لا يمكن فهم تاريخ الحداثة اقتصاراً على التقاط تاريخ تراجع وانحصار التقليد، مقدار ما ينصب، في الدرجة الاولى، على مواكبة الاوجه المختلفة لتجليات الذاتية. وسواء تعلق الامر بالحداثة الفلسفية او الجمالية، فإنه يصعب على المرء الاحاطة باسئلة الابداع، وبالتأمل في تعبيراته المتنوعة، اي الاحاطة بالجماليات كمجال خصوصي، من دون ربطه بالفردانية الديمقراطية، وبالذاتية الحديثة، في سياق تاريخ الافكار الغربية. ولا يعني الحديث عن الفردانية، هنا، ان هذه اللفظة تتضمن حكم قيمة بالضرورة، وانما تحمل مفهوماً وصفياً للعلاقة غير التقليدية التي ينسجها المرء مع القانون ومع السائد، لا سيما وانه يمكن لهذه العلاقة ان تعبر عن نفسها من خلال حركات جماعية سواء كانت ذات مقاصد محافظة او ذات مضامين احتجاجية. فقوى المحافظة قد تغير اطرها العملية لإعادة انتاج مقوماتها، بل انها تعمل باستمرار على تغيير نمطها التراكمي، المادي والرمزي، لتوفير شروط الانسجام والتوازن للنظام الرأسمالي لانتاج القيم. ففي الوقت الذي كان فيه القدماء والمحافظون ينظرون الى العمل الابداعي بوصفه عالماً مصغراً يحكمه نظاماً معيارياً موضوعياً عاماً لأسئلة الجمال والذوق، فإنه، في تصور المحدثين، لا ينتزع قيمته الا بالقياس الى مسألة الذاتية، لكي يتحول في الزمن المعاصر الى حالة من التعبير عن الفردنة. فالابداع الفني، اذن، لم يعد انعكاساً للعالم، كما يرى لوك فيري، وانما بات ابداعاً لعالم يتحرك داخله الفنان. وهو عالم يمكننا التفاعل معه او اكتناه خفاياه، ولكنه لا يتقدم الينا بوصفه عالماً مشتركاً. لم يعد ينظر الى الانسجام باعتباره انعكاساً لنظام خارجي عن الانسان، ومن ثم لا يولد الموضوع لدى المرء شعوراً بالاعجاب لأنه جميل في ذاته، بل هو جميل لأنه يمنح الانسان شيئا من المتعة. تدور الجماليات الحديثة، والحداثة الفنية، حول الذاتية بسبب كونها تؤسس الجميل على ملكات انسانية كالعقل والشعور والمخيلة. لم يعد هناك عالم احادي، بديهي، وانما تعدد للعوالم الخاصة بكل فنان. وليس هناك فن، وانما تنوع لا محدود للاساليب الفردية. وبالتالي فالاطار العام الذي يجعل من الجميل مسألة تذوق اصبح واقعاً لا مناص منه. ولان الفنان كائن وحداني "منعزل"، يفترض فيه، كما كان يحلو ل"كاندنسكي" ان يقول، ان ينفصل عن العالم للتعبير جيداً عن "عالمه الداخلي الخالص"، فإن عملاً وحيداً لم يعد كافياً لقول ما هو جوهري، لم يعد هناك العالم، بل عدد لا محدود من العوالم التي تجسد آفاقاً متنوعة للفرد الحي وللانسان الفاعل. وازاء سؤال "ما هذا؟" الذي يفترض تقديم جواب ذي معنى، تحول - هذا السؤال - مع نيتشه وآخرين، الى سؤال يمكن صوغ بالطريقة التالية "ما هذا بالنسبة الي؟". لقد تولد ما يشبه الاتفاق منذ كانط، هيغل، هايدغر وآخرين... حول اعتبار ان الحداثة تتحدد من خلال مسار واسع وغني ل"تذويت" العالم. وتم التعبير عن ذلك فلسفياً في سياق اللحظات الثلاث للمنهج الديكارتي. ففي الفترة الاولى، يتعلق الامر بممارسة الشك في الآراء المكتسبة وفي الاحكام المسبقة الموروثة، وتصفية الحساب مع التقليد. اما في اللحظة الثانية فانه يتعين البحث عن قاعدة استناد لإعادة بناء الفعل المعرفي. وما دام الفرد، او الذات هي التي تمارس الشك وتقوم بالبحث، فإن ديكارت لم يجد افضل من "الكوجيتو" وسيلة للخروج من شكه العام. وهنا تبرز اللحظة الثالثة التي تجعل من الذاتية اطاراً للتأمل، والمنطلق الذي منه تتمكن الذات من القبض على افكارها. واذا كان ديكارت قد التجأ الى الفرد والى الكوجيتو لتجاوز لحظة الشك، فإن "هوبز" و"روسو" بلورا مفهوم الشعب باعتباره كياناً قادراً على تقرير مصيره بحرية، اي انه عبر صوغ مفهوم "الذات السياسية" اصبح من الممكن حل مسألة مشروعية السلطة داخل اطار من التعاقد والتوافق الديموقراطي. لذلك يبدو ان الذاتية، في ابعادها الوجودية، المعرفية، الجمالية والسياسية، هي التي سمحت، في اطار التاريخ الخاص للافكار الغربية، بظهور الجماليات. ولا يندرج ظهورها ضمن فهم لا زمني للابداع والتذوق لأنه يعبر عن فعل تأسيسي للازمنة الحديثة. بل ان الجماليات، وما يرتبط بها من مقومات الحداثة الفنية، تساوق ظهورها مع تحول جذري حصل على صعيد انماط تمثل الجميل حين بدأ ينظر اليه، او يفكر فيه ضمن اطر الذوق والتذوق، اي في اطار ما هو جوهري في الانسان، اي ذاتيته. غير ان السؤال الذي فرضه هذا المعطى، وما زال، هو التالي: كيف يمكن تأسيس موضوعية اعتماداً على تمثلات الذات؟ ما هي المعايير التي تسعف على القول بأن موضوعاً ما او عملاً ما يتميز بالجمال؟ وكيف الوصول الى جواب "موضوعي" طالما ان قاعدة الجميل ترتكز على الذوق، اي على الذاتية الاكثر حميمية؟. لم تؤرق هذه الاسئلة المتشغلين بالجماليات وبحقول الابداع فقط، لأنها كانت تكثف لحظة معرفية وتاريخية عامة، تتعلق ببروز الفرد في علاقته بذاته، وبطرائق ادراكه للاشياء والموضوعات وفي علاقته بالآخرين، لذلك استدعت السياسة سؤالاً من النمط نفسه تقريباً يستفسر حول امكان تأسيس ما هو جماعي استناداً الى الارادات الخاصة. طرح هذا التحول الجوهري، الذي حصل على الادراك والتصور والتذوق، ثلاث اسئلة فاصلة على صعيد فهم الثقافة الحديثة. يتعلق الاول بما يمكن تسميته ب"لا عقلانية الجميل" مع ما يفترضه من استقلال للحس بالقياس الى العقل، وما يستلزمه من اعادة نظر لعلاقة الانسان بالله. اما الثاني فيرتبط بظهور النقد كاجراء فكري يدخل التاريخ ضد التراث، وبوصفه بعداً محدداً للنظر في العمل الفني، وفي مفهوم الكاتب والمؤلف كذلك. وأخيراً بروز مطلب التواصل وتداول الاحكام بين الناس. هل يمكن ان نناقش الجميل في اطار عمومي؟ وهل الشيء الجميل، او العمل الفني الجيد، بوصفه مؤسساً على الذاتية، يمكن ان ينتزع الاجماع حوله؟ اسئلة وموضوعات ثلاثة - لا عقلانية الجميل، النقد، مناقشة الجميل - اسست للجماليات الحديثة واعطت للحداثة الفنية مضامينها ومعاييرها المميزة. وبحكم ان مبدأ الذاتية كان مؤشراً على هذا التحول، فإن استنباته في الانسجة الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والفكرية، في اطار تطور الفكر الديموقراطي، ولد مبدأ تأسيسياً آخر يتمثل في النسبية. بمعنى آخر: ما هي الشروط الممكنة لإقامة موضوعية اعتماداً على الذاتية؟ وكيف يمكن التفكير في العلاقات الاجتماعية داخل مجتمع من الافراد لإعادة بناء ما هو جمعي؟. لعل كانط يتميز بكونه اكثر الفلاسفة الذين انشغلوا بهذه الاسئلة، حيث اعاد الاعتبار للمخيلة، واكد على دورها في عملية الانتقال من الحساسية الى الفهم، وميز بين حكم العقل وحكم الذوق، واعطى للذاتية ابعاداً مختلفة، حين تبرم من الفهم التجريبي للذوق، معتبراً ان حكم الذوق يتغيا توسيع اطار الموضوع والذات لخلق تواصل "ذاتي"، اي ان الجمال - والابداع الفني - وان كان موضوع شعور خاص وحميمي، فانه يستنهض نوعاً من "افكار العقل" الموجودة لدى كل انسان. وبذلك يتعالى على الذاتية الخاصة ويولد حساً مشتركاً، ويغدو الموضوع الجميل موضوعاً حسياً وعقلياً في نفس الآن، وبالتالي قابلاً للتوصيل والتبادل. لم تطمئن الحداثة الفلسفية والفنية الى مبدأ الذاتية، كمفهوم للنظر والسلوك، حتى انهال عليها النقد لا سيما من ثلاث مرجعيات فكرية تمثل، الى الآن، اكثر المقاربات نقداً وعمقاً للذاتية الغربية ولثقافة الحداثة. هذه اللحظات النقدية يمثلها ماركس، نيتشه وفرويد. واذا كان لكل واحد من هؤلاء الثلاثة مجال تفكيره وحقل تأمله، فإن نمط التساؤل الذي اسسه كل واحد منهم. وأسلوب النظر والتحليل الذي اقترحه على الفكر النقدي، اعطيا للحداثة حمولات مغايرة، وللذاتية ابعاداً جذرية في فهمها وتعريتها. لم يمنح كل من ماركس، نيتشه وفرويد للفكر امكان الريبة والشك بالمعنى الديكارتي، لأنهم اقترحوا انماطاً جديدة في التأويل ومقاربات مختلفة للمعنى. خلخلت هذه المرجعية الثلاثية، باختلافاتها ومفارقاتها، جذرياً، الرؤى التقليدية للتاريخ والوعي، والمعنى والذاتية، حتى داخل منطق الحداثة ذاتها. بدأنا مع هؤلاء الثلاثة نفهم ان المعنى لم يعد "لا معنى له"، بل يمكن للمعنى ان يسقط المرء في الخداع والمكر، وبأن الوعي مسكون بالحيل والاوهام. لقد اعطوا، كل بطريقته الخاصة، لنظرية المعنى اللغة المناسبة لتأزيمها، والوسائل الممكنة لاعادة بنائها. انهم شهود على الطلاق بين الوعي والمعنى. خصوصاً ان مسألة الذات تمثل، في العمق، التعبير الابرز عن هذه العلاقة. فالذات هي اصل الشك والشبهة التي حركت نمط تساؤل كل واحد منهم، لأن ما يقدمه النقد الماركسي، وجينيالوجية نيتشه، وميتاسيكولوجية فرويد يتمثل، بالدرجة الاولى، في اعادة النظر في وظيفة الذات، اذ بات ينظر اليها بوصفها مصدرا لتأمل يعمل على "تذويت" المعنى ويجعل من الوعي منفذاً اليه. واذا كان الوعي عند ماركس يفهم في سياق ماديته، فإن الخيط الرابط بين الوعي والتناقض يفترض التفكير في "ذات الايديولوجيا" والتاريخ. اما الوعي عند نيتشه فينظر اليه في اختلاف الانتاج الغريزي وللمعنى المحكوم بالقوة. ومن ثم لا يمكن الاقتراب من العوامل الداعمة للذات، كتخيل ميتافيزيقي واخلاقي، بدون فتح الطريق امام جينيالوجيا الذات. في حين ان الوعي عند فرويد فيتحدد بانكسار المعنى من خلال الاعراض النفسية، اذ يتعلق الامر، عنده، بالبحث عن ذات التحليل النفسي بوصفها شكلاً خصوصياً للتشقق والتمزق وللذات المنشطرة. بين ذات التاريخ المرتبطة برهانات وحيل الايديولوجيا عند ماركس، والذات المنغمسة في تخيلها الميتافيزيقي، والمقنعة بالاخلاق والاوهام عند نيتشه، الى الذات المنشطرة، المنبعثة من تمزق عميق في الكيان الموزع بين النزوع الى الوعي وقوى اللاوعي عند فرويد. بين هذه الاختراقات النقدية الثلاث تزحزحت الذاتية عن مواقعها بوصفها مصدراً للمعرفة وللذوق، بل بفضلها اهتزت النظرة الغربية للذات والحقيقة والواقع اهتزازاً معرفيا حقيقياً.