زاد الحديث أخيراً عن "المؤامرة اليهودية الكبرى" ضد كل ما هو جميل وخيّر في هذا العالم. وأينما حاقت بنا كارثة، كأن تتعطل عملية السلام مثلاً، فإننا نرى أصابع يهودية. فمونيكا لوينسكي يهودية ومن ثم لا بد أنه تم زرعها في البيت الأبيض حتى تظهر في الوقت الملائم. ومع أن التحقيقات أثبتت أن هناك يهوداً آخرين حاولوا إبعاد الرئيس الاميركي عن هذه الفتاة، إلا أننا نمر مرور الكرام على مثل هذه المعلومات، حتى تتعزز نظرية المؤامرة، وصحاب نظرية المؤامرة عندهم من الشواهد والدلائل الكثير، ولكن كما سنبيّن في هذه الدراسة شواهدهم ودلائلهم المادية الصلبة هي شواهد حقيقية ومادية وصلبة ولكنها مع هذا تنتمي الى الجزء دون الكل. وحتى نفهم هذا الوضع بشكل أكثر عمقاً وشمولاً، وّلدنا مفهوم الإنسان الوظيفي الذي يستند بدوره إلى ذلك المفهوم المحوري في العصر الحديث، أي مفهوم الإنسان الطبيعي/ المادي. والإنسان الطبيعي/ المادي هو في جوهره ظاهرة طبيعية/ مادية، وليس ظاهرة تاريخية حضارية متميزة كما قد يتراءى للوهلة الأولى. وقد تفرع عن هذا الإنسان الطبيعي/ المادي نمطان إنسانيان آخران قد يختلفان في مضمونهما عن الإنسان الطبيعي/ المادي أو عن بعضهما البعض، ولكنهما، في التحليل الأخير، واحد في بنيتهما وفي أحاديتهما وفي تجردهما من الإنساني والتاريخي، وفي أنهما يُعرفان في إطار ما هو مادي وكامن فيهما. وهذان النمطان هما ما يلي: 1- الإنسان الاقتصادي: وهو إنسان متحرر تماماً من القيمة، أحادي البُعد، دوافعه الأساسية اقتصادية بسيطة، وما يحركه هو القوانين الاقتصادية وحتمياتها. إنسان لا ينتمي الى حضارة بعينها وإنما ينتمي الى عالم الاقتصاد العام المجرد، وهو لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي تتجاوز الحركة الاقتصادية، وهو يجيد نشاطاً واحداً هو البيع والشراء ومراكمة الأموال وإنفاقها. والإنسان الاقتصادي هو الإنسان الكامن في كتابات آدم سميث، وهو موضوع نقد ماركس اللاذع. 2- الإنسان الجنسي أو الجسماني: وهو أيضاً أحادي البُعد، متحرر من القيمة، وهو الآخر دوافعه بسيطة وما يحركه رغباته وملذاته وشهواته، أي "اللبيدو" وحتمياتها. وهو بلا شك إنسان لا ينتمي الى حضارة بعينها، فعالمه عالم اللذة التي لا تعرف الزمان أو المكان. ولذا فهو لا يعرف الخصوصية، ولا تجد المثاليات، التي تتجاوز اللذة الآنية، مثل الكرامة والشرف، طريقها إليه، وهو لا يجيد إلا نشاطاً واحداً وهو البحث المحموم عن اللذة. والإنسان الجسماني هو الذي اكتشفه سيغموند فرويد، وتارة يمتدحه ويقرظه، وتارة يوجه إليه النقد اللاذع. ويمكننا الآن أن نخطو خطوة الى الأمام ونتحدث عن الإنسان الوظيفي، عضو الجماعة الوظيفية أي تلك الجماعة التي يستوردها المجتمع التقليدي من خارجه أو يجندها من داخله ويوكل إليها وظائف معينة تعرّف الجماعة الوظيفية في إطارها. ومن أهم الأمثلة على الجماعات الوظيفية: الأرمن في الدولة العثمانية، الصينيون في ماليزيا - واليهود في الحضارة الغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر. وإذا كان الإنسان الطبيعي/ المادي يذعن للقانون الطبيعي العام فإن الإنسان الوظيفي يذعن لقانون الوظيفة. إن "المبدأ الواحد الكامن في الطبيعة/ المادة" في حالة الإنسان الطبيعي يصبح "المبدأ الواحد الكامن في الوظيفة" في حالة الإنسان الوظيفي. وقد وصف ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي بدقة بالغة عملية ظهور الإنسان الطبيعي/ المادي الاقتصادي فالإنسان الجسماني لم يكن ظهر بعد إبان المرحلة التي كان يكتب فيها ماركس. وحتى حينما يشير ماركس الى العلاقة الجنسية ]لقد أصبحت العلاقات بين الرجل والمرأة موضوعاً للتجارة، فالمرأة سلعة يتاجر بها[ فإنه يفعل ذلك من منظور نقده لإنسان الرأسمالية الاقتصادي. يقول ماركس في إطار حديثه عن دور البورجوازية الثوري