لا تستطيع "حماس" ان تغمض عينيها عن جملة التطورات الاقليمية الراهنة ذات التأثير المباشر على برنامجها السياسي، وبما يستوجب إمعان النظر في واقعها ومستقبل تحركها وخياراتها. ومن المفترض في "حماس" كحركة سياسية شعبية ان لا تنتظر دهم التطورات لها حتى تفكر وتستعد لاستحقاقاتها وأكلافها. اهم هذه التطورات بالطبع هو استئناف مفاوضات الوضع النهائي على المسار الفلسطيني، وتنشيط المسار السوري الذي قد يتسارع بشكل مفاجئ مؤدياً الى اتفاق سوري - اسرائيلي يترك خلفه المعارضة الفلسطينية التي استقوت بدمشق طوال السنوات الماضية. في تفاصيل هذه التحولات تتكثف الرسائل المهمة الموجهة الى، والصادرة من، معسكر المعارضة الفلسطينية. وليس من الحكمة التقليل من مغزى "التوصية" السورية العامة لفصائل المعارضة "بالتركيز على الوسائل السلمية في النضال في المرحلة القادمة"، ذاك انها من ناحية عملية وواقعية تهم بالأساس "حماس" والجهاد الاسلامي. كما ليس من الحكمة التعامي عن التحولات القائمة في داخل معسكر المعارضة نفسه، حيث الالتحاق العملي، وإن بتفاوت، للجبهتين الديموقراطية والشعبية بمشروع اوسلو من مدخل "المعارضة من الداخل". وبنفس القدر من البصيرة يجب ادراج التضييق الأردني الجديد على وجود "حماس" في الأردن في سياق التطورات الجديدة. وهو تضييق يتجاوز ان يُحصر في توصيف "أزمة" بين الطرفين، اذ بات واضحاً ان ثمة سياسة جديدة تنتهجها عمان تجاه "حماس" هي استجابة لمطالب خارجية بقدر ما هي تنامٍ لقناعات داخلية، لكنها في المحصلة تُراكم بوضوح ضغوطاً من نوع جديد على الحركة، جغرافياً وقيادياً واستراتيجياً. اضافة الى هذه التطورات الموضوعية، هناك ضرورة قصوى، ذاتية، لاجراء حوار داخلي، ووطني، تقوم به "حماس" لتقييم ادائها خلال سنوات تفاوض وتطبيق المرحلة الانتقالية المنقضية من المفاوضات. والموضوع الأساسي بالطبع هو مناقشة مردود وسلبيات عملها العسكري ومدى ما قدمه ويقدمه الى مجمل القضية الفلسطينية، ومدى تحقق اجماع، او شبه اجماع، شعبي عليه. هذا بالتوازي مع حاجة ""حماس"" الى فترة التقاط انفاس تحدد فيها خياراتها وتراجع فيها سياساتها، وتقوم بمشروع نقد ذاتي يمهد لمستقبل تحركها بوعي أدق. والسؤال المركزي الذي يحتاج الى تناول هادئ وموضوعي، غير سجالي وغير مدفوع بالدفاع المستميت عن "موقف الحزب"، هو ذو شقين: الأول مدى توظيف اسرائيل لعمليات "حماس" العسكرية لتحقيق اهداف خاصة بها، خصوصاً على صعيد التملص من تطبيق بنود الاتفاقات رغم هشاشتها بذريعة عمليات "حماس"، وبالتالي كسب الوقت وخلق وقائع جديدة على الأرض: استيطان، تهويد للقدس، تطبيع اقليمي... الخ. والثاني مدى الضرر او الخدمة الذي قدمته العمليات العسكرية لمجموعة الاتفاقات السلمية، وبالتالي اجهاضها او تكريسها. كثيرون هم الذين انتقدوا وينتقدون عمليات "حماس" العسكرية من زاوية "حماس"هم اللامنقطع لمشروع اوسلو. فبحسبهم، كان بامكان هذا المشروع احقاق اغلب الحقوق الفلسطينية لولا عمليات "حماس"، وما انتجته من سعار امني حكم جوهر الاتفاقات الفرعية اللاحقة. غير ان اوسلو، وبشهادة سنواته الست، عقيم عن العطاء وغير قادر على تحقيق الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية لأسباب بنيوية، لا ضرورة لتكرارها هنا. لكن، وهذه لكن كبيرة، لا بد من القول ان ذلك العقم اختبأ بمهارة خلف الغبار الذي كانت تثيره العمليات العسكرية، وهو عقم تمت نسبته اليها وليس الى الاتفاق نفسه. وبمعنى ما، لم تترك الفرصة للاتفاق كي يشنق نفسه بنفسه بحسب المعارضين، او كي يثبت نفسه ويجلب ما وعد بجلبه بحسب المؤيدين. وبدل ان يكون الاتفاق، وتفاصيله، وثغراته، وآليات تطبيقه هي ما يتسمّر تحت الضوء الساطع، تولدت