هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد 520 - 595ه/ 1126 - 1198م، واحد من اعظم فلاسفة الإسلام، وأبرز المتكلمين المسلمين، ومن كبار فقهاء المذهب المالكي، الذين احاطوا بالفقه المقارن لمذاهب الفقه الإسلامي، وعلم من اعلام الطب - تأليفاً وممارسة - في الحضارة الإسلامية، والقاضي الذي بلغ منصب قاضي قضاة "قرطبة"، وهو يماثل "وزير العدل" في عصرنا الحديث. ولد ابن رشد - الذي يميزونه ب"الحفيد" - في قرطبة، ببلاد الاندلس، لأسرة عريقة في العلم والفقه والقضاء والسياسة والادارة، ودرس الطب والفلسفة على اعلام عصره، ومنهم: ابو جعفر هارون، وابو مروان بن جربول البلنسي، وابن باجة، وابن طفيل. وتولى القضاء في اشبيلية 564ه - 1169م، ثم اصبح قاضي قضاة قرطبة 566ه - 1171م. وشهدت حياة ابن رشد اواخر دولة المرابطين 448 - 541ه/ 1056 - 1146م واوائل عهد دولة الموحدين 541 - 668ه/ 1146 - 1269م، التي حكمت المغرب الكبير والاندلس. وفي السادسة والثلاثين من عمره، بدأ ابن رشد الكتابة والتأليف. وقال الذين ارخوا لحياته إنه لم يترك القراءة والكتابة بقية عمره - إلا ليلتين اثنتين: ليلة زفافه وبنائه بزوجه، وليلة وفاة ابيه! وفي تاريخ الفلسفة، اشتهر ابن رشد - على النطاق العالمي - بمشروعه لقراءة وفقه وشرح أعمال فيلسوف اليونان ارسطو طاليس 384 - 322 ق.م. ولقد بدأ ابن رشد هذا المشروع الفلسفي بمبادرة من الدولة ودعوة من السلطان ابو يوسف يعقوب بن يوسف 555 - 595ه/ 1160 - 1199م. وبترشيح من الفيلسوف الطبيب ابن طفيل 494 - 581ه/ 1100 - 1185م.. فلقد كانت عبارات ترجمات ارسطو قلقة وغامضة، فنهض ابن رشد بضبطها وشرحها ثلاثة انواع من الشروح: المختصر والمتوسط والكبير، حتى اشتهر عالميا بالشارح الاكبر لارسطو. وكانت شروحه هذه هي الطريق الاوروبي لمعرفة الاوروبيين بتراث الارسطية اليونانية. ولما كان ابن رشد بدأ شروحه على ارسطو 564ه/ 1169م، أي بعد ان تولى القضاء، ونضج كمتكلم وفقيه، فلقد ضمن شروحه لارسطو الكثير من الانتقادات والعديد من الاضافات. أما ابداعات ابن رشد في علم الكلام الاسلامي، فتمثلت في آثاره الفكرية: "تهافت التهافت" الذي رد به هجوم ابي حامد الغزالي 450- 505ه/ 1058 - 1111م على الفلاسفة القدماء، و"مناهج الادلة في عقائد الملة" الذي حاكم فيه مناهج المتكلمين - خصوصاً الاشاعرة - إلى ما رآه العقلانية القرآنية الجامعة بين الحكمة والشرعية، و"فصل المقال فيما بين الحكمة والشرعية من الاتصال" و"ضميمة في السلم الالهي" وهما - على صغر حجمهما - نصان نفيسان من نصوص "المنهج" في تراث الإسلام. وفي هذه الاثار الكلامية والفلسفية يجسد ابن رشد مذهبه في التوفيق بين الحكمة وبين الشريعة الوحي والدين. أما في الفقه، فله كتابه المتميز "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" الذي لم يجعله مجرد كتاب في الفقه المالكي، وانما جعل منه ميداناً لفلسفة الفقه، وتوضيحاً لأسباب اختلاف الفقهاء - كل الفقهاء، من كل المذاهب - فجاء، إلى جانب كونه كتاباً مهماً في الفقه المالكي، دراسة في الفقه الاسلامي المقارن، يمثل الافق الاعلى للباحث المقتصد، الذي تليه آفاق المجتهدين! ولابن رشد في الطب - غير موسوعته الشهيرة "الكليات" - اكثر من عشرين كتاباً، ولقد قال مؤرخوه عن قدمه الراسخة في ميدان الطب: انه كان يُفزَعُ الى فتواه في الطب كما يُفزَع الى فتواه في الفقه، وذلك فضلاً عن الفلسفة وعلم الكلام. أما ابداعاته السياسية فلقد جعلها اضافات وتعليقات في ثنايا شروحه لأعمال