في التاريخ، إن تلك البورجوازية سحقت تحت أقدامها جميع العلاقات الاقطاعية والبطريركية والعاطفية، ولم تُبق أية صلة بين الإنسان والإنسان إلا صلة المصلحة الجافة والدفع الجاف نقداً وعدّاً. ويضيف ماركس أن البورجوازية الثورية أغرقت الحمية الدينية وحماسة الفرسان ورقة البورجوازية الصغيرة في مياه الحسابات الجليدية المشبعة بالأنانية، وجعلت الكرامة الشخصية مجرد قيمة تبادل لا أقل ولا أكثر، وقضت على الحريات الجمة، المكتسبة والممنوحة، وأحلّت محلها حرية التجارة وحدها، هذه الحرية القاسية التي لا تعرف الشفقة أو الرحمة. وأشار ماركس في المسألة اليهودية الى التجربة الرأسمالية الكبرى في اميركا الشمالية بقوله: "إن مامون إله المال هو الوثن الذي يعبدونه هناك بجميع قوى أجسادهم وأرواحهم"، "فالأرض في نظرهم ليست سوى بورصة وهم موقنون بأنهم لا مصير لهم في الحياة الدنيا سوى أن يصبحوا أغنى من جيرانهم. لقد استولت المتاجرة على جميع أفكارهم وليس لديهم تسلية أخرى سوى تبديل أمتعتهم". وهم "لا يتحدثون إلا عن المنفعة والربح" و"النبوءة الدينية أصبحت سلعة تجارية". إن وصف ماركس هنا لإنسان المجتمعات الرأسمالية هو وصف دقيق لكل من الإنسان الطبيعي/ المادي الاقتصادي والإنسان الوظيفي. تهويد المجتمع لكن ماركس، مع هذا، وصف هذه العملية بأنها عملية "تهويد المجتمع"، على رغم أنه كان يعلم تمام العلم أن اليهود لم يكونوا وحدهم الضالعين في هذه العملية الانقلابية الكبرى. وقد قرر في كتابه "المسألة اليهودية" أن ثروة روتشيلد تصبح باهتة بالقياس الى ثروة أي مليونير في الولاياتالمتحدة. وهو في دراسته لهذه العملية الانقلابية، رأس المال، لا يشير الى اليهود سوى إشارات عابرة. فكيف انتقل ماركس، بهذه البساطة، من العام الإنسان الاقتصادي الى الخاص الإنسان اليهودي؟ يجب أن نشير ابتداءً الى أن ماركس كان يرى أن روح الرأسمالية مستمدة من اليهودية لا البروتستانتية كما قال ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني. ولعله كان يعني أن النموذج المعرفي الذري المتفتت الأناني الذي يُشكل جوهر الرأسمالية يوجد في اليهودية بشكل أكثر تبلوراً منه في المسيحية. وسيادة النمط المعرفي الكامن في اليهودية تعني في واقع الأمر الانتصار الكامل للرأسمالية ولإنسانها الاقتصادي. ولكن اليهودي، بالنسبة إلى ماركس، هو سيد السوق المالية، وبواسطته أصبح المال إله إسرائيل الطمّاع قوة عالمية، وأصبحت الروح العملية اليهودية هي الروح العملية للشعوب المسيحية. ويمكن القول إن ماركس لا يفرق بين "اليهودي" و"التاجر"، بل يقرن بينهما، كما أنه لا يفرق بين "اليهودية" و"المتاجرة" و"المنفعة العملية" و"الأنانية" بل يقرن أيضاً بينها. فهو يقول: "التبادل التجاري هو الإله الحقيقي لليهود وأمامه لا ينبغي أن يعيش أي إله آخر"، "المال هو إله إسرائيل الطمّاع ولا إله سواه". إن ماركس حوّل الكينونة اليهودية إلى وظيفة فأصبح التاجر هو اليهودي، وبدلاً من الحديث عن الإنسان الاقتصادي أو الإنسان الوظيفي أصبح الحديث عن "اليهودي"، ويمكننا أن نسميه "اليهودي الوظيفي" أي اليهودي كوظيفة لا كعقيدة أو انتماء إثني. فتهويد المجتمع، من ثم، هو في واقع الأمر تحويل كل أعضاء المجتمع الى بشر وظيفيين، أي بشر طبيعيين/ ماديين، مادة بشرية توظف وتحوسل أي تحوّل إلى وسيلة، وهو أيضاً سيادة النظم المعرفية والاقتصادية البورجوازية وإحلال المجتمع التعاقدي الذري المفتت المبني على الأنانية جيسيلشافت محل المجتمع العضوي المترابط التقليدي جماينشافت. وهذا الانتقال من العام الى الخاص الذي نجده في كتابات ماركس، ليس أمراً مقصوراً عليه، بل هو أمر عام نجده في كتابات كثير من المفكرين الاشتراكيين في عصره وفي كتابات علماء الاجتماع الغربي حتى الوقت الحاضر. فالمفكر الاشتراكي الفرنسي ألفونس توسينيل يحذر قراءه من