تتكشف، في كل يوم يمضي تفاصيل المخطط التفاوضي الذي ينطلق منه ايهود باراك رئيس وزراء اسرائيل الجديد. وإذا كان الكل قد بدأ يتحدث، وفي المقدمة كبار المحللين الاسرائيليين، عن الشبه بين سياسات باراك وسياسات الليكودي المتطرف بنيامين نتانياهو، فإن هذه المقارنة بين الرجلين ليست عادلة. ومن كثرة ما أدين نتانياهو وهوجم، فإن مجرد القول الآن ان المقارنة بين الرجلين ليست عادلة، تعني مباشرة في ذهن القارئ، وحتى القارئ العربي، ان المظلوم في هذه المقارنة هو باراك، وذلك لكثرة مساوئ نتانياهو. لا أدري إذا كان الوقت حان لنقول: مسكين نتانياهو، فقد حاول جهده ان يتصلب، وحاول جهده ان يجر السلطة الفلسطينية للتراجع، أو لدفع ثمن غال مقابل كل تنازل صغير يقدمه اليها. حاول تطفيش المفاوض الفلسطيني عن طريق التيئيس، أو المبالغة، أو حتى الإذلال، ولكن نجاحه كان محدوداً، فقد استنفر الجميع ضده، الى حد انه خسر موقعه في النهاية، وما فائدة سياسة تؤمن بها ولا تستطيع ان تواصل تنفيذها؟ أما باراك، فقد جاء محمولاً على أكف الجميع، ومن بينها أكف المسؤولين الفلسطينيين في السلطة، جاء متوجاً كداعية سلام، وجاء يحمل تواقيع الرضا من الولاياتالمتحدة ومن أوروبا، وحقق لاسرائيل قبل ان يحكم اجماعاً دولياً داعماً بدده نتانياهو بغرور. وامتلأت اجهزة الاعلام العربية والعالمية بآيات الاستبشار لمقدمه، وللسلام الناجع الذي سيحل على يديه. ولكن ما هي إلا أسابيع قليلة، حتى بدأ باراك يتكشف للجميع، عن "دراكولا" متلفع بثياب حاخام، أو عن "قابيل" الذي قتل أخاه "هابيل" أو عن "مستر هايد" السفاح الذي يختبئ وراء "الدكتور جيكل" الطيب المسالم، وتوالى ظهور الصور الجديدة لباراك، من خلال سلسلة من الاقتراحات الحثيثة، التي أصابت، أول ما أصابت، الفلسطينيين أنفسهم، أولاً حين فوجئوا بخطته لتعديل اتفاق "واي ريفر" ثم خطته لإنجاز ممر آمن وهو ليس بآمن أبداً، ثم تصلبه في الافراج عن المعتقلين وافق هو على الافرج عنهم، وظن الكثيرون ان هذه هي ذروة تطرف باراك، الى ان أقدم في الأيام القليلة الماضية على ثلاثة اجراءات دفعة واحدة: في الاجراء الأول: أقدم باراك على تأكيد شرعية الاستيطان العشوائي الذي نفذه خصومه. فأعلن ببراءة انه سيعيد النظر في استيطان التلال الذي دعا اليه شارون وشمل حوالى 42 تلة في الضفة الغربية، ثم كشّر عن أنيابه حين ألغى شرعية عشر مستوطنات وثبت شرعية 32 مستوطنة. في الإجراء الثاني: أعلنت حكومة باراك، للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي، ان حدود لبنان الدولية ليست مرسمة، وان انسحاب اسرائيل من جنوبلبنان المحتل سيكون الى مناطق قد يتم الاختلاف عليها مع اللبنانيين، ومعنى ذلك انها ستحتفظ بجزء من أراضي لبنان، حتى لو انسحبت من لبنان انسحاباً كاملاً ومن طرف واحد. في الاجراء الثالث: أعلن باراك انه سيقوم بتقديم التسهيلات للذين يريدون الاستيطان في الجولان، وفعل ذلك وهو يروج في كل يوم خمس مرات على الأقل، انه يدعو سورية الى سلام الشجعان، ويدعوها الى ان لا تفوت فرصة السلام المفتوحة، وأي كلام آخر خداع من هذا النوع. يرتكب باراك ثلاث جرائم استراتيجية في أقل من اسبوع واحد، ثم يطل على الاعلام بوجه يحرص على ان يكون بريئاً وطفولياً تصوروا!! واذا كانت جرائمه هذه تؤهله للفوز بلقب "الشاطر"، فإنها تؤهل نتانياهو للفوز بلقب "البريء" أو "الساذج". لقد حاول نتانياهو ان يلعب دور الشيطان فاكتشف أنه لا يزال محبوساً داخل القمقم، أما باراك الشيطان فقد أصبح خارج القمقم.