موضوعة "الارهاب المعيق للسلام"، وهي الاسم الحركي الدولي ل"حماس" والجهاد الاسلامي، لتستأثر بمعظم ذلك الضوء. هذه الإزاحة عن جوهر العقم الاوسلوي حمت اتفاق اوسلو من توسيع دائرة النقد والفعل الشعبي الذي كان سيتضاعف جرّاء انكشاف ظهره في ما لو تم تطبيقه من دون التعذر ب"الارهاب". معظم ما تولد من جرائر عن تطبيق الاتفاق حُوّل جزئياً او كلياً الى مشجب "الارهاب" الذي قيل انه لم يُعطِ الاتفاق الفرصة التي احتاجها! من جانب "حماس"، كان ثمة قناعة دائمة بأن عملياتها العسكرية والتفجيرات التي تقوم بها لن تحرر فلسطين، وان الهدف منها هو مواصلة المقاومة وحمل رايتها ليس الا. لكن هذا التصور غير مقنع تماماً لفلسطينيين يريدون حلاً الأمس فضلاً عن اليوم وليس بالقطع غداً. لذا لا يمكن ل"حماس" ان تنكر ان الاجماع على "مواصلة المقاومة" بأسلوب "حماس" قد تعرض الى ضربات متتالية ولم يبق على حاله القديمة ايام عز الانتفاضة، وبالتالي لا يمكن مواصلة افتراض وجوده كعنصر حاسم من عناصر المعادلة. لقد تشتت الاجماع الفلسطيني "المقاومي"، وكذا سيطرت الحيرة على اقل تقدير في اوساط الفلسطينيين ازاء المقاومة، نظراً لوجود سلطة فاعلة بشكل يومي في الأراضي الفلسطينية، وللآثار الاقتصادية والأمنية لعمليات "حماس"، من بين اسباب اخرى. هذا من دون ان ننسى ان الضربات الأمنية التي تعرض لها جهاز كتائب القسام، في السنوات الثلاث الاخيرة بسبب التعاون الأمني الفلسطيني - الاسرائيلي، قد شلّ بالفعل قدرة هذه الكتائب بحيث بدت عملياتها الاخيرة، كما في طبرية، افعال هواة عشواء لم تضف قطعاً اية شعبية للمقاومة. تذكّر كل ذلك وموضعته في اطار التطورات الجديدة، وأخذاً بالاعتبار ان مفاوضات الحل النهائي قد تستغرق سنوات، والتذكير بالتعنت الاسرائيلي واستراتيجية الاخذ من دون العطاء خلال المرحلة الانتقالية، يجب ان يقود "حماس"، وكذا الجهاد الاسلامي، الى تجميد العمل العسكري في المرحلة القادمة، ونزع ذريعة "الأمن"، وشواهدها الظرفية المستخدمة اسرائيلياً مثل التفجيرات ونتائجها، من كل مراحل "المسيرة الطويلة"! لمفاوضات الحل النهائي. ليس المطلوب من "حماس" ان تنضم الى المفاوضات، ولا ان تؤيدها، ولا ان تتخلى عن مبدأ المقاومة كممارسة ضد الاحتلال. لكن يسعها ان تعلن تجميداً موقتاً لهذه الممارسة لأسباب ستكون مفهومة لكل الاطراف، وفي مقدمتهم منتسبوها في الداخل. فأنصار "حماس"، جماهيرياً وأحزاباً وحركات، يدركون مدى الضغط متعدد الاطراف الذي تتعرض له الحركة، ويدركون ان استمرارها في خط العمليات العسكرية، بات قليل الأثر، ان لم يكن عديمه، في الوقت الراهن، ولا يتوازى البتة مع اكلافه الباهظة. ف"حماس" في نهاية الامر لا تتحرك في فضاء، بل في واقع مليء بالعناصر والظروف المعاكسة، وهي ظروف لا يمكن تحييد فعلها او التقليل من آثارها بإطلاق الشعارات، ولا حتى بتبني ممارسة عملية لم يعد يهضمها حتى مناصرو الحركة. أليس ملفتاً لنظر "حماس" ان تكون الاشادة بمقاومة "حزب الله" في جنوبلبنان ضد اسرائيل في العديد من الخطابات العربية عالية النبرة، فيما تنخفض الاصوات عند الحديث عن مقاومة "حماس" والجهاد الاسلامي، ولا تتعدى اشادة "فك العتب"! ان السبب في ذلك هو الحيرة واختلاط البوصلة بسبب وجود السلطة الفلسطينية، وتفاقم التساؤل عن جدوى هذه المقاومة في الظرف الراهن ومدى واقعيتها، وكذا بسبب الهجمات على المدنيين الاسرائيليين، وهي هجمات لا ترقى لمستوى قتال الجندي مع الجندي كما هي حالة "حزب الله"، مهما سيقت مبررات لها. لكن ماذا يمكن ان تكسب "حماس" من قرار تجمّد من خلاله عملها العسكري في المرحلة القادمة بشكل علني وواضح، وتفقد تميزها الأساسي عن الآخرين "الواقعيين"؟ الاجابة ممكن ان تكون على مستويات متعددة: فلسطينياً، تساهم "حماس" في كشف مفاوضات الحل النهائي ونتائجها ليواجهها الشعب الفلسطيني، وكذا العرب، من دون شماعة العمليات العسكرية وإعاقتها. انها تتوقف عن ان تتوسط الحيّز الفاصل بين المفاوضات ورؤية الناس لهذه المفاوضات، حيث يبدو الامر وكأنها تحجب الرؤية من دون قصد عن حقيقة الحل فلا يظهر من دون غبش او تعلل. ومؤدى ازاحة اي حاجز بين المفاوضات والفلسطينيين انه يعمل على المدى الطويل على تجميع البوصلة الوطنية الفلسطينية، وإعادة انتاج نوع من الاجماع الفلسطيني اما حول المقاومة او حول العملية السلمية. فإذا ظهر ان المفاوضات لن تؤدي الا الى مزيد من اهدار الحقوق كما ترى "حماس"، فإن في ذلك تقوية لرؤيتها السياسية، خصوصاً وان "الصراع طويل الأجل" بحسب "حماس" ولن يضيره توقف موقت عن ممارسة فعل معروف سلفاً انه لن يحرر فلسطين لا في المدى القصير او الطويل. اما اذا رأت الغالبية خلاف ذلك، واقتنعت بما يأتي به الحل النهائي فليس على "حماس"، كما أكدت اكثر من مرة، الا ان تحترم رؤية الغالبية. اسرائيلياً، تُفقد "حماس" اسرائيل عذر الأمن والاختباء وراءه، سواء اقليمياً او دولياً. وهو العذر الذي كان يستخدمه الاسرائيليون لتبرير سياساتهم التراجعية عن الاتفاقات او التأجيلية ليس فقط عالمياً بل وحتى امام العرب. وعلى "حماس" ان تتذكر ان العلاقة بين اسرائيل والدول العربية، الرسمية او الاعلامية، كانت تتحسن نسبياً في فترات ارتفاع وتيرة العمل التفجيراتي، جرّاء نوع مختلط من أنواع التضامن المشترك "ضد الارهاب" خصوصاً وان الضحايا كانوا في غالبيتهم من المدنيين الاسرائيليين. ويمكن ان يزعم المرء ان تجميد العمل العسكري خلال مرحلة المفاوضات النهائية سيصلب الموقف العربي العام ضد اسرائيل، اذ سيتم تحييد احد اهم المشاجب التي تعرضت لابتزاز اسرائيلي بالغ البشاعة. وطنياً، بتجميد العمل العسكري موقتاً فإن "حماس" تبطل اهم فتيل توتر مع السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يخفف الضغط الأمني عن جسم "حماس" السياسي وبنيتها الاجتماعية، ويوفر اجواء لالتقاط الانفاس. وفي مثل هذه الحالة، من المفترض ان تخف القبضة الأمنية المطبقة للسلطة الفلسطينية على المجتمع الفلسطيني بأسره، وبالتالي يتنفس الجميع هواء اكثر صحة، وتبطل كل تبريرات عسكرة الحياة المدنية. كما ان "حماس" بتبنيها المفترض لهذا الموقف تشجع الجبهتين الشعبية والديموقراطية على البقاء قريباً من المعارضة، عوض الاعراض عنها كلياً بسبب التهمة التقليدية بلاعقلانية هذه المعارضة، وهذا من شأنه ان يصلب من الموقف الفلسطيني العام. طبعاً من المتوقع ان تعلو اصوات كثيرة تتهم "حماس" بالتخلي عن استراتيجيتها ومبادئها، وانها تلتحق بأوسلو وسوى ذلك من اتهامات وجهت الى "حماس" بين الحين والحين. على "حماس" ان تكون جريئة في اتخاذ هذا الموقف، وان تدعو منتقديها لأن "يقاوموا" هم ايضاً كما يطلبون من "حماس" ان تفعل، بدل ان يصدروا بيانات الادانة بها. وعلى "حماس" ان تكون علنية وواضحة في الاعلان عن موقفها، وان لا يكون خجولاً أو "ضمنياً"، وذلك حتى يحقق الاهداف التي يمكن ان يحققها. اما انصار "حماس" في المربع الاسلامي، على امتداد العالم العربي والاسلامي، فعليهم ان يدركوا ايضاً ان "حماس" اعذرت الى ربها، كما اعذرت الى جماهيرها، وانه من غير المروءة ان توضع الحركة المحاصرة تحت ضغوطات اخلاقية وشعاراتية لن يؤدي الانقياد لها من دون تغطية ظرفية مواتية الا الى اضعافها، ان لم يكن استئصالها. وان من حقها ان تقدم وتؤخر في اساليبها تبعاً للعناصر الواقعية طالما ظلت ملتزمة بما اعلنته من مبادئ. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا