لم تكن مفردة "السجن" لفظاً دارجاً بين الناس في بداية القرن المنصرم، بل كان له مسمى آخر على ألسنة العامة وهو مشابه له ألاّ وهو "الحبس"، فغالباً عندما يسأل أحداً من الناس عن فلان مثلاً ما أخباره؟، وقد عمل جناية، يقولون فلان "محبوس"، أي مسجون. أصحاب الجنايات الخطرة مُقيدون تماماً.. ومن عليه قضايا بسيطة يمكن أن يتجول دون سلاسل! وتضيق الأرض بالمسجون، حتى وإن توفرت له كل ملذات الدنيا، فهو يرى نفسه مقيد الحرية، معزول عن الأهل والأحبة، وتزداد المعاناة وتشتد لمن سجن ظلماً. كان مكان الحبس غالباً يكون في بيت أمير البلدة - مقر الأمارة -، ويكون عادةً في مدخل المنزل في غرفة مستقلة، ليسهل دخول المساجين وخروجهم وزوارهم، كانت المنازل آنذاك مبنية من الطين وهذه الغرفة موضوع بداخلها خشبة كبيرة كالخشبة التي تسقف بها الغرف، وهي التي يتم ربط أرجل المساجين بها، حيث يوجد بها مكانان محفوران على شكل نصف دائرة يفصل بينهما حوالي (20سم) يوضع فيها ساقا الجاني ومن ثم توضع على هذه الخشبة خشبة أخرى مشابهة فيها مكانان محفوران أيضاً، فاذا أطبقا على بعضهما صارت دائرة فيها ساقا الجاني "المحبوس"، وبعد ذلك تربط الخشبتان بقفل محكم، فلا يستطيع المحبوس إخراج رجليه، ومن زيادة الحرص يتم ربط رجلي المحبوس بسلسلة وقفل، وقد تصمم الخشبة لتستوعب من اثنين إلى أربعة أشخاص. غُرف التوقيف وإغلاقها بإحكام ربط بالسلاسل وقد يكون السجن في البلدان الكبيرة في قصر الإمارة، كالقصور التي أنشأها جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، فأصبحت فيها الشرطة فيما بعد، وهي مبنية من الطين، حيث كانت تخصص أحد المقصورات الأربع للقصر كسجن يودع فيه الجناة، وكمثال على ذلك فإن قصر الملك عبدالعزيز في "مرات" -أحد القصور الأربعة التي بُنيت على طريق الحجاز القديم بأمر من المؤسس الراحل في منتصف القرن المنصرم - كان السجناء يودعون في بئر فيه حفرت ولم يوجد بها ماء، ولم تكن عميقة، فكان ينزل فيها من يسجن بواسطة "سلّم"، وفي قعرها جذع شجرة كبير نحت فيه فتحات لدخول أرجل المساجين، ومن ثم تربط بالسلاسل فلا يستطيعون الهرب، وينزل لهم الحارس الوجبات داخلها ولا يتم فكهم سوى لقضاء الحاجة، وبعد فترة خصصت أحد مقصورات القصر للسجن فصار من يسجن يودع فيها ويربط بخشبة خصصت لذلك كالتي في أسفل البئر، وكان الطعام يهيأ لهم في قصر الإمارة ويأتي به أحد "الأخويا" ويقدمه لهم، فقد كانوا يحظون بالرعاية والاهتمام حتى يتم اطلاق سراحهم. بقايا لغُرفة استخدمت محبساً جنايات خطيرة ويكون وضع الشخص المربوط في الخشبة الجلوس غالباً "ماداً" رجليه، ويستطيع إذا تعب أن ينام على ظهره، ويأكل السجين ويشرب وهو مقيد في هذه السلسلة فيداه حرتان ومطلقتان، أما إذا أراد أن يقضي حاجته فيتم فتح الخشبة وتخليص قدميه، لكن إذا وقف تقيد رجلاه بسلاسل وقفل، فلا يستطيع المشي إلاّ بصعوبة، يرافقه أحد الحراس إلى أن يقضي حاجته ومن ثم يعود إلى مكانه في الخشبة مرة أخرى، وبالفعل فقد كان السجن في الخشبة أمراً صعباً على السجين، لكن يلاحظ أنه لا يوضع فيها إلاّ أصحاب الجنايات الخطرة التي تستلزم المحافظة على السجين حتى لا يهرب، أما القضايا العادية والخفيفة فقد يكتفي بربط رجله بالسلاسل فقط مما يتيح له حرية التحرك والمشي بطلاقة في محيط حجرة السجن، وقد يكتفي بسجنه في الغرفة بدون ربط بالسلاسل إذا كانت جنايته خفيفة كمن عليه دين لم يسدده مثلاً. انضباط النظام داخل القرى كان بسبب "خشبة الحبس" حسن نيّة وكدليل على بساطة العيش والبعد عن تعقيدات الحياة المعاصرة، فقد كان الناس يتعاملون بحسن النيّة، ولعل موقف أحد السجناء مع السجّان