العلاقة بين الموضة والفن لم تنقطع طوال هذا القرن، كل منهما يزود الثاني برؤيا أو إلحاح أو خيال... لا حدود لهذا الجانب في معرض "مئة عام على الفن والموضة". فالواقع والخيال يختلطان، الجميل والوقح في الأزياء... لا ينظر الإنسان إلى الاختلاف هنا بقدر ما يحاول أن يجد أنواع التلقيح التي غذّت التصورات من حقبة إلى أخرى. ما يلفت في المعرض هو التفاعل بين النماذج والصور والأزياء. وإذ يختار المرء نموذجاً يجد له صدى في ناحية أخرى من المعرض... إنه بمثابة مرآة، كل حقبة تنعكس على الأخرى. ليس في هذا تكرار، وإنما التشابه يأتي من محاولات فنانين ومصممين للخروج عن طوق الزي والفتحات، والعناصر التي تجعل منه لباساً. وإذ تبتعد الموضة عن الملبوسات وعلاقتها بالجسم في إحدى الفترات، فإنها تعود إليها في أقرب فرصة... المعرض الذي صممته المهندسة زها حديد لا يركز كثيراً على هذا الاتجاه، فلا نرى بين قطعه التي تتجاوز 300 تصاميم جورجيو أرماني، أو كريستيان ديور... لأن المنطلق كان دائماً الزي كقطعة فنية. ولهذا يبرر هيوارد غاليري المعرض بمقدمة عند المدخل هي عبارة عن مجموعة من الأزياء كأنها تماثيل. بل يمكن أن يراها المرء بنية وتركيباً حديثاً كما ظهر من الزي الذي صممه روبيرتو كابوتشي في 1985 بعنوان "شفرات الموس" وهو مكون من تجاعيد، ومن صدرية مستطيلة الشكل وأكمام مكعبة إلى جانب التنورة المشدودة إلى أعلى والمتفرعة عنها فواصل مثلثات ملونة. وكذلك زي المصممة لزلي ديل المصنوع من المعدن الرفيع المثقوب بحروف وكلمات. لكن المعنى لا يضيع هنا، ان الموضة لم تستطع الاستمرار من دون صرعات. وبواسطتها جددت دماءها على فترات طويلة، لكن الشيء الذي تميز به المعرض هو التعاون بين الفنانين والمصممين: فقد استفاد الاثنان من بعضهما. وما أن تظهر حرية تعبير عند التشكيليين حتى تجد لها صدى الأزياء، في حفلات تقديمها، ويستقر في الذهن أن نشوء حركات فنية قد يعود إلى جاذبية استعراض أزياء غذّت الخيال بجرأة وتحد للعادي والمناسب والمقبول. وإذا كان المصممون حرفيين بالدرجة الأولى، فهم في حاجة دائمة إلى اساليب واتجاهات مستمدة من الفن. ويكشف المعرض عن عدد من الرسامين والتشيكيليين الذين استخدموا الأزياء والملبوسات وسيلة للتعبير. ولتجسيم صرعات خيال جامح لم تكن الألوان ولا الأقمشة قادرة على احتماله واحتوائه. طبعاً لم يكن سلفادور دالي في حاجة إلى الموضة للتعبير عن تخيلاته، إلا أننا نجد في سترة السهرة 1936 جاذبية ومعنى، وقد غطت الكؤوس المليئة بمشروب أخضر صدر الجاكيت. التقطت السوريالية عنصر المانيكان وأضفت عليه صوراً عدة، فصار أحد الرموز لمعانيها. كما نرى في اتجاه مان ري وقد ظهرت تراكيبه ما بين الدمى والتماثيل. أما الأزياء فمعلقة عليها كأنها ستائر لمسرحيات لم تبدأ بعد. وعبر فنانون مثل مارسل دوثا، وإلسا شيباريلي عن وضعية المرأة كدمية... ومنهم من وضع قفصاً على المانيكان، أو حذاء مكان الرأس! كل هذا يثير تساؤلاً: هل كان للموضة دور اجتماعي، وهل ساهمت في تحرير المرأة من الكبت إلى جانب تحرير خيال الفنان؟ إن الجانب الإنساني والوعي الجميل اختلطا في بداية القرن، وأدت محاولات المصمم الفرنسي بول بواري إلى تخليص المرأة من "كورست" كجهاز يساهم في تعذيب الجسد وليس في إظهار جماله. أقمشته كان يزينها رسامون، وكثيراً ما التقى هؤلاء في ورشات فنية في باريس أو لندن للتعاون. ومن هذه، ما صممه هنري ماتيس زياً يشبه لباساً افريقياً في قماش أصفر مزين بدوائر ذهبية. التصاميم التي قدمها أوسكار شليمر لها علاقة بالتناسب وجمال حركة الجسد في فن الباليه، وقد بدأ هذا الاتجاه نزعة فنية في العشرينات، تواكب حركة التصنيع والتوسع في المدن... وكان المسرح أحد مواقع التجربة في أزياء للرقص والأوبرا. كما لجأ رسامون إلى انتاج ما سموه "لوحات حية"، وفي فترة التحم الفن والموضة إلى درجة صعب التفريق معها بين الاثنين. غير أنه برزتاني تالخمسينات موضة تحاول الاستقلال من تأثير التصميم الفني والاعتماد على مقومات خاصة، فظهر ما سماه المعلقون باللباس المحلل، أي أنه ابتعد عن المبالغة والتزيين. وكان أغلب التصميم موجهاً للحياة العملية والاستعمال العادي، فجاءت الستينات بالرغبة في التنويع والبقاء على البساظة، والتقى هذا في مواد جديدة لم يسبق استخدامها بكثرة في الماضي ومنها مادة البلاستيك. ورأينا هنا عدداً من المصممين البريطانيين ركزوا على إعادة استخدام مواد قديمة مع إضافة ألوان قوية. ويستعين المعرض بعدد من التصاميم لماري كوانت وبول سميث، وصور فوتوغرافية تبرز أجواء الستينات والشخصيات الشهيرة والملابس التي كانت ترتديها.. تعود بنا تلك الأجواء إلى مقدرة الموضة على إعادة اتبكار نفسها من الأفكار التي كانت شائعة قبلها، فمن البساطة ظهر الزي الطويل من قطعة واحدة في السبعينات مع اختلاف نوع القماش. وبدأت تتطور المواد المستعملة مثل البلاستيك والنيلون وحتى المطاط في ألبسة عملية جذابة. إلا أن الفن والموضة يعودان للقاء من جديد في ما سماه المعرض "ما بعد الحداثة"، في محاولة لجمع عناصر شتى، ما جعل الأساليب تتقاطع. وهنا نجد اللباس المستوحى من الفن إلى جانب الموضة التي تلامس الغرابة والكلاسيكية. وفي هذا المجال يقدم المعرض عدداً كبيراً من الأزياء من تصميم صلاب معاهد الموضة ومبتدئين في التصميم يرتديها الجمهور ويتفاعل معها. وإذا كانت الموضة مرت بمراحل وتطورات شتى خلال قرن من الزمن، فإن الرموز التي عبرت عنها ظلت دائماً واحدة، لها علاقة بالنظام الاجتماعي وباستعداد الناس للخروج عما يفرضه عليهم ذلك النظام. وإذا تجاوزنا اللغة التي تصف الملبوسات وتعطيها درجات متفاوتة من المعنى، فإننا نظل أمام قطعة من القماش مشغولة على أساس الحماية من عوامل خارجية. لكن النقطة التي تلح دائماً هي اننا نفقد هذه الخاصة بالاعتماد على اللغة لاعطائنا معنى... ودوراً. الموضة تلغي تسرب أي دليل يربطها بمدلول مستقر... هناك سلسلة من الأساليب في فترة معينة قبل أن يحدث تغيير أو دليل قوي يوحي بفكرة جديدة. ومع ذلك نجد ان الموضة تعتمد على معانٍ في خلق اسلوب لتلغيه في ما بعد ثم تحتفظ به صورة ولغة. وهذا ما اتجه إليه المعرض في محاولة منه لتلخيص مئة سنة من الاساليب فحصلنا في النهاية على ومضات قصيرة هنا وهناك حققت فيها الموضة تحولاً وانبعاثاً، فكان لها تأثير في ثقافة بكاملها ليس في الدن وحده، ولكن في الادب والتصميم الهندسي. تصميم زها حديد للمعرض جاء من هذا المنطلق، إذ قسمت الغاليري إلى مساحات مفتوحة، ولم تعتمد على تعليق نماذج الثياب كجنها في متاجر، بل قدمت بعضها في خزائن على الأرض يمر بينها الجمهور. كما استخدمت فجوات وغرفاً لتفاجئ الزوار بمحتوياتها.