حتى ذلك الحين كانت ايران تعتبر مجرد دولة شرق أوسطية تدور في فلك حُماتها الانكلو سكسون، من انكليز أولاً، ثم اميركيين بعد ذلك. ولئن كان شاه ايران في ذلك الحين، محمد رضا بهلوي، قد تعمد ان ينفتح بعض الشيء، ومن حين الى آخر، على جيرانه الشماليين السوفيات فإنه انما فعل ذلك، اما عن خوف في اللحظات العصيبة، وإما لإيجاد نوع من التوازن في اوقات كان الاميركيون أو الانكليز يحاولون ان "يحشروه" فيها. ولكن اعتباراً من يوم 11 تشرين الأول اكتوبر 1961، ومن خلال اللقاء "الناجح جداً" - حسب الصحافة الفرنسية في ذلك الحين - الذي جمع الشاه بالرئيس الفرنسي شارل ديغول، بدا من الواضح ان ايران باتت تعتبر نفسها دولة كبيرة وقوة اقليمية من حقها ان تحلق من دون ان يكون ثقل الأوصياء والحماة جاثماً عليها. وهكذا ارتدى ذلك اللقاء الذي اتى في ذروة زيارة تاريخية قام بها الشاه والشاهبانو فرح ديبا، الى فرنسا ودامت عشرة أيام كاملة، ارتدى في ذلك الحين اهمية استثنائية، كانت البداية الحقيقية للاهتمام الفرنسي بإيران. وهو اهتمام سوف يتواصل طويلاً بعد ذلك، وربما لا تزال آثاره جاثمة حتى اليوم. في ذلك الحين، كان الغرض الظاهر من الزيارة افتتاح معرض كبير يقام في باريس تحت عنوان "سبعة آلاف عام من الفن في ايران"، بالاضافة الى ارساء حجر الأساس في تشييد "الدار الايرانية" في المدينة الجامعية في باريس. غير ان الواقع سيقول لاحقاً، ان الأمور كانت اكثر اهمية وتعقيداً من ذلك بكثير. ناهيك بأن التيار الودي مرّ بسهولة بين الشاه والجنرال. ووصل الود الى ذروته حين شارك ديغول شخصياً في الاحتفال بالعيد الثالث والعشرين لميلاد الشاهبانو. هنا، لا بد ان نذكر ان ديغول كان ف ذلك الحين البطل الغربي الذي يعرف كيف يتصدى، لاستفراد القوتين الأعظم في العالم، وكان الزعيم الفرنسي الذي ساعد على منح العديد من الأمم الافريقية استقلالها، ناهيك عن ارتباط اسمه عميقاً باستقلال الجزائر. من هنا، كان أي تقارب جدي مع ديغول يعتبر محاولة من الدولة التي تمارس ذلك، لايجاد نوع من الاستقلالية الفكرية والاقتصادية خارج اطار لعبة التحدي المتبادلة بين الدول، وخارج اطار الاستقطاب الايديولوجي الذي كان - مثلاً - يجد تعبيره في حركات مثل "عدم الانحياز" و"الحياد الايجابي". والشاه حين كان يقوم بكل ذلك التقارب مع باريس الديغولية، كان يعرف بالطبع، ان خطواته ليس فيها ما يسر واشنطن او الأوروبيين الاطلسيين. لكنه رأى ان النتائج المتوخاة، فكرياً وسياسياً واقتصادياً، تستحق مثل تلك المغامرة. وشارل ديغول نفسه، ادرك يومها لعبة السير على الحبل المشدود التي يلعبها الشاه، فاستجاب لها مدركاً انها فرصة لاجتذاب "قوة اقليمية عصرية مثل ايران" خارج لعبة التجاذب بين قوتين لا يرى هو لنفسه مكاناً الا خارجهما. ومن هنا نراه وقد لعب اللعبة بحذاقة، ولا سيما حين قال الشاه في خطبة القاها "ان ايران ليست بلداً معقداً"، وكان في هذا يرد على تعبير قديم لديغول كان هذا يرى فيه انه من الأفضل التوجه الى الشرق الأوسط المعقد، بأفكار بسيطة". اذن، خارج اطار الاحتفالات والأعياد المشتركة والمعارض والسهرات الرسمية، تركزت مباحثات الجانبين، اعتباراً من لقائهما الأول يوم 11 تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام 1961، على القضايا الأساسية من استراتيجية واقتصادية، ولم يفت ديغول ان يطاول، في الحوارات الرسمية الثنائية مسائل مثل "السيادة"، مشيراً الى ان بلديهما احتُلا من قبل جيوش اجنبية. وتحدث ديغول عن الدولة التي كان ولا يزال من الواجب بناؤها، وباستمرار. وتحدث عن الجهود التي يجب على الدوام بذلها من اجل الارتفاع فوق توازن الكتل والايديولوجيات المهيمنة، وخارج اطار الايمان الديني مشيراً الى تنويرية الاسلام في ايران وتنويرية الكاثوليكية في فرنسا. وأشار ديغول الى ان الوصول الى هذا هو وحده ما يؤمن احترام الأمم الاخرى للأمة المعنية. وقال الجنرال ان أية اجابات يجب ان يتم البحث عنها في هذا الصدد، انما يتوجب العثور عليها في التاريخ وعبر تأمل ذلك التاريخ. وهكذا، بدأ منذ ذلك اليوم شهر عسل بين طهرانوباريس، لم يتوقف الاميركيون والانكليز بالتالي عن محاولة نسفه... الصورة: الشاه والشاهبانو وديغول في قصر الاليزيه.