خير شاهد على ذلك، فقد كان أحد السجناء فيما مضى مربوطاً في الخشبة مع عدد من الموقوفين، فلما فتح السجّان أو الحارس الغرفة فتح القيد من أرجلهم ليقضوا حاجتهم ويتمتعوا بقليل من الحرية، فيستريحون ويأكلون، وعندما يأتي المساء يحضر الحارس إلى غرفة السجناء ويفتح الباب ثم يسلم عليهم والظلام شديد، حيث لم يكن هناك كهرباء، فيطلب منهم وضع أرجلهم في الخشبة ومن ثم يطبقها على أرجلهم ويقفلها فتسمعه يقول كلمة العامية المعتادة في كل يوم: "حطيتوا رجليكم"، فيقولون: "نعم"، فيقفل الخشبة ويمضي الى أهله، فلو شاء أحد السجناء لقال نعم وهو لم يضعها، فيستطيع الهرب ليلاً بعد مضي الحارس أو في الصباح إذا فتح الحارس الباب، لكن تمنعهم من ذلك قولة الحق وتبادل الثقة بين أفراد المجتمع والصدق في التعامل وعدم المكر. . سلسلة كانت تُستخدم لتقييد المتهم خشبة الحبس كان مجرد ذكر "خشبة الحبس" لمن يبدر منه مخالفة أو ينوي أداء بأي عمل فيه جناية مرعباً حقاً، فقد يسمع كلمة من أمير البلدة أو القاضي وهما الشخصان الوحيدان اللذان يحق لهما الأمر بذلك فيقول: "ترى أبحطك في الخشبة"، فترى الشخص كما يقولون بالعامية "يبولع ريقه" خوفاً، وربما يقر المذنب فوراً أثناء التحقيق معه لينجو من كابوس تلك الخشبة التي صارت لها هيبة عند حدوث مشاحنات أو مخالفات، وصارت خشبة السجن مشهورة للجميع في ذلك الوقت ففي حديث الناس ومسامراتهم ترى من يتحدى صاحبه أن يقول بسرعة ولثلاث مرات أو أكثر متتابعة: "خشب الحبس خمس خشبات وخشبة"!. .. وأخرى ذات متانة أكبر تحضير الخصوم عند وصول شكاية من أحد من الناس على شخص اعتدى عليه، فإن الأمر لا يستدعي من أمير البلدة أو القاضي إلاّ أمر أحد "الخويا" ليذهب ليحضر الجاني الذي يمتثل سريعاً لأمرهما، فيأتي معه على الفور، فقد يكون في السوق أو في مزرعته أو في بيته، ويوجد في المحاكم في بداية تأسيسها موظف مهمته فقط إحضار الخصوم، ومسمى وظيفته "محضِّر خصوم"، حيث يعمل على إحضار من عليه شكاية لدى المحكمة قبل أن تنتشر الشرط وتتولى تلك المهمة، كما يوجد في المحكمة أو لدى القاضي من يساعده في الخصومات وتطبيق الشرع في فض الخصومات وهو "المنذر"، الذي يتولى تقدير "الشجاج" والجراحات. محضر الخصوم هو المسؤول عن إحضار المتهمين إلى المحكمة معالجة فورية كانت القضايا فيما مضى قليلة جداً وواضحة ولا لبس فيها، وتجد الفصل فيها فورياً من لدن أمير البلدة أو قاضي البلد، فلا تعقيدات ومدة انتظار طويلة للفصل فيها، نظراً لبساطة الناس في ذلك الزمن وتسامحهم، بل العجيب في ذلك أن المتخاصمين لدى القاضي إذا انفض النزاع بينهما سواءً بالصلح أو الفصل في القضية لصالح أحدهما فإن المياه تعود إلى مجاريها، وتبقى العلاقة بين المتخاصمين طيبة ومتينة، فيخرجون وهم متصالون راضين بالقضاء، فلا أحد يعترض على حكم القاضي، كقصة المتخاصمين الطريفة التي تدل على ذلك ومفادها أن أحد الأشخاص قدّم شكوى لدى القاضي على شخص آخر من بلدته فحضر الأخير على سيارته للمحكمة ومثّل مع خصمه لدى القاضي، وحكم للشخص المشتكي بالحق ولما خرج صاحبنا من المحكمة ليعود إلى بيته وجد صاحبه الذي اشتكاه واقفاً بباب المحكمة ينتظر من يقله بسيارته إلى منزله، فهو لا يملك سيارة توصله فما كان من خصمه إلاّ أن دعاه للركوب معه في سيارته عارضاً عليه توصيله الى منزله فركب معه، فعجب الناس من حولهم فقبل قليل كانا خصمين واقفين أمام القاضي والآن يركبان جنباً الى جنب مع بعضهما ويتحدثان وكأنه لم تكن بينهما خصومة، وهذا يدل على نقاء القلوب وصفاء النوايا الحسنة ومثال على الترابط والتلاحم بين الناس في ذلك الزمن الذي مضى. بعد ظهور الشرطة استلمت مهام