تُعقد على هامش الجمعية العامة للامم المتحدة في مثل هذا الوقت من السنة اجتماعات مغلقة على مستوى رفيع لا تقل اهمية، من نواحٍ عدة، عن الانشطة الرسمية للجمعية العامة، بل قد تكون اكثر اهمية. وفي واحد من هذه الاجتماعات عقد قبل ايام، التقى روبن كوك وزير الخارجية البريطاني نظيره الايراني كمال خرازي. وحصيلة الاجتماع هي ان خرازي سيتوجه الى لندن قبل رأس السنة الجديدة وان كوك سيزور طهران في الربيع المقبل. هذا تطور مثير للاهتمام، ولا يسعني الاّ ان ارحب به بحرارة. وسيكون كوك أول وزير بريطاني يزور طهران منذ الثورة عام 1979. وهو ادلى بتصريح للصحافة جاء فيه ان "تبادل الزيارات خطوة كبيرة الى امام، لكن لا يزال امامنا طريق طويل. تمر ايران بمرحلة انتقال. ويأمل اولئك الذين يتطلعون الى ان تصبح ايران جزءاً من المجتمع الدولي بأن تستمر تلك القوى المؤيدة للاصلاح التي تمتاز بالانفتاح في تعزيز قوتها". واضاف كوك ان "تحسن العلاقات يمكن ان يستغرق وقتاً طويلاً. لن يحدث هذا بسرعة. سنحتاج الى استكشاف مواقف احدنا الآخر وتحقيق تقدم ثابت". يذكر ان الصلات الديبلوماسية بين بريطانياوايران لم تُرفع الى مستوى تبادل السفراء الاّ قبل بضعة اشهر. وجاء هذا بدوره في اعقاب موافقة الحكومة الايرانية العام الماضي على ان تنأى بنفسها عن الفتوى الصادرة بحق الكاتب سلمان رشدي. كما جرى الاتفاق على السماح ل "المجلس البريطاني" بمعاودة العمل في ايران. وكان نشاطه عُلّق اثر اطاحة الشاه. لا تمتاز العلاقة بين 10 داونينغ ستريت مقر رئىس الوزراء البريطاني ووزارة الخارجية بالسلاسة، كما أشرت سابقاً في هذا العمود. على سبيل المثال، كانت العلاقات بين رئىسة الوزراء مارغريت ثاتشر ووزير خارجيتها جيفري هاو سيئة جداً. ولا ينظر طوني بلير الى دور رئيس الوزراء على انه "الاول وسط اشخاص متكافئين"، وهو الموقف الدستوري، بل يعتبره أقرب الى دور رئاسي. وهو يقتفي في ذلك خطى مارغريت ثاتشر، ولا شك ان الاغراء لا يُقاوم عندما يطمح السياسيون الى الحصول على تغطية تلفزيونية جيدة. لم يكن بلير يملك خبرة تُذكر في الشؤون الخارجية قبل انتقاله الى 10 داونينغ ستريت. ويبدو بوضوح انه وضع في مقدم اولوياته على الصعيد الخارجي استثمار صلاته الشخصية الوثيقة مع الرئىس بيل كلينتون، مع ابقاء حماسه لاوروبا في خانة اخرى. ويحرص مكتب رئىس الوزراء على ان يتابع عن قرب الاحداث العالمية التي تستأثر باهتمام خاص من قبل البيت الابيض، مثل عملية السلام في الشرق الاوسط والعراق، الاّ انه يعطي روبن كوك وفريقه في وزارة الخارجية هامشاً للمناورة في قضايا اخرى. ويبدو واضحاً ان تحسين العلاقات مع ليبيا والسودان وايران يندرج في اطار الصنف الاخير، على رغم ان بريطانيا سعت الى إبعاد نفسها عن مواقف الولاياتالمتحدة. ويمكن ان اقول ان وزارة الخارجية البريطانية احرزت تقدماً حيثما كانت تتمتع بحرية اتخاذ القرار. وكما جاء في تعليق لصحيفة "فايننشال تايمز" في عددها الصادر في 23 ايلول سبتمبر الماضي، فإن "بريطانيا، باختيارها سياسة تقوم على التفاعل، تنضم الى اتجاه يتبناه الاتحاد الاوروبي. فمعظم حكومات دول الاتحاد ترى منذ فترة ان سياسة الحوار البناء مع طهران ستدفع هذا البلد في اتجاه اكثر اعتدالاً". يمثل هذا نمط التفكير التقليدي داخل وزارة الخارجية التي نظرت باستياء وارتياب الى اصرار مارغريت ثاتشر على قطع العلاقات الديبلوماسية مع دولة تلو اخرى من الدول التي اُعتبرت "خارجة على القانون". ويرغب الديبلوماسيون في البقاء في عواصم البلدان التي يصعب التعامل معها كي يتمكنوا من متابعة الاحداث وارسال تقارير عما يجري فعلاً من الداخل، فضلاً عن إدامة الصلات مع العناصر التي يُحتمل ان تتولى دست الحكم عند حدوث تغيرات سياسية. وتصبح العناية بمصالح الرعايا البريطانيين في هذه البلدان مسألة بالغة الاهمية عندما تتعرقل العلاقات. لا شك ان سفير بريطانيا الجديد في طهران، نيكولاس براون، الذي يمتاز بمعرفته الجيدة بايران، سيبلغ حكومته ان الرئىس محمد خاتمي، اذ يواجه معارضة شرسة من محافظين في مواقع متنفذة ويسعى الى إدامة التأييد الشعبي لنهجه، يحتاج الى ان يكون قادراً على إظهار منافع ملموسة من برنامجه الاصلاحي. ولا شك في فائدة الصلات المتزايدة مع دول الاتحاد الاوروبي، خصوصاً عندما تقترن باهتمامها بالاستثمار في الاقتصاد الايراني. ويتوقع ان يشير السفير البريطاني ايضاً في رسائله الى ان الرئيس خاتمي يدعي انه تمكن من الايفاء بتعهده توسيع العملية الديموقراطية في ايران، وكبح الدعم الايراني للارهاب في الخارج. وهو يتطلع بدوره الى استجابة من اولئك الذين كانوا يطالبون بمثل هذه الخطوات. اعتقد ان التاريخ سيبيّن ان زيارة كوك الى طهران الربيع المقبل هي محطة اخرى في عملية خُطّط لها منذ وقت طويل من جانب وزارة الخارجية البريطانية، وهي تستند الى روابط بريطانيا القديمة مع ايران في وقت سابق هذا القرن وتأخذ في الاعتبار حجم ايران واهميتها الاستراتيجية. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو.