أكد عضو في المجلس الوطني للإعلام في لبنان أن هذا الأخير سبق ان وجّه كتاباً الى وزير الاعلام انور الخليل يطلب منه فيه توجيه تنبيه الى تلفزيون "المستقبل" الذي يملك مقربون من الرئيس رفيق الحريري معظم أسهمه ل"بثّه عبر الأقمار الصناعية اخباراً تسيء الى سمعة لبنان وتشوّه صورته وتعطي فكرة مغلوطة عن الوضع الإقتصادي والإجتماعي فيه". لكن التنبيه لم يأت من وزير الإعلام هذه المرة، وإنما من رئىس الحكومة سليم الحص نفسه الذي افتتح جلسة مجلس الوزراء اول من امس بإعلان ضيقه من نشرة اخبار "المستقبل" التي تبث فضائياً، علماً انها هي نفسها التي تبث ارضياً، مما يطرح مفارقة قديمة - جديدة تتمثل في ان ما يقال "على الارض" للمواطن اللبناني لا يصلح أن يقال للمواطن العربي الذي تطمح الحكومة الى جذبه مستثمراً الى لبنان. وتنبيه الحكومة "المستقبل" جاء بعد حملة قام بها الأخير في سياق معارضته لها، على أدائها في موضوع الفيضانات التي نتجت عن عاصفة الأمطار الأحد الفائت، وخلّفت خسائر في الأرواح والممتلكات. وسجل للرئيس الحص على اثرها موقف ربما غير مسبوق في تاريخ الحكومات في لبنان، تمثل في اعترافه بالتقصير وفي فتحه تحقيقاً لمعرفة اسبابه. لكن سابقته أُجْهضَتْ، بعدما أعلن وزير الداخلية ميشال المر تحميل المسؤولية لكميات الأمطار الإستثنائية. التنبيه الموجه الى تلفزيون "المستقبل" كان مفاجئاً فعلاً خصوصاً انه مترافق مع تأكيدات متكررة لرئيس الجمهورية اميل لحود على صون حرية الصحافة. ثم ان مطلقيه سبق ان اعربوا عن استيائهم عندما كانوا معارضين، من قرار حكومة سابقة منعت فيه نشرات الأخبار الفضائية للأسباب نفسها التي حذر "المستقبل" بموجبها، لا بل ان الحكومة الحالية استقت عبارات التحذير للمحطة من القاموس القديم نفسه. ويشهد لبنان هذه الايام "عواصف تلفزيونية" متفاوتة القوة ومختلفة الاتجاهات، تؤكد ان التلفزيون فيه تحوّل من مرآة لأوضاعه وناقلاً لها الى مادة هذه الاوضاع وموضوعها. وليست قضية تلفزيون لبنان المثارة اخيراً وأزماته سوى عينة مماثلة. فبالأمس اعلن مصدر في مجلس ادارة هذا التلفزيون ان الوزير الخليل "يتجاوز صلاحياته كوزير وصاية ويتدخل في كل امور التلفزيون متناسياً ان مجلس الادارة معيّن بموجب مرسوم لا بموجب مذكرة ادارية من الوزير". واعتبر "ان عامل الثقة مفقود بين الوزير والمجلس، وتكرس ذلك في التوصية التي رفعها الوزير الى مجلس الوزراء طالباً فيها تعيين مجلس جديد". ويتركز الخلاف الراهن بين الوزير ومجلس الادارة على انتداب الوزير شركة بريطانية لإجراء دراسة عن اوضاع التلفزيون، يقول هو ان كلفتها نحو 130 الف دولار، في حين يؤكد المجلس انها تبلغ مليوناً ونصف مليون دولار اميركي. وسأل "كيف يوفق الوزير الخليل، بين مبدأ التقشف الذي ينادي به ودفع هذه المبالغ لشركة أعدت تقارير وضعتها ادارة التلفزيون سابقاً، ولم تضف شيئاً سوى اقتراح صرف موظفين واستبدالهم، ليكون الأمر مناسباً لتوظيفات جديدة على ابواب الانتخابات النيابية". وإذا كانت هذه الإتهامات تشير الى حجم مشكلات تلفزيون لبنان وإلى أنواعها، فأن تنافس السياسيين على حيازة التلفزيون او حصة فيه يؤشر بلا شك الى عدم اختلاف التعاطي الرسمي معه منذ الحكومات السابقة الى اليوم. وإذا صحت مخاوف مجلس الادارة فان التلفزيون معرّض هذه المرة للإنهيار، خصوصاً ان عضواً في مجلس ادارته اكد ل"الحياة" ان كل تأخير في حل المشكلة يرتب اعباء مالية وديوناً اضافية لم يعد من الممكن على الدولة