لما كانت السيادة للشعر في عصور الفطرة والأساطير فإن الرواية في عصر العلم والصناعة والحقائق صارت هي شعر الدنيا وديوان العرب المحدثين إذ أنها اقترنت بالتسامح الذي يواجه التعصب، والعقل الذي يواجه النقل، والابتداع الذي يواجه الاتباع. فالرواية العربية التي راحت تبلور أشكالها وتصقلها بعد الحرب العالمية الثانية هي الرواية الساعية في اصرار لا يلين الى أن تكون مرآة المجتمع المدني الصاعد، وزمنها هو الزمن الذي شغل الناقد جابر عصفور في كتابه الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة - 1999" وهو كتاب كان من حوافزه جريمة الاعتداء على نجيب محفوظ منارة الرواية العربية لا لشيء إلا لأنه حلم في أن يرى "أولاد حارتنا" مشرق أنوار المعارف التي لا تحجبها أسوار التعصب أو الاتباع. "فأولاد حارتنا" لم تكن رواية متواصلة مع تراثها البعيد فحسب وإنما كانت متواصلة مع تراثها القريب، إذ أنها بدأت من حيث انتهت "غابة الحق" التي نشرها فرنسيس المراش في حلب سنة 1865 و"الدين والعلم والمال" التي نشرها فرح أنطون في الإسكندرية سنة 1903. فزمن الرواية كما يرى جابر عصفور يوجد حين يغدو التمرد على الأنساق المغلقة بداية انهيار هذه الأنساق، وحين يواجه الوعي الإبداعي ما يعوق تقدمه، وحين تتولد رغبة التحرر عارمة، وتتواصل امكانات التحديث فارضة وجودها وينبثق حلم العقل بمدائن المستقبل الخالية من القمع" أي أن زمن الرواية هو زمن الاستنارة التي تعني أولوية العقل في إدراك المعرفة. وإذ وصف أحد النقاد الغربيين الرواية الأوروبية بأنها ملحمة الطبقة الوسطى التي تكشف عن ضياع الإنسان وغربته في المجتمع الحديث فإن جابر عصفور يؤكد أن الرواية العربية هي ملحمة الطبقة الوسطى ولكن في البحث عن هوية لها، لأنها رواية التمزق القائم بين "الأنا" القومية والآخر "الغربي". فإذا كان الشعر - كالقصة القصيرة - ابن اللحظات الأنية فإن الرواية ابنة اللحظات المتعاقبة، وابنة اللحظات الرمادية المتحولة التي تمزج النقائض وتجاور ما بين الأضداد. فالرواية فن الطبقة التي تولدت من التغيّر، وفن المدينة العربية التي تدخل عصر التصنيع، وهذا ما عبّرت عنه رحلة القص ما بين ثلاثية نجيب محفوظ وصولاً الى خماسية "مدن الملح" لعبدالرحمن منيف. هي الرحلة ما بين تحولات المدينة النهرية الكبيرة التي بدأ تاريخها بالتمرد على الاستعمار القديم الإنكليز في ثورة 1919 الى ولادة المدينة النفطية الجديدة في الصحراء، فإلى انتقال يلوح في مركز الثقل من مدينة النهر الى مدينة النفط. ولما كانت الرواية ذات طبيعة بوليفونية صار سلاحها تدمير الأنساق الأيديولوجية المغلقة، فاستنزلت الشعر من عليائه وأفادت من "شعريته" وجعلت منه عنصراً من عناصرها التكوينية حتى ولو أن قراءة الروايات عُدَّت في القرن التاسع عشر سبباً من أسباب فقدان الرشد، على نحو ما جاء في أرشيف مستشفى الأمراض العقلية التي اطلع عليه فلوبير عندما شرع في كتابه "مدام بوفاري" أو ما كتبه الأب اليسوعي اميدي لوريول بمجلة المشرق سنة 1890 إذ قال: "من ثمار الروايات أنها تزرع في العقل مبادىء قلة الدين والكفر. وذلك لأن أصحاب هذه الروايات يغلب عليهم روح الزندقة والإلحاد فيضمنون رواياتهم تعاليم سيئة يمزجونها بأخبارهم الفكاهية كالسم في الدسم فيتشربها عقل القارىء من حيث لا يدري". أما جان ريكاردو وفي نهاية القرن العشرين فقد رأى أن الرواية من حيث هي جنس متميز لا حدود لها نظرياً، بل تتسم بمرونة شكلية هائلة، سواء في التعبير عن الفرد والمجتمع أو الاحتجاج على الفرد والمجتمع، لذا فالرواية هي مغامرات كتابة أكثر منها كتابة مغامرات. وفي هذا قال نجيب محفوظ أيضاً منذ ما يزيد على خمسين سنة أن الرواية هي الفن الجديد الذي يوفق بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه الدائم والقديم الى الخيال. ولكن السؤال يبقى حول السرد الروائي وتقنياته ومعالجاته. فمن المعروف أنه مهما قيل في نظريات السرد الحديثة Narratologie فإن الجذور الأولى للناراتولوجيا ترجع الى أرسطو ولو أن ازدهارها الفعلي يبدأ في أواخر الخمسينات من هذا القرن مع ما قدمه كلود ليفي شتراوس من تحليل للسرد الأسطوري في كتابه "الانتروبولوجيا البنيوية" الذي صدر سنة 1958 الى جانب ما كتبه رولان بارت عن المدخل البنيوي الى تحليل السرد سنة 1966 وما انتهى اليه كل من جيرار جينيت وجيرالد برنس ومايك بال وفرانز ستانزل وسوزان لانسر ووالاس مارتن وغيرهم. فالقص هو سبيلنا الذي نعقل به الأشياء في الحياة التي لا تتبع المنطق العملي بقدر ما تتبع منطق القص، لأن التفسير التاريخي أيضاً لا يتبع منطق السببية وإنما يتبع منطق القص فيما يقول فلاسفة التاريخ المعاصرون. وقد يرى جابر عصفور أن روّاد التنوير العربي هم رواد القصة العربية الذين منهم فرنسيس فتح الله المراش وسليم البستاني وعلي مبارك وفرح أنطون والمويلحي وأليس البستاني وزينب فواز ولبيبة هاشم وأحمد فارس الشدياق، ولو أن معنى التخصص الكامل في هذا الفن يعود الى نجيب محفوظ الرائد الفذ الذي رأى في القصة "شعر الدنيا الحديثة" وأضاف الى غياب التخصص غياب المرأة حضوراً وكتابة. ولم تكن مصادفة أن تشغل قضية المرأة الحيز الأكبر من مذكرات الشباب التي كتبها هيكل في باريس وأن تكون المرأة بؤرة الأحداث وعنوان الرواية. فالنظرة الاجتماعية المريبة في المرأة بوجه عام، والنظر اليها بوصفها عورة ينبغي سترها، والحذر من كشفها أو الحديث عنها، هي النظرة التي حاول مقاومتها رواد التنوير الذين اهتموا بتحرير المرأة التي كانت تعتبر "حيوان المتاع والشهوة". وقد بدأ القصص العربي كما بدأ القصص الغربي يستمد مادته من أخبار الحروب والفروسية ونوادر الملوك والعظماء دون أن يصقله وحي المرأة لأن الاتباع في الثقافة العربية ظلّ يحتفي بنواهي التقاليد ومصادراته أكثر من احتفائه بمغامرات الإبداع وتجاربه. لذا لجأ هيكل في رواية "زينب" الى المجتمع الريفي الذي حررته السذاجة والبساطة من التقاليد، وبالقدر نفسه لم يجد هيكل مادة لمحاولاته القصصية اللاحقة إلا في الأدب الفرعوني. ففن الرواية هو فن حواري يقوم على التنوع والتعدد والتباين والاختلاف في مجتمع يعطي للمرأة حضوراً يضعها الى جانب الرجل في قلب المشهد الذي يحاول القاص اقتناصه ومن ثم اقتناص المبدأ الحواري الذي يصل فيه بين المؤتلف والمختلف من أفكار وشخصيات ومعتقدات وتصورات. أما عباس محمود العقاد فبقي على إيمانه التقليدي بأولية الشعر وتدني القصة، الأمر الذي ترك أثره في نظرته الى السينما سواء من حيث صلتها بفن الرواية أو علاقتها بالدهماء