يخلص بعض المعلقين على الشؤون التركية من «المجرى الجديد» الذي تنتهجه السياسة الخارجية، الإقليمية والدولية، الأردوغانية، منذ الحملة على العراق في 2003، الى أن لحمة المجرى هي ما يسميه عمر تاسبينار «ديغولية تركية» («النهار» اللبنانية، في 13 حزيران/ يونيو). وتنهض الديغولية المفترضة، بداهة، على «الاضطلاع بدور مستقل» عن الغرب، من غير قطيعة، وعلى «إحياء القومية التركية (و) العظمة العثمانية». وقد يحمل الإحياء أصحابه على «تحدي الغرب أو استعمال الثقل (التركي) الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي في منطقة (تركيا) الحيوية». ولا يبعد، على ما يرى الباحث في مؤسسة بروكينغز، أن تنأى تركيا بنفسها عن حلف شمال الأطلسي «كما فعل الرئيس الفرنسي... في ستينات القرن الماضي». وعلى المثال الديغولي الساطع، يتوج السياسة التركية المستقلة، والباعثة المجد القومي والمتكئة على قاعدة اقليمية حيوية، خيار «قوة ردع تركية نووية». ويتماسك الخيار النووي ب «تحسين ملحوظ للعلاقات بين تركيا وروسيا والصين والهند والبرازيل وإيران». وتجمع البلدانُ «الناشئة» هذه مدى الأسواق العريضة الى عمق «صداقات سياسية تعوض علاقات (تركيا) التقليدية مع الغرب». وأحد دواعي تركيا القوية الى التحفظ من الغرب، والى بناء شبكتها الإقليمية والدولية المستقلة، على ما يرى تاسينار، رعاية الغرب، الأوروبي والأميركي، المسألتين القوميتين العالقتين في تركيا، المسألة الكردية وتبعاتها السياسية والدستورية البنيوية الراهنة والملحة، والمسألة الأرمنية، وأثقالها المعنوية والمادية والاستراتيجية المستمرة. ويقع القارئ في المجسم الذي يمثل على البناء الديغولي التركي على بعض المفاتيح الديغولية التاريخية مثل الاستقلال الوطني، والخروج من الأحلاف وقيود التزاماتها العامة، ومثل الأمة العظيمة التي تتحلق الأمم الساعية في الاستقلال حولها، والانفراد بالسيطرة على السلاح النووي، عنوان السيادة في عالمٍ الردعُ النووي أحد أركان بنيانه وأحد معايير احتساب موازينه البارزة. والحق أن مقارنة «الديغولية التركية» والأردوغانية المفترضة بالديغولية الفرنسية التاريخية تتعثر بفروق حادة تطعن في المقارنة، وتعطل الفرضية الديغولية من أساسها. فعلى خلاف الأمة الفرنسية، وهي ربما الدولة - الأمة السياسية الأولى بأوروبا، تتنازع «الأمة» التركية نوازع قومية (اثنية وعرقية) ومذهبية ومحلية لم يسعف ماضي تركيا الامبراطوري والسلطاني، البعيد والقريب، «الدولة» التركية الفتية في السيطرة عليها، والتأليف بينها. فتركيا المعاصرة لا تزال بعيدة من «المألفة» الوطنية والسياسية التي تضطلع الدولة - الأزمة بتجسيدها، والتمثيل عليها، وإيجابها في الداخل والخارج. وعلاقات الجماعات القومية والمذهبية والمحلية بعضها ببعض، وبالسلطة المركزية، تشوبها صبغة «استعمارية» أو «شبه استعمارية». وهي تنهض على استتباع أهلي، وإنما بوسائل حديثة مدمرة وفظة تتيحها التقنيات العسكرية والمواصلات والاتصالات السريعة، ويتيحها تصرف بيروقراطية ضيقة بها من غير حسيب حقيقي. وليست معالجة