الابحار يتم في الشهور الجافة جهد المستطاع. وتقدر ن. ك. ساندرس في كتابها "شعوب البحر" ان مجموع قطع الاسطول الاوغاريتي كان ينوف عن 150 قطعة. وبعض القطع تحمل اكثر من 500 طن الطبعة الفرنسية عن الكتاب المذكور 1981، ص 38. كما ان جان نوغايرول العالم المختص بالكتابات الأكادية في أوغاريت/ رأس الشمرة، يستنتج من تلك الكتابات ان محمول بعضها يصل الى 6000 هكتوليتر تقارير الاكاديمية الفرنسية العام 1960 ص 165 وذلك يعادل 600 طن. ويُستنتج من بعض المراسي الحجرية التي تصل الى نصف طن وزناً، ان المراكب التي تعود لها تكون بطول 20 متراً ومحمولها بحدود 200 طن. ويبدو ان هذا التقدير معقول. ومهما كان من امر هذه التقديرات التي كانت موضع نقاش، فان اكتشاف المركب موضوع البحث اعطانا فكرة صحيحة عن حجم المراكب الاوغاريتية الكبيرة التي كانت في الحقيقة اكثر مما كان يتصور الباحث بالنسبة الى ذلك العصر. وكان للمراكب الأوغاريتية اسماء متنوعة نعرف منها "بر" و"ثكت" و"أني". ولعل كل منها كان يدل على نوع او شكل او سعة. ويسمى طاقم السفينة "مالاحو" اي الملاحون في العربية، وقائد المركب يسمى "رب مالاحو". ونعرف من نقش احد الاختام الذي عُثر عليه في القصر الجنوبي في أوغاريت شكل المركب من الطراز الاوغاريتي: مقدمته عمودية تماماً كالنموذج المسمى جبيلي، وهو المعروف في الوثائق المصرية. ويعلو هيكل السفينة حاجز. والمجاذيف تخرج من جسم المركب، الامر الذي يدل على وجود كوّات للتجذيف. وسارية المرفأ ضخمة وقاع المركب مقعر عن جبرائيل سعادة "مرفأ أوغاريت" وقائع ندوة بلاد أوغاريت حوالى 1200 ق.م، باريس 1993 ص 211. ذلك ما يتعلق بالمراكب والمراكبية، اما من حيث سلامة الرسو، فان المرفأ الأوغاريتي المسمى "ماخادو" اي المأخذ في اللغة العربية والواقع على بعد حوالى كيلومتر من أوغاريت ويعرف حالياً باسم "المينة البيضاء" هو مكان يتمتع بحماية طبيعية تامة، وعمق مناسب، وشاطئ رملي متدرج، يبين نتوءين صخريين، يسهل سحب المراكب الى الشاطئ. ويصبّ في هذا المرفأ نهر صغير يتسع عند المصب فيسهل ايضاً ابعاد المراكب الى مناطق الأمان عند مداهمة الخطر. وبالاختصار ان موقع أوغاريت الجغرافي بين قبرص والأناضول وقربها النسبي من بحر ايجه ووجود بلاد الشام والرافدين من ورائها، ومرفأها الممتاز، جعلت البعض يرجح انها كانت اول مرفأ دولي كبير في التاريخ وليم كاليكان، الشرق والبحر، بروكسيل 1967، ص 46. في عرض البحر لنتعرف الى ربّان مركب أوغاريتي تجاري، ولفترض ان اسمه "صادق" وهو قريب من "صادقن" وهو اسم ربان منقوش على ختم اسطواني عُثر عليه في مرفأ أوغاريت سعادة، المرجع السابق، ص 215. وقد حضر هذا الربان متعجلاً الى المرفأ، بعد ان قدّم فروض العبادة لبعل في هيكله القائم في ذروة المدينة. وفي المرفأ التقى ببحارة مركبه وبعض التجار الذين يبيعون ويشترون في موانئ المتوسط، وبعض المسافرين القبرصيين والميسينيين العائدين لبلادهم. يضاف لهم بعض الحرفيين المولّجين بإصلاح اعطال المركب والصيانة. المركب متوسط الحجم لا يتجاوز طوله 15 متراً. وهو من الطراز السوري المعروف في الرسوم المصرية كما ذكرنا سابقاً. تُدخل الى المركب اولاً بأول البضائع والمواد التي سوف