التي تؤثر القصة وتفضلها على غيرها من الفنون الأدبية. فمن المعروف أن السينما تعود دائماً صاغرة الى فن الرواية وتلح عليه الحاحاً لافتاً، وهو ما حصل في السنوات الأخيرة حيث شهدنا على الشاشة البيضاء روائع ذائعة كان منها: "أساطير الخريف" و"بقايا نهار" و"البيانو" و"زمن البراءة" و"قلب شجاع" و"بيت الأرواح" و"ساعي البريد" و"العاشق" وغيرها. وقد نازل نجيب محفوظ العقاد القائل: ليست القصة من خيرة ثمار العقول فقال: ان التفاصيل في القصة ليست مجرد ملء فراغ، فهي لم توجد اعتباطاً ولكنها جاءت نتيجة لتطور العصر العلمي، فالعلم هو الذي وجه الانتباه للأجزاء والتفاصيل بعد أن ركزته الفلسفة طويلاً في الكليات. فالأدب لم يعد يكتفي بالأقراص المدمجة كالشعر التقليدي الذي يقوم على الحكمة الموجزة والبلاغة التقليدية التي تقترن بالإيجاز والقول الفصل ونحن لسنا في حاجة الى التذكير بالعبارات التي تمجد العلم في روايات نجيب محفوظ التي كتبها في الأربعينات ومطالع الخمسينات. فكلنا يذكر شعارات أحمد عارف في "خان الخليلي" وغواية العلم التي وقع فيها كمال عبدالجواد في "الثلاثية" ولم ينقذه منها شيء. فبالعلم الذي يكتسب معنى وضعياً في روايات نجيب محفوظ كانت البشارة التي انتقلت بها الرواية، على مستوى وعي جيل جديد من أبناء الليبرالية المصرية أي من أفق المثقف الشمولي التأملي المتفلسف الذي كان يمثله نموذج العقاد الى أفق مثقف عصر العلم الذي يعي عصره ويتعلم منطقه الذي يجاوز المنطق الأرسطي الى أفق مغاير من الحتمية أو العلاقات التي لا تستطيع أن تقتنصها بلاغة الأقراص المدمجة. أما إذا انتقلنا من اشكاليات الرواية عامة الى أفق السيرة الذاتية حضرنا قول الفيلسوف الألماني نيتشه "نحن لا نتحرر إلا من خلال التذكر" لأن هناك قيوداً تظل عالقة بالنفس ومطمورة في اللاوعي كالداء الذي ينتظر الدواء. من هنا كانت كتابة السيرة هي فن الذاكرة الأول. وللذاكرة لحظات متوترة تدفع الأنا الى التأمل في ماضيها كما لو كانت تتأمل حضورها في مرآة منقسمة الى ثلاث ذوات: ذات فاعلة للتأمل، وذات منفعلة به وذات موضوع هي مفعول لنفسها. أما العلاقة بين الوعي والذاكرة فهي لحظة جدّية تدفع بحضور الراوي المأزوم أن يصل الى نقطة حاسمة تدفعه الى مراجعة كل شيء أو وضع كل شيء موضع مساءلة. مؤكد أن هناك فارقاً بين وعي المؤرخ الذي ينبه نفسه دائماً الى تيقظ الحس النقدي في كل الأحوال، ووعي كاتب السيرة المفتوح على طبقات لا شعوره في كل الأحوال. ومؤكد أن نوعية الأرشيف الذي يعتمد عليه الإثنان مختلفة اختلاف المادة المشفرة. ولكن تشفير المادة نفسها يظل واحداً رغم اختلاف الفاعلين، وآليات التأويل تظل واحدة رغم اختلاف المستويات الواعية واللاواعية ما بين كاتب السيرة والمؤرخ. وكثيرة هي الأمثلة الدّالة على رواية السيرة الذاتية في تنوعاتها المختلفة فمنها غرباً "آلام فرتر" التي كتبها غوته سنة 1774 و"قصة طفل شرير" التي كتبها توماس الدريش سنة 1880 و"صورة للفنان شاباً" التي نشرها جيمس جويس سنة 1916، ومنها شرقاً "عودة الروح" للحكيم و"ابراهيم الكاتب" للمازني و"سارة" للعقاد و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي و"الخبز الحافي" لمحمد شكري. غير أن رواية السيرة الذاتية تعدّ مظهراً من مظاهر رقعة المسكوت عنه وتفجر الرغبات المكبوتة وخطاباتها المقموعة، إذ يبدو أن الحاح الروائيين والروائيات في السنوات الأخيرة على الرواية الذاتية يرجع الى ضغط الحياة المعاصرة الذي يدفع الذات الى مراجعة علاقاتها بالعالم وعلاقاتها بنفسها. وغير بعيد عن ذلك سقوط الأحلام الكبرى وتهاوي المشروعات القومية واستبطان هذه اللحظة من حياة الكاتب بدل السردية الكبرى لذاك المشروع القومي أو هذا العهد الواعد من تاريخ الأمة. ولما كان فن السيرة يتقاطع أبداً مع فن الرواية تحولت بعض السير الذاتية الى عمل روائي لا يتردد النقاذ في نسيان اطاره المرجعي الشخصي من حيث هو سيرة ذاتية الى اعتباره رواية سيرة ذاتية كما "الأيام" لطه حسين إذ اعتبره البعض سيرة ذاتية في حين اعتبره آخرون عملاً روائياً متميزاً. فنحن إذ نقرأ "مذكرات في السياسة المصرية" لمحمد حسين هيكل نعرف منه تقلبات السياسة في عصره وأسرار حزب الأحرار الدستوريين الذي انتسب اليه سواء في علاقته بالقصر والإنكليز من ناحية أو الشعب من ناحية ثانية أو الأحزاب المعبرة عن ذلك الشعب مثل الوفد من ناحية أخيرة. وليس الأمر على هذا النحو في "الأيام" التي نقرأها لا لما فيها من معرفة تاريخية مباشرة بالدرجة الأولى، وإنما لما تتيحه لنا من "لذة القراءة" التي تفتح أمامنا أبواباً مغلقة من المشاعر والانفعالات والخبرات، وتتيح لنا تعرف ما لم نكن نعرف من جوانب النفس البشرية. فالرواية هي الأفق المفتوح الذي يستوعب كل أنواع الإبداع، لذلك فإن العمل الروائي - كما يقول عبدالله العروي - هو جهد فكري وفني شاق، وبحث مضنٍ عن الموضوع الضائع. فالرواية رغم قصر عمرها الزمني قد غيّرت ضمير العالم المتمدن وكان لها تأثير فاق تأثير داروين وماركس وفرويد في الثقافة المعاصرة، أما السبب فيرجع الى الحرية التي يحس بها الكاتب الروائي إزاء مادته والحرية التي يغامر بها في صياغة أهدافه والحرية التي يسهم في تأسيسها حين يهدف الى التحليل الأخير الى الارتقاء بالقارىء من مستوى الضرورة الى مستوى الحرية. وهكذا وبعد أن جاب جابر عصفور أزمنة الرواية كفن تربع متجاوزاً الشعر وليس متوازياً معه عاد ليوازي - وكأنه ينقض نفسه - بين تجربة أدوار الخراط الروائية وتجربة أدونيس الشعرية فرأى أنهما أبرز أديبين عربيين وصلا بالوعي المحدث الى ذروته الإبداعية، تلك الذروة التي جعلت كتابة كل منهما قرينة المغامرة التي فتحت للوعي المقموع أبوابه المغلقة، واستبدلت بمبدأ الواقع مبدأ الرغبة، واضعة أندلس الأعماق ومخلوقات الأشواق الطائرة في مدى الرؤية، متيحة للزمن الأخر أن يتجسد في كتابة تحرك الزاوية والقاعدة، وتغيّر الأساس والحجارة، وتنسج صوتها الشفقي من لغة رجيمة تتبطن الدنيا وتخلع باب حكمتها القديمة. هذه الحداثة ليست غواية الجنون وحده، وليست صنعة الهدم الذي لا يعرف البناء وليست اللاعقل الذي ينقض العقل نقضاً، فهناك دائماً شيء عقلاني يبدو كأنه نقيض الجنون الذي يفضي بالكتابة الى العبث واللامعنى، شيء يشير الى حضور العنصر الأبولوني الذي يكبح دائماً جنون الجموع الديونيزي الذي يتلهب في علاقات التفارق التفاصل، التراسل التقارب، التباعد التجاوب، انه أخيراً ذروة البركان المحكومة بانضباط وفي الوقت نفسه هو الذروة التي بلا حدود شأن كل حرية.