المسألة الكردية، قبل 1983 - 1998 (اضطلاع «العمال الكردستاني» بدور غالب) وبعدها-، والمسألة اليونانية «الرومية» المتخلفة عن اجلاء الدولة التركية يونان الساحل التركي الغربي والشمالي قسراً في 1921 لقاء اجلاء بلدان البلقان أتراكها على النحو نفسه (وقضية قبرص اليوم من «بقايا» المسألة العالقة هذه)-، والمسألة الأرمنية التي لا تقتصر على علاقة الدولة بالجماعة الأرمنية الصغيرة بل تتعداها الى العلاقات بالدائرة «البيزنطية» وفتوحها «القديمة» - ليست معالجات هذه القضايا بالعنف والاستيلاء والإنكار والتستر، إلا قرائن على دوام الفساد السياسي الراسخ في أبنية السلطة والمجتمع أو الجماعات. وعلى سبيل المقارنة «الديغولية»، يفترض انبعاث دور الأمة التركية العظيمة والمجيدة في حلة غير استعمارية ولا سلطانية أو امبراطورية، تخفف تركيا رجب طيب أردوغان من الإرث العثماني، ومن إعلائه الجماعة التركية القومية والمذهبية على الجماعات الأخرى. ففي سياق اختبارات فرنسا النووية الأولى، في 1961، وقبل خروجها من القيادة الأطلسية المندمجة في 1966 واعلانها استقلالها بقوتها النووية، وصوغها عقيدة ردع وطنية قوامها الرد بترسانتها كلها وليس تدريجاً على عدوان نووي (على خلاف الردع المرن أو المتدرج الذي صاغ عقيدته وزير الدفاع الأميركي روبرت ماكخارا في اطار اتساع الحرب الفيتنامية) - في ضوء السياق استعجلت السياسة الديغولية تصفية مستعمرات فرنسا الافريقية المتبقية، وخرجت في 1962 من الجزائر، وأقر الفرنسيون دستور الجمهورية الخامسة في 1962 في استفتاء عام طوى غلبة المجالس الوطنية (البرلمانات) المتقلبة والمشرذمة على السلطة التنفيذية. وخطا ديغول في 1962 خطواته المباشرة على طريق التقارب الفرنسي - الألماني، وأرساه على «محور» متين تحول شيئاً فشيئاً الى ركن أوروبا، على رغم تمسك ديغول المتشدد بالسيادات الوطنية، ونعيه على أوروبا السوق المشتركة، السداسية يومها، أطلسيتها وتأمركها وليبراليتها الاقتصادية، ونقضه على دخول بريطانيا «الأميركية» والمركنيلية أوروبا (التي لم تعمر) هذه. وهذا كله، وغيره مثله، بعيد من بعث المواضي العظيمة وأوهامها، ومن الغفلة عن دواعي الحاضر وجديده، بعده من الارتجال والاستعجال والتلفيق. فهو ينم، في مجمله، بإحاطة معاصرة لم تبرأ من فوت بعض عناصرها وعواملها. وليس يخفى أن قلب السياسة الديغولية الحي والقوي هو تحديث الدولة الوطنية والديموقراطية من طريق اطراح «الزوائد» السلطانية والامبراطورية في الداخل والخارج. ومن هذه «الزوائد» تخبط الأحزاب السياسية الوطنية في شباك «الإقطاعات» المحلية الراسخة، وحماية الانتخابات النسبية الحصص والحصون المحلية هذه، ثم حضانتها حكومات ائتلافية، من غير سياسة ولا برامج ولا دوام. ومنها إحجام الدولة، أو الارادة الوطنية الجامعة، عن المبادرة الى سياسة إرادوية في مجالات حيوية مثل الصناعات الأساسية، والبحث العلمي والثقافي، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقات الخارجية. واستلهمت هذه حساً تاريخياً جمع التقرب من روسيا (السوفياتية) والمانيا (المقسمة) معاً، والبلدان قطبا نزاع أوروبي مقيم، الى استظلال جوار الردع الأميركي، وخيمته الأوروبية والأطلسية الوارفة، من غير الدَّيْن للردع هذا بالأمن الفرنسي. واستثمرت السياسة الخارجية التورط الأميركي والأطلسي بفيتنام في جباية تعاطف عالم ثالثي، شفع به ورفده ودٌّ روسي ظاهر لم يحل بين الرئيس الجنرال وبين دعم انفصال الصين، واستقلالها عن الوصاية السوفياتية الثقيلة ونذرها المليئة بالوعيد والتهديد. ويدخل رجب طيب أردوغان السياسات الدولية من أبواب ضيقة وصغيرة، قياساً على الأبواب التي دخل منها الرئيس الفرنسي التاريخي السياسات هذه. فهو لا يدخل المشرق العربي من باب فلسطين، بل من باب غزة. وغزة التي طرق بابها قبل عام ونصف العام ليست محطة الى فلسطين بل الى «حماس» أو شطر منها هو قيادة الخارج المترجحة والمترنحة بين دمشق وبين الدوحة، والى الحركات الإخوانية المشرقية التي قام منها حزب أردوغان، «العدالة والتنمية»، مقام خلافها أو نقيضها «العاقل». وقادت «ديغول التركي» المفترض الى غزة و «حماس» والحركات الإخوانية سياسة الاستدراج التي انتهجتها طهران أحمدي نجاد، أو طهران الحرسية والباسيجية، منذ 2004، واستئناف تخصيب اليورانيوم بعد تعليقه. ونهضت سياسة الاستدراج على حساب استراتيجي إيراني شديد الخصوصية القومية والمذهبية ولا يقبل التقاسم أو الاشتراك. وهو يقضي بالنفاذ من الثغرة الإسرائيلية الى محاصرة السياسة الأميركية ومنظومتها الإقليمية، وابتزازها في دوائر المنظومة هذه وساحاتها. وتفترض سياسة الاستدراج والابتزاز ضعف الأدوات المحلية أو الأهلية، وإضعاف الأطر السياسية الوطنية التي تحضنها. ولا ريب في أن غزو العراق، في 2003، غداة الحملة على أفغانستان في 2001، في سياق انقلاب «القاعدة» من حركة أفغانية محلية الى «جبهة عالمية» تشن حرباً على «الصليبيين» (الغرب) و «اليهود» (اسرائيل «الغربية») على امتداد «العوالم» الإسلامية، قرَّب تركيا المتحفظة عن النتائج الكردية المتوقعة لسقوط صدام حسين، أولاً، من إيران التي باتت الولاياتالمتحدة، وقوات التحالف التي ساند معظمها صدام حسين، جارها القريب والحميم. وعلى هذا، فإيران الحرسية والباسيجية، واسرائيل استطراداً واسترسالاً، هما اللتان تشنان عمليات حربية، وتشعلان بؤراً ملتهبة، وما على تركيا إلا الانخراط في ذيول العمليات واللهب. وتخالف السياسة المستدرجة هذه سياسة تركيا في تسعينات القرن الماضي، قبل فوز «العدالة والتنمية» بالحكم. فالتضييق على سورية الأسدية، رداً على تماديها في استعمال المقاتلين الأكراد والمقاتلين السريين الأرمن في الحرب السورية على تركيا، رمى الى لجم النزاعات الأهلية، والى فصل علاقات الدول عن العوامل الأهلية المضطربة. واليوم، تنقال السياسة التركية، أو هي تنذر بالانقياد الى تشابك الحروب الأهلية والإقليمية، والى مزج علاقات الدول والجماعات والأهلية. وقد يقودها الى الغرق في التشابك والمزج هذين تعامي طبقتها الحاكمة المختلطة، الجديدة و «القديمة»، عن «إلحاح» الإصلاح السياسي الداخلي، ومحله من الاضطلاع بدور استراتيجي. * كاتب لبناني