يحملها ومؤونة الملاحين والمسافرين. ويقف صادق او كاتبه حاملاً بين يديه لوحاً خشبياً بدرفتين، مطلياً بطبقة شمعية ينقش عليه بالأوغاريتية كل منقولات المركب قبل تحركه. وتتشكل تلك المنقولات من سبائك النحاس المصنعة في مصاهر اوغاريت على شكل جلد ثور مجفف. وهي تستخدم كمادة خام او بمثابة نقود في التبادل التجاري. وكل منها يزن حوالى 25 كغ ومعها سبائك اصغر حجماً بشكل وسائد او اقراص. وثمة سبائك من القصدير الصافي مما تجمع في مستودعات مرفأ اوغاريت من مستوردات قادمة من آسيا. يضاف لها اقراص كبيرة من الزجاج وخامات من اللازورد، وجرار كنعانية ملأى بزيت البطم، وخواب ضخمة ملأى بأوان صغيرة وسراجات فخارية. ويضاف الى ذلك موازين وأوزان للبيع والشراء، وتحف وأمتعة شخصية وغير ذلك كثير. وبعد استكمال شكليات السفر أبحر المركب في بحر هادئ في نهايات الصيف، في احد ايام القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ولفّه غبش الصباح وغاب عن الأنظار، وهو متجه نحو الشمال الغربي قاصداً "آلاشيا" قبرص القديمة على بعد حوالى مئة ميل بحري. وبعد بضعة ايام يوازي المركب شاطئها الشمالي الشرقي ليبتاع من احد مصاهر النحاس الشهيرة مثل "بيلا كوكينو كريموس". سبائك نحاسية اخرى، وبعض الفخاريات ويتزود بالمياه والمؤونة. كما يبيع التجار المسافرون فيه بعض محمولاتهم الكثيرة. ثم يبحر المركب باتجاه سواحل الأناضول ويوازيها محاولاً الوصول، تقديراً، الى جزيرة رودوس ومنها الى كريت؟ وبوصوله الى شاطئ مقاطعة ليكيا، هبت عواصف عاتية واصبح الموج يلف المركب بشواهق الماء، فحار الربان كيف يصل الى الشاطئ، وهو لا يرى شيئاً في الأفق. والملاحون منهكون والمسافرون يرتمون ارضاً. ويصطدم المركب اخيراً بصخور رأس أولو بورون أي الرأس الكبير على بعد حوالى 8 كم الى الجنوب الشرقي من بلدة كاش التركية الحالية. كانت الصدمة من القوة بحيث قسم الى شطرين هذا المركب المشيَّد بخشب الأرز المتين، وغاص الى القاع وتناثرت الحمولة الثقيلة. ولا ندري ان كان قد نجا احد الملاحين او المسافرين. ثم هدأت العاصفة وغيبت اللجة كل شيء. وبقي سر المركب مجهولاً حوالى ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام كما ذكرنا من قبل، حتى أخبر عنه الغطّاس الباحث عن الاسفنج المواطن التركي محمد شاكر العام 1982. انتشال بقايا المركب ومحموله عملت في استخلاص ودراسة ركام المركب المتشكل في الأعماق، بعثة اختصاصية من "معهد الآثار الغارقة" في جامعة تكساس الاميركية، بإدارة رئيس المعهد المذكور الدكتور جورج باس الغطاس الشهير بالمشاركة مع الاختصاصي التركي كمال بولاك من العام 1984 الى العام 1994. وُجدت بقايا المركب على منحدر قوي، المقدمة على عمق 44 متراً وبقية الهيكل على عمق 52 متراً، وبعض محمولات المركب مبعثرة على عمق 61 متراً. وجرى التثبت من تفاصيل المركب التي عرفناها في النقش الأوغاريتي المذكور سابقاً. وتم رسم اجزاء المركب وانتشال الممكن منها، كما استُخرج حوالى عشرين طناً من الحمولة، هي ما تبقى مع طول الزمن، واكثرها عداً ووزناً 354 سبيكة من النحاس يضاف لها حوالى طن من سبائك القصدير، وهي اقدم ما عرف من سبائك القصدير الصافي. ويرى جورج دوسان