تتبع من عليهم شكاوى توقيف في خيمة ومن قصص الحبس الطريفة ما حدث لثلاثة من الأشخاص كانوا في سفر منذ أكثر من ستين عاماً ومع بدء انتشار السيارات أوقفتهم نقطة تفتيش في الطريق، فطلبت منهم دفع رسوم مرور وهي رسوم رمزية كانت تدفع في ذلك الوقت، فلم يكن معهم من النقود ما يكفي لقلة ذات اليد، فتم توقيفهم حتى يدفعوا تلك الرسوم في خيمة منصوبة في نقطة التفتيش كان يرتاح فيها الجنود وقائدهم، فدخلوا في الخيمة وكان الجو بارداً جداً، فأخذوا مكانهم فيها ووجدوا ناراً فاقتربوا منها ليتدفأوا، وكان حول النار "دلّة" من القهوة وتمر و"إبريق" شاي، فأخذوا من شدة الجوع يأكلون من التمر ويشربون القهوة حتى أتوا على آخرها، ثم جاء دور الشاي فشربوه عن بكرة أبيه أيضاً، ثم تنحوا في ركن من أركان الخيمة ليستريحوا من عناء السفر، وما هي إلاّ لحظات إلاّ وقائد نقطة التفتيش يدخل ومعه ضيف فذهب أحد الجنود مسرعاً إلى دلة القهوة ليصب فنجاناً للضيف فلم يجد بها شي ولم يجد "قدوع" -أي تمر-، فأراد أن يستعيض عن ذلك بتقديم الشاي فوجد الإبريق فارغاً فأصابه الحرج فذهب إلى قائده وهمس في إذنه بما حصل، وأشار إلى هؤلاء الثلاثة الموقوفين بأنهم هم من فعلوا ذلك، فأمره بأن يستعجل في تصليح قهوة وشاهي جديدين حتى يقدمه لضيفه، ثم استدعى هؤلاء الثلاثة وقال: "ما سبب توقيفكم؟"، فحكوا له القصة فقال: "اذهبوا وأعطاهم مفتاح سيارتهم فذهبوا الى وجهتهم"، وبعد يوم مروا مرة أخرى من نقطة التفتيش عائدين فاستوقفهم أحد الجنود ولمحهم القائد فقال للجندي: "دعهم يذهبون، لا توقفهم ولسان حاله"، يقول يكفي ما فعلوه بنا سابقاً، فاستمر هؤلاء الثلاثة في المسير، وسط تعالي ضحكاتهم من هذا الموقف. احتساب أيام التوقيف بالنقش على الجدران أفطر في رمضان كانت السجون قديماً ضيقة وصغيرة والسبب في ذلك هو تزايد النمو السكاني وكثرة القضايا المتسارعة، فصارت السجون تزدحم، وكان المساجين يسجنون في غرف مختلطين، فترى من يوقف في قضية مرورية مثلاً أو قضية بسيطة جداً يسجن مع من عليه قضايا كبيرة ومحكوم عليه بسنوات طويلة، -كان ذلك في السابق قبل أن يتم التنظيم -، وكمثال على ذلك فقدت حدثت لأحد الأشخاص أن سجن في قضية إفطار في نهار رمضان، فقد كان مسافراً ومفطراً في الطريق، ولما وصل إلى بلده كان الظمأ قد بلغ منه مبلغه في فصل الصيف الحار ووقت الظهر، فأوقف سيارته لدى أقرب بقالة، ومن غير شعور منه توجه سريعاً إلى الثلاجة وتناول "قارورة" ماء كبيرة، ومن ثم فتحها وشربها بسرعة أمام أعين المتسوقين، فاستهجن الناس فعله فكيف يفطر في نهار رمضان جهاراً؟، فتم التبليغ عنه فاستدعته الشرطة، وحوّل إلى القاضي الذي أمر بسجنه لمدة شهر، وعندما دخل الغرفة جلس حزيناً فهي أول مرة يدخل فيها السجن في حياته، فاقترب منه أحد المساجين فسأله عن قضيته وعن مدة سجنه، فلمّا أخبره ضحك بصوت مرتفع قائلاً: "لو كنت مكانك لقضيت المدة واقفاً عند الباب، فما أقول أنا الذي تبقى من محكوميتي عشر سنوات؟"، فدخل السرور إلى قلبه وما هي إلاّ أيام فشمله العفو فخرج في ليلة العيد، شاكراً لله على فضله ومعاهداً الله ألاّ يعود الى أي مخالفة ومعصية، فقد رأى في سجنه درساً هداه إلى الطريق القويم. رعاية واهتمام وعلى الرغم أن السجن له وحشته ومعاناته، إلاّ أن ما يلقاه السجين في ظل الرعاية التي توليها الدولة -حفظها الله- بالمساجين تخفف من معاناتهم، فقد أصبحت السجون فسيحة الغرف وبها كل ما يحتاجه السجين من رعاية واهتمام وبرامج توعوية وإرشادية وترفيهية، بل تعدى ذلك إلى افتتاح المدارس لاتاحة الفرصة للنزلاء لاكمال تعليمهم، إضافةً إلى افتتاح أقسام تدريبية للعمل والانتاج.