بعد التصفية النهائية، في مخيّم وادي الجنة قرب العاقورة في منطقة جبيل اللبنانية، شكّل الشبان العرب قرابة نصف فريق المغامرة الذي نظمته شركة فيليب موريس، منتجة مارلبورو، هذا العام. جاءوا من السعودية والكويت والبحرين والإمارات ولبنان وعمان. وكانوا تسعة من 22 مشتركاً آخرين ينتمي معظمهم الى دول أوروبا الشرقية، وكان لهم الفضل في احياء السهرات الأكثر حماسة وحيوية. عبدالله عتيق، عصام الرئيسي، جاسم الحاجي، فراس باقرو، علي الحبشي، غسان داغستاني، مشعل العوضي، أحمد الدشتي وجاد شومان. رافقناهم خطوة خطوة في الأيام والليالي العشرة، مدة المخيّم واكتشفنا، مدى القواسم المشتركة التي تجمع بينهم، خصوصاً في ما يتعلق بالأغاني والنكات والحسّ الرفاقي الحميم. بدأت الرحلة بالنسبة إليّ من بيروت، مع توقف بسيط في أمستردام. وتعرّفت في الطائرة الى بعض أفراد الفريق المشارك ممن كانوا في طريقهم من بلدان الخليج. حطت بنا الطائرة في مطار سان بول - مينيابوليس، قبل الوصول الى مقصدنا النهائي في سولت ليك سيتي. لحسن الحظ أن أحد المشاركين السعوديين كان طالباً في مينيابوليس ويعرف مركزاً تجارياً ضخماً يدعى "مول أوف أميركا" على مسافة قصيرة من المطار، وهناك رأينا تلك التشكيلات المعدنية الهائلة أقرب الى أقفاص محتشدة بالبضائع وبكل ما يمغنط سطوح البصر، لكنها استحقت لقب البدر في تلك الليلة الليلاء، فلولاها كان الضجر قتلنا، خصوصاً أن مطار سان بول يخلو من أية وسيلة للتسلية. مضى وقت الترانزيت بسرعة كما اشتهينا ونزلنا ليلة في سولت ليك سيتي، قبل الانتقال في طائرة عمودية الى موقع المخيّم قرب مدينة مواب في ولاية يوتاه. نحن هنا في "مارلبورو كانتري". في وادي وديان رعاة البقر والهنود الحمر والصخور الحمراء والأجراف الشاهقة ونهر كولورادو ذي المياه الذهبية المائلة الى اللون الأخضر، مما يذكّر العين بالمشاهد الكلاسيكية في معظم أفلام "الوسترن" من جون واين الى كلينت إيستوود، الفارس الوحيد بقبعته المجنحة وعينيه العامصتين ومسدسه الجاهز. ولوهلة بدا المشهد جافاً، جامداً كأنه انعكاس على شاشة وليس حقيقة أستطيع لمسها بكل حواسي، والواقع أن الإحساس الذي رافق الأيام التالية بقي متأرجحاً بين الذاكرة والراهن مثلما يحدث حين تستيقظ من حلم فتراه واقعاً أمامك. كان الفندق على ضفاف نهر كولورادو كناية عن مجموعة خيام، وكشك كبير للطبخ وثلاثة مراحيض نقالة وثلاثة براميل مليئة بالماء البارد للاغتسال. إنه فندق - مخيم، وأجسامنا التي اعتادت معدّلاً من الراحة ووضعاً معيناً للاستراحة، تتلقفها على حين غرّة لفائف كيس السبات وفرشة اسفنج سماكتها أقل من ثلاثة سنتيمترات، أما الوسادة فسوف تتألف من ملابس مطوية، إلاّ أن الوقت كفيل بكل شيء، ففي الأيام التالية تعلّم جسمي النوم في الكيس وتدربت يداي على نصب الخيمة واعادة توضيبها في جرابها الخاص كل صباح، ذلك أننا نمنا في أمكنة مختلفة كل ليلة. والواقع ان التجربة على قدر كبير من الفائدة من الناحيتين الجسدية والنفسية، فعندما يكسر الواحد روتينه اليومي ويستعيد مقاديره البسيطة يكتشف من جديد أهمية بساطة العيش والزخم الحيوي المستمد منها... عدا ذلك كان نهر كولورادو ومحيطه الخلاب مسرحاً لأسبوع من المغامرات المليئة بالخوف والهزج والانتصار على الذات ومقارعة الطبيعة