صدرت اخيراً عن المعهد الفرنسي للآثار الشرقية دراسة عن "خان الخليلي" والمنطقة المحيطة به، وهو اشهر الخانات الآثارية في القاهرة، شارك فيها باحثون من مصر وفرنسا. واستمر العمل في هذه الدراسة ست سنوات مرتكزاً على وثائق تاريخية ووقفيات وآثار معمارية باقية الى اليوم. تعود اهمية منطقة خان الخليلي الى انها جزء من القاهرة الفاطمية، وهو يقع على جانبي شارع المعز لدين الله المحور الذي يشق المدينة من الشمال الى الجنوب. وقد شهد هذا المحور تطورات عدة في القرن الثاني عشر الميلادي، فبعد سقوط الدولة الفاطمية تلاشى دوره كمقر للسلطة والادارة، وتحول الى مركز له اهمية في الانتاج والتخزين. وبسبب زيادة موارد الدولة المملوكية نتيجة لاتساع رقعتها الجغرافية التي ضمت بلاد الشام الى جانب مصر، وعلى رغم ضم مصر الى الدولة العثمانية في ما بعد، فإن القاهرة ظلت مركزاً رئيسياً للمبادلات التجارية لوقوعها على عدد من طرق التجارة الدولية. ومكّنت الاستمرارية التي ظلت عليها منطقة الدراسة الى اليوم من تحديد طوبوغرافيتها بالنسبة الى الباحثين، وهو ما سهّل تتبعهم للتغييرات التي حدثت فيها منذ هدم القصور الفاطمية واعادة تخطيطها تدريجاً في شبكة شوارع ثابتة ظلت الى القرن السادس عشر، عندما تشعبت هذه الشبكة وازدادت تعقيداً. اما من الناحية الوظيفية، فمنذ تأسيس سوق الصاغة في العصر الايوبي ازداد الدور الاقتصادي للمنطقة، وشهد العصر المملوكي تأسيس منشآت موقوفة على مؤسسات خيرية او مبانٍ دينية جديدة. ثم استمرت هذه المباني في اداء وظيفتها في العصر العثماني نتيجة لانشاء خانات جديدة. وحتى الآن يتمركز الصياغ في سوق الصاغة، حيث يشكل خان الخليلي ما يسمى في مدن اخرى بالبازار. شُيد الخان في العصر المملوكي على يد جركس الخليلي واليه ينسب، وهو احد كبار امراء دولة المماليك الجراكسة. وكان موضع الخان مقابر الزعفران التي كانت مخصصة للخلفاء الفاطميين. جاء البحث الميداني في هذه الدراسة ليشكّل العمود الفقري لها اذ جمع بين دراسة الوظائف والاشكال المعمارية الباقية وطوبوغرافية المكان وتحولها. بدأت هذه الدراسة بوصف الوضع الحالي لمنطقة الدراسة اعتماداً على المخطط المسحي لمدينة القاهرة لسنة 1937. ثم في مرحلة تالية تمت مقارنة الوضع الحالي بما توفره لنا الوثائق التاريخية خصوصاً الوقفيات المملوكية وسجلات المحاكم الشرعية العثمانية من معلومات. وأدى هذا الى رسم خرائط تاريخية لمنطقة خان الخليلي يمكن تقسيمها الى ثلاثة نماذج: النموذج الاول لمبانٍ اثرية اكتشفها فريق العمل، وكان يظن بأنها مندثرة تماماً، منها وكالة برسباي المقابلة لمدرسته. فقد وجد فريق العمل اجزاء منها ما زالت باقية، وتم عمل تصور شامل لهذه الوكالة من خلال هذه البقايا ومن خلال وثيقة وقف السلطان برسباي التي تصف الوكالة وصفاً دقيقاً. وهي نتيجة جديدة لم يسبق ان توصل اليها احد. وفي النموذج الثاني رسم فريق العمل مجموعات من المباني المتداخلة في محاولة لمعرفة العلاقات بينها، وللتوصل الى كيفية ادارة المدينة. اما النموذج الثالث فقد قام فريق العمل فيه باستعراض شامل للمنطقة في فترات معينة من وجهة نظر الوظائف او انماط المباني، ومن خلال عمليات تعمير تمت في عصور مختلفة شكلت المدينة. وهذا ما اعطى خرائط منطقة خان الخليلي درجة عالية من الحيوية. ويعد مشروع خان الخليلي امتداداً لانشطة المعهد الفرنسي للآثار التي بدأت العام 1800 لدراسة خطط القاهرة واحيائها، وكانت اولى دراسات المعهد في هذا المضمار دراسة بول رافيس العام 1889 عن القصر الفاطمي الكبير والاحياء المجاورة له اعتماداً على المقريزي. ثم قام بول كازانوفا بدراسة قلعة صلاح الدين واعادة تخطيط الفسطاط اعتماداً على اثنين من المؤرخين المصريين هما ابن دقماق والمقريزي. كما قام جورج سالمون بدراسة عن القطائع عاصمة الدولة الطولونية في مصر. وتتميز دراسة خان الخليلي عن هذه الدراسات بشموليتها واعتمادها على الوثائق واعطائها تصوراً واقعياً تاريخياً لمنطقة الدراسة.