أنه يستخدم كلمة "يهودي" لا بمعناها الشائع وإنما بمعنى "مصرفي" أو مُرابٍ" أو "تاجر". ومن قبله تحدث شكسبير عن تاجر البندقية وهو يعني في واقع الأمر "يهودي البندقية". ويتحدثون في أدبيات علم الاجتماع الغربي عن الصينيين باعتبارهم "يهود جنوب شرق اسيا"، واللبنانيين باعتبارهم "يهود افريقيا"، وهكذا. كما يشيرون إلى "المهن والحرف اليهودية"، أي المهن والحرف التي "عادة" ما يضطلع بها أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات الغربية. ولكنها ليست بالضرورة مقصورة عليهم، إذ يضطلع بها آخرون في مجتمعات أخرى يُطلق عليهم مجازاً اسم يهود. وكل هذه الاستخدامات تبين أن المعنى هو "الإنسان الوظيفي" بشكل عام وليس "اليهودي" على وجه التحديد، ولكن مع هذا يطلق عليه "اليهودي" من باب إطلاق الجزء على الكل. وفي ضوء ما تقدم يجب أن تكون المقولة التحليلية لا اليهودي بشخصه وجوهره اليهودي المفترض وشخصيته اليهودية الوهمية. إن فعلنا ذلك، فإننا سندرك الواقع بطريقة أكثر تركيبية وحركية، إذ أننا لن نبحث طوال الوقت عن هذا اليهودي ذي الأنف المعقوف والظهر المحدودب، الذي لا ولاء له إلا لمنفعته ولذته، والذي لا وطن له، والذي يضطلع بوظائف طفيلية أو مشينة حتى يفكك نسيج المجتمع، والذي يحيك المؤامرات المستمرة "ضد العروبة والإسلام والبشر على وجه العموم". فمثل هذا البحث، عنصري سطحي، لا طائل من ورائه، يحجب الرؤية ويؤدي الى عدم إدراك عملية التفكيك الكبرى التي يضطلع بها "اليهودي الوظيفي"، أو "الإنسان الوظيفي" أو الإنسان الطبيعي/ المادي الاقتصادي والجسماني الذي لا يرتبط بأي وطن ولا يبحث إلا عن مصلحته ومنفعته ولذته، ولا يرتبط بأي رابط. هذا الإنسان الذي لا يدخل إلا في علاقة تعاقدية باردة مع مجتمعه في ضوء ما يحصل عليه من منفعة ولذة، ولا يتجاوز انتماؤه لهذا الوطن هذه المنفعة وتلك اللذة. هذا الإنسان الطبيعي/ المادي الاقتصادي - الجسماني قد يكون يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً، أو شخصاً لا ملة له ولا دين. فاليهودي لم يعد ضرورياً لعملية التفكيك الانقلابية الكبرى. والمعادلة التي نفترضها هي ببساطة: الإنسان الطبيعي/ المادي الاقتصادي - الجسماني = الإنسان الوظيفي = اليهودي الوظيفي. وعلى رغم تساوي هذه الأنماط بل ترادفها إلا أن الواحد ليس هو الآخر، بل يمكننا القول إن الأساس في هذه المعادلة هو الإنسان الطبيعي/ المادي الاقتصادي والجسماني، وأن اليهودي الوظيفي، إن هو إلا أحد تجليات الإنسان الطبيعي/ المادي فحسب، وأنه ليس الأساس بأية حال. وإذا كان هذا أمراً مهماً من الناحية التحليلية، فقد أصبح أكثر أهمية في الوقت الحالي للممارسة السياسية اليومية. فالنظام العالمي الجديد سيقوم بتحويل قطاعات عدة في المجتمعات الإنسانية نخب ثقافية وسياسية محلية - قيادات ثورية سابقة - قطاعات اقتصادية الى بشر طبيعيين/ ماديين، همهم هو منفعتهم ولذتهم، وبالتالي من السهل تحويلهم إلى ما يشبه الجماعات الوظيفية التي تعمل لمصلحته. كل هذا سيتم بهدف تفكيك مجتمعاتنا بعد أن فشل الاستعمار القديم في عملية المواجهة المباشرة والصريحة معنا، وبعد تزايد نفقات المواجهة العسكرية. وستتم عملية التفكيك هذه تحت مظلة ما يُسمى "العولمة" والتخلص من الخصوصية والهوية والذات وكل مخلفات الماضي. وهذه النخب تقيم بيننا وتتحدث لغتنا وترتدي زينا وتقيم الصلاة معنا في مواقيتها، وبعضهم مستمر في استخدام الخطاب الثوري القديم أو الخطاب الديني الجديد، حتى بعد أن تحولوا إلى ما يشبه الجماعة الوظيفية التي تعمل لمصلحة الاستعمار الغربي، أي حتى بعد أن تم "تهويدهم" بالمعنى الماركسي. ومما يجدر ذكره أن بعض هذه العناصر التي تمت حوسلتها لمصلحة الاستعمار الغربي ستضطلع بالدور الوظيفي اليهودي الموكل لها، أحيانا عن وعي وأحياناً أخرى من دون وعي. * كاتب ومفكر مصري