ان القصدير القادم من آسيا كان يُجمع في أوغاريت ويشحن منها ج. دوسان "طريق القصدير في الرافدين زمن زمريليم" المجلة الاسيريولوجية 1970، ص 101 - 103. وقد عثرت البعثة على مئة سبيكة من الزجاج السوري بألوان الأزرق والتركواز والخزامى. وهي الخامات المعروفة باسم "ميكو" و"أهليبالو" المذكورة في الرقم الأوغاريتية ورسائل تل العمارنة. ويرى هيلتسر انها من المصدّرات الأوغاريتية م. هيلتسر "تنظيم التجارة في أوغاريت" فيسبادن 1987 ص 35 و62. كما عثرت البعثة ايضاً على خامات اللازورد بين بقية المكتشفات. ومن المنتشلات مئة من الجرار الكنعانية التي كانت تحمل زيت البطم الذي كان يستخدم كبخور في الاحتفالات الدينية خصوصاً في مصر. ومثل هذه الجرار عثر عليه المنقبون مكدّساً في مرفأ اوغاريت. والتقط الغطاسون من افراد البعثة خوابي ضخمة ملأى بالأواني الأوغاريتية والقبرصية والمصابيح الأوغاريتية وحاملات المصابيح الجدارية وبعض الأواني الميسينية. وتلك الأواني جميعاً هي من المألوف في بيوت اوغاريت ومدافنها. ومما يثبت اغراض التجارة التي كان يسعى اليها ركاب المركب او بعضهم انتشال موازين ووزنات مختلفة، كما اوردنا من قبل. ومراسي المركب الحجرية التي عثر عليها في الموقع مماثلة تماماً للمكتشف منها في أوغاريت ومرفئها والمعروفة في التقدمات النذرية لمعبد بعل. كما وُجد أيضاً في الركام أنياب فيلة وأسنان فرس الماء وأصداف الأرجوان وعشر من بيض النعام، وجميعها مواد تستخدم في أوغاريت لاغراض فنية. وأيخراً لا بد ان ننوّه بالعثور على أدوات حرفية وأسلحة شخصية وبعض عناصر التزيين الفردية كالخواتم والمشابك والتعاويذ، وأهمها تمثال صغير للربة حامية المركب، ورصيعة من الذهب تمثل عشتار ورصيعة ذهبية أخرى مزينة بأشعة، وكلاهما من المألوف في أوغاريت بخاصة، وفي الوسط الكنعاني بعامة. أما اللوح الكتابي الخشبي ذو الدرفتين فهو أيضاً كشف نادر حقاً. ومن الطرائف العثور على جُعران مصري منقوش باسم الملكة المصرية نفرتيتي، لعله كان مع راكب مصري أو حوري كذكرى لهذه الملكة الجميلة. وأخيراً كان من المقرر أن يُعرض ذلك كله في متحف بودروم لآثار ما تحت الماء في تركيا، ويُخصص قسم خاص لهذا المركب. وقد تتابع العمل فعلاً في 1996-1997. وكان المقدر ان يفتتح في الموعد المحدد له 1999 ولا ندري ان كان ذلك قد تم فعلاً في الظروف الحالية. للراغبين في الاستزادة نقترح المؤلفات والمقالات التالية: 1- THE INA QUARTERLY Institute of Nautical Archaeology Texas A & M University, USA, Nos 1984-1994 2- George BASS, in "National Geographic" December 1987. 3- Cemal PULAK, in "The International Journal of Nautical Archaeology" 1998 27.3:188-224. 4- Gabriel SAADE "Le port d'Ougarit", Actes du Colloque International sur le pays d'Ougarit autour de 1200 av. J.-C. Paris 1993 pp. 211-225. 5- Adnan BOUNNI, Elisabeth et Jacques LAGARCE, Ras Ibn Hani I, Le palais Nord du Bronze Rژcent, Beyrouth, 1998. وفي هذا المؤلف مقارنات عدة بين آثار أوغاريت والآثار المكتشفة في المركب الغارق. تراجع مادة أولوبورون في الصفحات 33، 38، 43، 44، 47، 48، 58، 64، 78، 98.