تحملها". وأشار الى "ان مجلس الادارة وضع دراسة اعتبر فيها ان التلفزيون يحتاج الى 113 مليون دولار لحل مشكلاته اذ تتطلب عملية الإصلاح صرف نحو 300 موظف، قيمة تعويضاتهم نحو 35 مليون دولار، وتوظيف نحو مئة من الطاقات الشابة الجديدة، اضافة الى تحديث تجهيزاته الفنية والتقنية". وعلى رغم ضيق الهوامش أكثر فأكثر وانحسار الحياة السياسية واقتصارها على موالاة مباشرة وغير مركبة، ومعارضة واضحة الاهداف والطموحات، يلاحظ اللبنانيون ازدياداً كبيراً في حجم المواد السياسية التي تبثها التلفزيونات، وكأنها بذلك تعوض غياب السياسة عبر بث صور لها. فتلفزيون لبنان افتتح دورة برامجه الجديدة بأكثر من برنامجين سياسيين جديدين، وزاد من نشرات أخباره. وباشر تلفزيون "المستقبل" موسمه الخريفي ببرنامج سياسي مهّد له بحملة اعلانية كبرى، تقدمه ماغي فرح. اما "المؤسسة اللبنانية للارسال" فمن الملاحظ ان تراجعاً كبيراً حصل في اهتمامها بالسياسة. وحتى برامجها التي سبق ان كانت منابر لأناس كان من الصعب على التلفزيونات الاخرى استضافتها، تحوّلت اليوم صالونات لضيوف من لون واحد. ونقلت المحطة طاقتها الهجومية الى مجال الرياضة، فتجاذبت مع محطة "تلفزيون المر" في شأن تغطية بطولة دولية لكرة السلة، وتبادلتا هجومات غير معهودة بين المؤسسات الاعلامية. ويتضاعف دور التلفزيون في لبنان في صناعة أمزجة اللبنانيين، وفي تحديد ميولهم ورفدها وتكثيفها بصور وحكايات. انه علبة حقائقهم ونزواتهم. وبعدما كان وسيلتهم للتخاطب والمشاهدة والهذر هو اليوم ساحة تجاذب سياسييهم ودولتهم ومعارضتهم. أول من امس كانت مشكلات مجلس ادارة تلفزيون لبنان مع وزير الاعلام خبراً أول. وبالامس افتتح الرئيس الحص جلسة مجلس الوزراء معلناً ضيقه بأخبار تلفزيون "المستقبل". الأمران يؤكدان حقيقة واحدة، ليست بالضرورة ازدياد حجم تأثير التلفزيون في التوجهات العامة، وإنما الارجح تحول الحياة الحقيقية صورة أو مشهداً غير حقيقي. فالتلفزيون لم ينقل الى المشاهد وقائع الحياة السياسية، إنما حولها مشاهد. فعندما ردّ الوزير المر عبر شاشة التلفزيون على منافسه الانتخابي نسيب لحود الذي كان انتقد وجوده في وزارة الداخلية عبر شاشة تلفزيون آخر، قال المر "أنا عقدة حياة هذا الشخص، وتصريحاته لن تبدّل شيئاً، باستثناء ربطة عنقي". فلا شك هنا ان الوزير لم يكن ليقول هذا الكلام لولا وجود كاميرا قبالته. ثم ان لحود الذي اشتكى سابقاً من منع الإعلام الرسمي والمقرّب من الحكم عنه، ما كان ليستطيع انتقاد الوزير لولا كاميرا معارضة. وعلى رغم ان كلام الوزير تلفزيوني أكثر من كلام النائب، اذا اعتبرنا ان التلفزيون هو صورة أولاً وهو تعبير بالملامح قبل الكلام، مضافاً اليها تأشير الوزير الى ربطة عنقه التي هي صورة ايضاً وليست كلاماً، في حين كان النائب في البرنامج الذي استضافه حذراً ومنتقياً الكلام ومحايداً في ادائه الجسماني...فإن التلفزيون هو من صنع الواقعة بين الوزير والنائب. وهي واقعة لن تترك تأثيراً يفوق ذلك التأثير الذي يحدثه فشل ممثل او نجاحه في مسلسل درامي. فالصورة في سرعتها وفي انقضائها بعد لحظات لا تفسح مجالاً الا لانتظار الصورة والكلمة اللاحقة. واللبنانيون بفعل ادمانهم السياسة التلفزيونية تحولوا مستهلكين سريعين للصورة والكلام. فلا يعقب كلام وزير اساسي على عدم اكتراثة بكلام نائب، تفكير وتأمل، وانما انتظار لما سيرد النائب به. والرد بدوره لن يراكم شيئاً، سوى صور عابرة، لن تثقل على النفوس، لكنها لن تغنيها.