والآلة والعناصر. تاريخياً بدأت فيليب موريس برنامج المغامرات منذ 15 سنة، وفي الحقبة الأخيرة دخل المشاركون العرب في الصورة بقوة، وتميّزوا عموماً بروح رفاقية عالية تشوبها "انتفاضات" الأفراد هنا وهناك على صرامة النظام المرصوص مما لم يعهدوه في تربيتهم. وتتجلى الروح الفردية عند المشترك العربي في الألعاب والرياضات حين يتحمّل الواحد منهم معظم المسؤولية، كقيادة الجيبات التي شهدناها في اليوم الأول. فعلى المنحدرات والمرتفعات الخطرة حيث يقف الجيب أحياناً كأنه معلّق بحبال وهمية بين الأرض والهاوية، برع شبابنا في اختراق الصعاب، ولم يصب أحد منهم بأذى، كما لم يقعوا في مطبّات مستعصية. ولعلّ صيحة اللبناني جاد شومان وهو يبلغ ذروة التلة الصخرية "الى النهاية!" تعبير صادح عن براعتنا كأفراد. كذلك في اليوم الثاني، بينما كانوا ينزلقون على الجبال واحداً واحداً من أعالي الشواهق الصخرية تكثف لديّ الاقتناع بأننا لو نعمل كجماعة كما نعمل كأفراد لكان واقعنا مختلفاً تماماً. نحو الأفضل، من دون شك. وجاء اليوم الثالث ومعه الوجه الآخر للعملة نفسها. هنا كان على الشبان العرب أن يتآزروا يداً واحدة فوق قوارب المطاط وهم يتدحرجون بسرعة عبر المنزلقات الصاخبة. جاء تضافر ضرباتهم متقطعاً، مشوش الوتيرة، وأنقذتهم يد القدر من الارتطام بصخرة لئيمة تربصت بهم مثل ذئب كاسر. مع ذلك كاد البحريني جاسم الحاجي أن يغرق في مياه كولورادو. وتوالت الصيحات لإنقاذه، ثم تهافتت نحوه القوارب والأيدي حتى سحبته من لجة النهر. كتب أستاذ اللغة الإنكليزية في المنامة على صفحات مفكرته ذلك المساء "لعبت بي أمواج النهر الهادرة الباردة وكدت أفقد نفسي لولا لطف الله. كاد التيّار أن يشدّ بي الى القاع. وفي لحظة رأيت زوجتي وأولادي ورأيت ظلاماً دامساً فخلتني انتهيت، لكنه جزء من المغامرة التي قبلتها على نفسي، الا يقول المثل ربّ ضارة نافعة"؟ والواقع أن مشوار النهر كان أكثر الأيام إثارة على الإطلاق، وذلك باعتراف الجميع، ربما لأننا واجهنا قدراً أكبر من العناصر: الماء والهواء والشمس الحارقة. في اليومين التاليين دخلنا لجة أخرى هي دوّامة الغبار. كان لا بدّ لنا من التجوال عميقاً في منطقة الصخور الحمراء لاكتشاف أوسع مساحة ممكنة من ذلك الوادي المهيب. امتطى المشتركون دراجاتهم النارية في اليوم الأول وتبعناهم في الجيبات حتى انتهى بنا المطاف الى مخيّم للهنود الحمر وسط "مونيومنت فالي". كان الهنود الحمر يؤدون وصلاتهم الراقصة على قرع الطبول مزينين بالريش. وكان الشباب فرحين، لانهم وجدوا أنفسهم في المشهد الذي طالما رأوه على الشاشة الفضية، بل في قلبه. في اليوم الأخير حصل لنا شرف حضور رياضة "الروديو" وما يرافقها من ألعاب فروسية شارك فيها الفريق العربي بما يليق بالخيل والليل والبيداء. غسان هاشم داغستاني الموظف في شركة لإطارات السيارات في جدة يقول معلقاً على نتيجة المغامرة "اكتسبنا خبرة في أمور جديدة نسبة الينا. سيارات الدفع الرباعي وتسلق الجبال والتجذيف في نهر كولورادو والتخييم في ست أمكنة مختلفة، ولكن خصوصاً الحياة المشتركة التي أخرجتنا من الروتين، وهي مليئة بالمفاجآت. وهناك فائدة أخرى لا تقل عن غيرها وهي أننا تعرفنا على شباب من دول عربية وأوروبية وكوّنا صداقات لا بدّ أن تطول بفعل الذكريات المشتركة".