كان أصدقنا.. وكان أنبلنا. وكان - إذا اشتد الخطب.. أشجعنا. كان "عواد الجهني".. عالماً.. مستقلا.. متميزاً بأخلاقه.. ومبادئه.. وصلابته .. وبراءته. وكنا نشعر بذلك التميز.. والتفرد.. عندما نقترب ب"عوالمنا" المضطربة.. السائبة.. المراهقة.. من ذلك العالم الجريء.. البريء.. المدهش العجيب.. فتهب في وجوهنا .. نسائمه النظيفة الطازجة، وتستولي علينا تلك.. القوة الإيجابية الموروثة.. في "العوالم" الصادقة، ويأخذ بمجامع قلوبنا.. ذلك البريق.. الرائع.. الصادر عن عنصره.. النادر. لم يكن "عواد" ينتمي الى عائلة ثرية.. تغدق عليه وعلى حاشيته.. من اللذائذ والطيبات، ما يكفل له "رفقة" مزدحمة، وتشتري له ولاء الزملاء وحضورهم. ولم يكن "عواد" يمتلك حضوراً جسدياً متعملقاً.. يُرهب به عدوه، ويُرعب فيه صديقه، ويحشد به - لنفسه - أتباعاً.. ومؤيدين، ويفرض به نفسه.. على ساحات المدرسة.. كما يفعل عادة.. "فُتوات المدارس.. و"أبضاياتها". ولم يكن عواد يمتلك من قدرات المداهنة والمراوغة.. ما يقربه من "سلطات" المدرسة كما يفعل بعضهم.. عندما يُجندون أنفسهم لإقامة الولائم.. وقضاء الحاجات.. والسعي لدى النافذين - من المعارف والاقرباء. ومع ذلك.. كان "عواد" هو صاحب "الحضور" الأكبر. جمع حوله .. أذكى طلاب مدرستنا وأعتى فتواتها.. وأثرى عناصرها، وحاز على ثقة المدرسين، والادارة، وخلق لنفسه - في قلوب كل من عرفه.. واقترب منه - تلك المكانة السامقة.. التي لا يزال يحتلها حتى اليوم.. رغم أن "عوالمنا" قد افترقت عن "عالمه" منذ سنين طويلة.. حزينة. ولم يكن اكتشافنا .. ل"عواد".. ودخولنا "عالمه" سهلا.. ميسوراً. مثل كل الأشياء الصادقة الطازجة.. تجلى على "عالمنا.. في بطء.. وامتد ظله الينا.. في هدوء وكما أذكر اليوم الذي رأيت فيه "عواد" للمرة الأولى.. لا زلت أذكر بوضوح أكبر آخر.. وداع كان مساءً عاديا. وكان يبدو منهكا متعباً.. لكن ذلك لم يكن أمرا غير عادي بالنسبة ل"عواد" العجيب. ألقينا عليه.. تحية المساء.. ثم غادرنا. ولم يأت "عواد" إلى المدرسة في الصباح. وعند الظهيرة.. جاءنا.. خبر يقول.. ان مرضا اشتد عليه ليلاً.. وأنهم نقلوه الى المستشفى. وعندما ذهبنا.. نزوره.. أخبرونا.. أنه أصيب بالحمى الشوكية.. وأنه غائب عن الوعي. وفي ضحى اليوم التالي.. جاءنا الخبر.. بأن "عواد" قد توفي.. ليلاً.. وأنهم دفنوه عند الفجر. لن أقول لكم كم كان حزننا على "عواد" لأنكم لم تعرفوا "عوادا" ولن تتخيلوا ماذا كان يعني لنا. لقد تحققتُ .. منذ ذلك اليوم الحزين.. أن بعض "الكائنات" لم توجد.. لتبقى. كان "عواد" أكبر.. وأنقى.. وأعظم.. وأنبل.. من أن يدوم. لعله.. أُريد له أن يكون مثالا.. نلتفت اليه.. ونستلهمه.. عندما تزدحم دروبنا ب"الأقزام" والأمساخ.. و"أنصاف الكائنات". لعله أريد له.. أن يكون "فترة" نستحضرها ونستشرفها.. عندما يتغشانا عالم منافق.. جبان.. رديء. أو - لعله - أريد له - أن يكون الصديق الذي لن نجد، والتفاني الذي لن نعثر عليه، والبراءة .. التي لن نحتفظ بها.. والصدق الذي سنفقد لقد كان "عواد" هنا، وأؤكد لكم .. انه منذ أن كان.. وأنا أشك دائما.. في أنه يوما.. سيكون..