قد تكون النسمات الخفيفة والمتوهمة احياناً التي تحدثها شجرات قليلة متبقية امام مكتب "الحياة" في بيروت، والتي تزنر موقف السيارات المجاور، احد اسباب الشعور الذي ينتاب اياً منا او زائرنا. فيدخل ما ان تغطي رأسه ظلال تلك الاشجار في ايقاع مختلف قليلاً عن ذلك الذي كان منغمساً فيه قبل وصوله، في ازدحامات شارع الحمراء، او في الرطوبة الخانقة في الازقة المحيطة والبعيدة. وشجراتنا هذه ليست الوحيدة المتبقية في بيروت، لكن لظلالها قوة وكثافة مختلفة ربما، يحس معها القادم الى الحيز الذي تغطيه من مكان قريب انه عبر الى اجواء جديدة بعض الشيء. وعلى رغم اقتصار مرافقة هذا الشعور للمرء من المكان الذي يركن فيه سيارته الى مدخل المبنى، حيث يعود من جديد محيطه الاسمنتي الجاف، تبقى للأمر نكهته وجدواه، في التخفف من بعض آثار الضجيج والازدحام العالقة في صدورنا. بالامس تعرضت الشجرات لحملة تشذيب كبرى. والتشذيب لم يكن بقصد صيانتها، وانما لإزاحة فروعها الكبيرة الممتدة لتغطي محيط موقف السيارات التي على ما يبدو ازعج اصحابها استمرار تساقط اوراقها عليها في فصل الخريف هذا. وبما ان غاية التشذيب لم تكن الصيانة، فإن المشذب، اقتطع فروعاً اساسية منها ظهرت الشجرات من دونها هزيلة وهشة، وأصبحت الجذوع في الامكنة التي استئصلت منها الفروع مهشمة الى حد قد يتساءل المرء عن امكان نجاة الشجرة من يباس محتم. زميلنا محمد الذي يقيم في مكان قريب من المكتب لطالما تحدث عن جمال المكان الذي شيدت عليه معظم الابنية المحيطة، وعن انواع الاشجار والبيوت الصغيرة والمطاعم قبل زحف الابنية العملاقة الى المنطقة، وان هذه الاشجار المتبقية هي اذناب بساتين كاملة كانت تزنر المنطقة حتى وقت ليس ببعيد. لكن حملة التشذيب الاخيرة لم تكن لأسباب وجيهة كتلك التي دفعت بأصحاب الابنية الى تحويل بساتينهم ابنية، وانما مجرد ضيق ببعض اوراق يابسة تتساقط، او افساحاً في المجال لإضافة مساحة لسيارة او سيارتين في الموقف. الحي الذي نعم بسبب الشجرات بظلال كثيفة، وبأنواع من الطيور جعلت من هذه الاشجار جزيرة لها، لم يكترث احد من ابنائه للتغيير الذي حصل بعد حملة التشذيب هذه، او ربما احتفظوا بخيبتهم لأنفسهم، هم الذين يخرجون من الابنية ويدخلونها ويعبرون الارصفة صامتين وغير مستعدين الا لدخول سياراتهم والاقلاع فيها بحياد لا يألفه امثالنا. اما فتية المحال التجارية وورش تصليح السيارات الذين يتجمعون في زوايا الحي، فقد ساءهم ربما في حملة التشذيب انها تؤدي الى رحيل الحمام البري والطيور، التي طالما وقفوا تحت الشجرات يحملون بنادق صيد صغيرة ويصطادونها في سهولة، ثم يدخلون محالهم ليختبئوا فور مشاهدتهم درّاج الشرطة عابراً، مصادفة الحي. والفتية لم يعودوا في المدة الاخيرة مكترثين الى درّاج الشرطة، اذ لطالما اشتكى بعض اصحاب النخوة من سكان الحي الى الشرطة، ولكن لم يأت احد لمنع صيد الحمام في بيروت، الذي يحرم القانون صيده. وحدها السيدة المقيمة في المبنى المقابل، والتي تقضي اوقاتاً طويلة كل يوم هي وابنتها على الشرفة، لاحظت سهولة اختراق اشعة الشمس للاغصان القليلة المتبقية على الشجرات، وراحت تشير بحزن رافعة يدها لتدل ابنتها الى حجم التغيير الذي حدث. قد يكون اقتصار الاعتراض عليها سببه انها السيدة الوحيدة في الحي التي ما زالت تطل من شرفتها على الشارع وتقيم مع العابرين صلات متفاوتة. ففي بيروت وكما لاحظ شوقي الدويهي وكتب، لم تعد الشرفات مكاناً لهذر العائلات ولقاءاتها وسهراتها، وتراجعت حاجة العائلات والجيرة والاقارب الى حيزات مشتركة.