ارسطو. وألمت بابن رشد - بعد ان علا شأنه في ميدان الفكر والقضاء وفي بلاط السلطان كطبيب وحكيم في 591ه/ 1195م - محنة لم تدم طويلاً، ابعد فيها الى مدينة أليسانة - على مقربة من قرطبة - مع عدد من المشتغلين بالفلسفة. ويبدو انها كانت ارضاء من السلطان - الذي كان محبا للفلسفة - لبعض الفقهاء. لكن المحنة لم تدم طويلاً، فعاد ابن رشد الى بلاط السلطان كما كان طبيبا خاصاً وفيلسوفاً مكرماً. وكانت وفاة ابن رشد 595ه/ 1198م بمراكش، من بلاد المغرب، وحمل جثمانه الى الاندلس فدفن هناك. ولقد شاهد ابن عربي 560 - 638ه/ 1165 - 1240م جثمان ابن رشد محمولاً على بعير... الجثمان في ناحية، وفي الناحية الاخرى كتبه وآثاره الفكرية، حيث ووري الجسد التراب، ولتظل آثاره الفكرية حية وفاعلة حتى الآن، والى ان يشاء الله. ويذكر ابن الآبار 595 - 658ه/ 1199 - 1260م - وهو المولود عام وفاة ابن رشد - في الترجمة له سطوراً تجسد مكانته العلمية والخلقية وتعبر عن انجازاته، يقول فيها: "انه كانت الدراية اغلب عليه من الرواية، درس الفقه والاصول وعلم الكلام، وغير ذلك. ولم ينشأ في الاندلس مثله كمالاً ولا علماً وفضلاً. وكان، على شرفه، اشد الناس تواضعاً واخفضهم جناحا. عُني بالعلم من صغره الى مكبره، حتى حُكي عنه انه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل الا ليلة وفاة ابيه وليلة بنائه على اهله! وانه سوّد فيما صنّف وقيد والف وهذب واختصر نحواً من عشرة آلاف ورقة. ومال الى علوم الاوائل، فكانت له فيها الامامة دون اهل عصره. وكان يفزع الى فتواه في الطب كما يفزع الى فتواه في الفقه، مع الحظ الوافر من الاعراب والآداب، حتى حكى عنه ابو القاسم ابن الطيلسان: انه كان يحفظ شعري حبيب أي ابو تمام والمتنبي، ويكثر التمثيل بهما في مجلسه، ويورد ذلك احسن الايراد..."1. وإذا كانت الملكة الفلسفية - ملكة "الدراية" - غلبت على ابن رشد، حتى لقد فلسف مختلف الفنون التي كتب فيها، فإن التوفيق بين الحكمة الفلسفة وبين الشريعة الوحي والدين هو مفتاح فهم مشروعه الفكري، والروح السارية في كل كتاباته.. ولذلك وجدناه يتخذ لنفسه موقعاً تميّز به - في مواقف كثيرة - عن كثير من الفلاسفة وكثير من علماء الكلام المسلمين. ففي قضية الحرية الانسانية - التي اشتهرت بقضية الجبر والاختيار - والتي حدث فيها استقطاب بين القائلين بالجبر الجبرية المطلقة أو المغلفة المخففة وبني القائلين بالتفويض والحرية للانسان في خلق افعاله، وقف ابن رشد مع الحرية، التي هي اباحة في العمل او الترك، مؤسسة على الارادة الانسانية، والقدرة والاستطاعة، لكنه رأى هذه الحرية وهذه الارادة والقدرة والاستطاعة نسبية، وليست مطلقة، لأنها محكومة بعوامل وملابسات وتدخلات ليست من صنع الانسان، فهي أشبه ما تكون بحرية الحركة داخل المنزل، يتحرك فيه الانسان بإرادته الحرة كما يشاء، لكن في حدود الجدران والنوافذ والابواب التي لم يصنعها هو، والتي لا يملك تغييرها! وبعبارة ابن رشد، التعبير فيها عن هذه الحرية النسبية: "... فالله، تبارك وتعالى، قد خلق لنا قوى نقدر بها ان نكسب اشياء هي اضداد، لكن لما كان الاكتساب لتلكم الاشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعاً: بإرادتنا، وموافقة الافعال التي من خارج لها، وهي المعبر عنها بقدرة الله. وهذه الاسباب التي سخرها الله من خارج ليست هي متممة للأفعال التي نروم فعلها او عائقة عنها فقط، بل هي السبب في ان نريد احد المتقابلين. وليس يُلغي هذا الارتباط بين افعالنا والاسباب التي من خارج فقط، بل وبينها وبين الاسباب التي خلقها الله تعالى في داخل ابداننا. والنظام المحدود الذي في الاسباب الداخلة والخارجة هو القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده، وهو اللوح المحفوظ"2. فالانسان حر الارادة، وقادر على الفعل والترك، بناء على ارادته - التي هي شوق للفعل او الترك - لكن في حدود الاسباب التي ليست من صنعه، وانما هي من خلق الله، سواء كانت خارجية او داخلية هذه الاسباب المخلوقة لله، سبحانه وتعالى. أي أنه حر، لكن منزلة حريته هي وسط بين الجبر المطلق وبين التفويض باطلاق. وعلى حين انقسم الفكر الفلسفي ازاء "العالم" بين فلاسفة قالوا بقدم العالم، على نحو يصرح او يوهم بأن لا خالق لهذا العالم، وبين متكلمين قالوا بحدوث العالم وخلقه من عدم، بمعنى انه قد كان بعد ان لم يكن على اي نحو من الوجود... رأينا ابن رشد - في توفيقه بين الحكمة والشريعة - يكشف عن دور الغموض في مفاهيم مصطلحات "القدم" و"الحدوث"، في قيام هذا الاستقطاب بين الفلاسفة والمتكلمين. ويقدم لنا - انطلاقا من تحرير مضامين هذه المصطلحات - تصوراً متميزاً يرى العالم فيه ليس محدثا باطلاق - مثل الاجسام - ولا قديماً باطلاق - مثل الذات الالهية - وانما فيه شبه من المحدث وشبه من القديم، وما الخلاف حول قدمه او حدوثه الا بسبب النظرة الآحادية الى ما فيه من شبه بالقديم المطلق او شبه بالمحدث باطلاق. يحل ابن رشد هذه "المعضلة" عندما يقول: "لا، واما مسألة قدم العالم، وحدوثه، فإن الاختلاف فيها بين المتكلمين من الاشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء. وذلك انهم اتفقوا على ان ها هنا ثلاثة اصناف من الموجودات: طرفان، وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة: فأما الطرف: فهو موجود وجد من شيء غيره، وعن شيء، اعني عن سبب فاعل، ومن مادة، والزمان متقدم عليه، أعني على وجوده. وهذه هي الأجسام التي يُدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والارض والحيوان والنبات، وغير ذلك، فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع، من القدماء والاشعريين على تسميتها محدثة. واما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان. وهذا، أيضاً، اتفق الجميع، من الفرقتين، على تسميته قديماً. وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله، تبارك وتعالى، الذي هو فاعل الكل وموجده والحافظ له، سبحانه وتعالى قدره. واما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، اعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره. فهذا الموجود قد اخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي، ومن الوجود القديم، فمن غلب ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث، سماه قديماً، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث، سماه محدثاً، وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة.."3. فهنا - في هذه "المعضلة" الفكرية - يقدم ابن رشد مذهبا جديدا، يحل الاشكال، ويدعو الفرقاء المتقابلين والمتعارضين الى كلمة سواء. وفي الخلاف الشهير بين الفلاسفة الذين وقفوا بعلم الله، سبحانه وتعالى، عند علمه لذاته، فأخرجوا العلم بالجزئيات في الموجودات والعالم عن نطاق العلم الالهي... وبين المتكلمين الذين تصوروا العلم الاهلي شاملاً للكيان والجزئيات جميعاً، لفت ابن رشد الانظار الى زاوية اخرى للقضية يمكن ان تمثل ارضاً مشتركة وموقفاً جامعاً للفريقين كليهما. ذلك ان العلم الالهي - سواء كان بالكليات او بالجزئيات - هو علم مغاير كل المغايرة للعلم الانساني، فليست هناك مقارنة يمكن تصورها بين العلمين - الالهي والانساني - ذلك ان العلم الالهي هو السبب في وجود الموجودات، بينما العلم الانساني هو انعكاس لهذه الموجودات ومُسبب عنها، يتطور بتطورها ويتغير بتغيرها. فالقضية مفككة، والخلاف في غير موضوع: "ذلك ان علمنا معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه، ومتغير بتغيره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة المعلوم، الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين احدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصهما واحدة، وذلك غاية الجهل. فالعلم القديم انما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا انه غير متسلق اصلاً"4. فالمقابلة الشهيرة، وموضوع الجدل والخلاف - بين العلم بالكليات والعلم بالجزئيات لا محل لها. وانما المقابلة الحقيقية هي بين العلم الالهي، الذي هو سبب وجود الموجودات - وهو علم كلي ومحيط - وبين العلم الانساني - النسبي - والذي هو ناشئ عن الموجودات، متغير بتغيرها ومتطور بتطورها. هكذا مثّل ابن رشد عبقرية اسلامية كبرى، ومذهباً اسلامياً في التوفيق بين الحكمة والشريعة، بين الفلاسفة والمتكلمين، عندما تسلح بالعقلانية الاسلامية المؤمنة، فأبصر بها الارض المشتركة عند مختلف الفرقاء المختلفين. ولأن ابن رشد اشتهر بشروحه على ارسطو، هذه الشروح التي راجت في اوروبا ابان نهضتها رواجاً كبيراً، فلقد احتمى باسمه - في ذلك التاريخ - تيار فكري نسب اليه ما لم يقل به ولم يبدعه في مؤلفاته الفلسفية والكلامية، ولقد عرف هذا التيار بتيار "الرشديين اللاتين". لكن الذين درسوا ابن رشد، ووقفوا على حقيقة فكره الاسلامي، حتى من المستشرقين الكبار، ادركوا زيف نسبة هذه "الرشدية اللاتينية" الى فيلسوف "الرشدية الاسلامية". قال ارنست رينان 1823 - 1892م، وهو أبرز دارسي ابن رشد من فلاسفة الغرب المحدثين: "ان القدر قد جرى بأن يكون ابن رشد ذريعة لانطلاق اشد الاحقاد اختلاقاً، واشد ضروب الصراع العقلي عنفاً، كما جرى بأن يكون اسمه علماً يخفق على تلك الآراء التي لم يفكر فيها مطلقا على وجه التأكيد"5! وفي هذا المعنى يقول المستشرق الاسباني اسين بلاسيوس 1871 - 1944م: "إن من الواجب ان نشير الى تلك الفكرة الوهمية التي كان جميع المؤرخين ضحية لها. وهي انهم متى وجدوا جماعة من "المدرسيين" الذين نطلق عليهم في العصور الوسطى وفي عصر النهضة، اسم "الرشديين"، فإنهم لا يترددون ان يلقوا على رأس ابن رشد كل النظريات التي تتميز بها هذه الجماعة..."6! ففلسفة ابن رشد يجب ان نلتمسها في ابداعاته، أكثر مما نلتمسها في شروحه على ارسطو، وان نحذر تحميله مسؤولية الآراء التي قال بها "الرشديون اللاتين"، لأن فارقاً كبيراً بين هذه "الرشدية اللاتينية" المزعومة وبين "الرشدية الإسلامية" التي ابدعها هذا الفقيه المتكلم الفيلسوف. الهوامش 1- رينان "ابن رشد الرشدية" ص 435، 436. ترجمة عادل زعيتر. طبعة القاهرة 1957م. 2- "تهافت التهافت" ص 225 - 227. طبعة القاهرة سنة 1903م. 3- "فصل المقال" ص 40 - 42 دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة - طبعة القاهرة، سنة 1983م. 4- "فصل المقال" ص 39 - 76 و"تهافت التهافت" ص110، 112، 114. 5- د. محمود قاسم "نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توما الاكويني" ص 41 - طبعة الانجلو، القاهرة. 6- المراجع السابقة ص 20 - 21.