كان المسرحي الايطالي الراحل جورجيو سترهلر "يحلم بكتابة نص مطلق يقف حسب تعبيره بين "السماء والارض". نص مفرد لا شيء يسنده من فوق او من تحت، معلق الا انه ممتلئ بموضوعه، ولا يسقط في فراغ الحرية، بل يعلّق نفسه بنفسه. لمَ لا وهذا المسرحي الكبير تفرّد وعمق تأثيره في المسرح المعاصر، وامتد تأثيره الى كل مراكز التجريب في اوروبا. فهو ليس مجرد مخرج او ممثل او مدير فرقة او مفكر نظري في المسرح، هو شيء من هذا كله، هو رجل مسرح بالمعنى الشامل للتعبير، وفي كل التساؤلات التي طرحها عن ماهية المسرح، وجد الاجابة مباشرة في قلب التجربة. عمل في مجال التدريس المسرحي وكان قريباً من دوائر مثقفي اليسار الايطالي وعاملاً في صحفهم ومجلاتهم، وكاتباً ومترجماً لعدد من الدراسات والاعمال المسرحية. ويمكن القول انه لم يكن في حياته المسرحية الطويلة يعمل شيئاً الا بعد بحث. وتوالت خطواته الفنية لتشكل معاً صورة اختياره الشامل في الحياة، جمع تجارب الاخراج المسرحي العالمي وصبّها في مجرى واحد متكامل لتسمى باسمه كاسلوب مسرحي عالمي متميز. عكف هذا على بلورة رؤية مسرحية لها طابع الجدة والاختلاف ارتقت الى مستويات نقدية جادة، وسواء مالت اعماله نحو هذا البعد او ذاك من ابعاد الهمّ الانساني، فهي جميعاً اعمال مستفزة، مقتحمة، مفسرة، مفكرة، تتأجج بانفجارات نفسية ولغوية عنيفة وقوية، اوصلته الى ارض مسرحية جديدة، والى ممارسة شعرية جديدة على المسرح، فهو جمع كل تجارب القرن العشرين في اعماله من ستانيسلافسكي الى بسكاتور وغروتوفسكي، ومن بريخت الى بيرانديلو. وارتبط اسمه منذ عام 1947 بالمسرح الصغير "بيكولو تياترو" في مدينة ميلانو، ذلك المسرح الذي اسس في البداية بمبادرة من المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، حين ظهرت بين فترة الحربين العالميتين مبادرات لاصلاح المسرح الايطالي، ونشطت "المسارح الصغيرة" في العقد الاول من فترة السلام. وفيما استمر ممثلو الجيل السابق من المسرحيين في متابعة نمطية اعمالهم التقليدية، راح عدد من المثقفين يدعون الجمهور المثقف الى مسارحهم الطليعية. وقدمت في المدن الايطالية مسرحيات حاولت حمل المتفرج الى نوع من الصدمة لبلوغ ما وراء قناع الحياة اليومية. شاع الاهتمام بنوع مسرحي مختار كان يفضله طلاب الجامعات والمثقفون، وهذا النوع كان يتسم بارغام الجمهور على ان يتخذ موقفاً حدياً، بالحماس المطلق او الرفض المطلق. القهر الفكري والسياسي، والاحساس به، والاستجابة له، هو الموضوع الذي شاع في تلك الفترة. وكان لما تمتاز به ايطاليا منذ اجيال بغنى مواهبها المسرحية، ابتداءً من الهزلية الصقلية، ومروراً بالهزلية الجنوبية النابوليتانية، وانتهاء بالايمانية الروحانية والمأساة الدينية الانسانية والاسطورة الرعوية لعصر النهضة، والكوميديا الفنية، والميلودراما على اختلاف انواعها، لا يسعها الا ان تعطي اسهامات جديدة للمسرح العالمي، وكان الفنان سترهلر ومسرحه الصغير ابرز من مثل اتجاهاتها الحديثة باعتبار المسرح "مركب افكار يجب ان يصل الى الجمهور". وأكد سترهلر في اكثر من مناسبة على ان فن المسرح لا يمكنه ان يقفز فوق الخبرة التاريخية، واثار هذه القضية في عشرات الاعمال التي قدمها، خصوصاً اعمال بريخت، واعمال كولدوني وشكسبير وشيخوف وآخر اعماله، للفرنسي ماري فوي من القرن السابع عشر لمسرحية "جزيرة العبيد"، فقد اكد على قضية استخدام الطقس القائم على الاسطورة والممارسة الشعبية، متمثلة بالاداء البلاغي من خلال شعر اللغة، على اعتبار ان المسرح من وجهة نظره هو فرع من فروع الادب. وفي كل تجاربه الاخراجية المتنوعة لم ينته الى نتيجة محدودة موطدة، الا انه اسهم في زيادة قيمة المسرح التعليمية والامتاعية. وأبرز أعماله المسرحية خلال السنوات الاخيرة هي "فاوست" لغوته 1749 - 1832 صاغ بها نموذج حياة البورجوازية في دورها التقدمي، ذلك النموذج الذي تسامى على محدودية المجتمع البورجوازي، ورسم صورة الشعب الحر في الارض الحرة. ف "فاوست" يمتلئ حقداً على القرون الوسطى وعلى الافكار الغيبية، ويكشف عن افكار فلسفية متقدمة. وبهذا العمل الخالد يتحدث غوته عن التطور والتغيير المستمرين في الكون، ويبين تفاهة المفاهيم الميتافيزيقية عن الواقع، ويسخر بشدة من فكرة الانعزال عن العالم وعن حياة الناس "رمادية ايها الصديق كل النظرية، وخضراء هي شجرة الحياة الذهبية". وكان سترهلر يعتقد بأن عملية تقديم هذا العمل الكبير مسرحياً يعد بمثابة مغامرة كبيرة يواجهها المسرح الاوروبي المعاصر، الا انه كان يعتقد من جانب آخر بأن هذا العمل يشكل جهداً عظيماً يواجهه المسرح الاوروبي للمرة الاولى والسبب في ذلك يعود حسب اعتقاد سترهلر بأن "فاوست" تعتبر من الاعمال الادبية الصعبة والطويلة، هي مزيج كبير من العناصر المختلفة التي تكوّن هذا الاثر الادبي الخالد، وكذلك فان الصعوبة تجسدت في كيفية طرحه على خشبة المسرح، لتجعله عملاً كونياً يمر بقنوات تصوغه وتشكله لتجعله في المطاف الاخير قطعة متناسقة متناغمة تصلح لان يشاهدها الناس على خشبة المسرح العادي. القسم الاول من "فاوست" قدم على شكل أمسيتين متتاليتين عام 1990، وتتناول الاجزاء الاولى من هذا العمل الادبي الضخم، وقدم الجزء الثاني والثالث عام 1994، اي ما معدله عشر امسيات مسرحية يتجاوز طول كل منها الخمس ساعات، والسبب في ذلك يعود الى حجم "فاوست" والحذر من اتعاب الجمهور المسرحي. ولعب الادوار الرئيسية اضافة الى جورجيو سترهلر نفسه الذي قام بدور "فاوست"، كل اساتذة المسرح الصغير الذي كان يشرف عليه سترهلر وعدد كبير من تلاميذ المعهد. وقال سترهلر عن هذا العمل الكبير "لا يمكننا التعامل مع اي عمل ادبي واثره واشكال النقد المرتبطة به من دون معرفة الشرط التاريخي الذي يحكم المؤلف والقارئ واخيراً المشاهد، ذلك لان كل حركة ثقافية بكل وجوهها الممكنة هي انعكاس وتعبير لواقع تاريخي بشروط اجتماعية وسياسية وثقافية قائمة وموجودة فعلاً". عن التوفيق بين عملية الاخراج والتمثيل قال "منذ زمن طويل وانا أشعر برغبة في العودة الى خشبة المسرح كممثل، ولا اخفي الصعوبة في المزاوجة بين الاخراج والتمثيل خصوصاً بعد انقطاع سنوات طويلة عن ممارسة التمثيل"، أما السبب الذي دفعه الى اختيار هذا العمل الادبي الكبير دون غيره فلأنه "خالد يحتاج الى البحث واعتقد بأن "فاوست" عمل تراجيدي كتبت للمسرح وليس للقراءة وحدها، كما يعتقد اكثر النقاد والكتاب في العالم، ان هذا العمل يعالج اسئلة انسانية دائمة الحضور، وتناقش بجدلية مأساة البحث عن الحرية والتوزع بين الذكرى والامل في مستقبل الانسان الجديد، كما ان "فاوست" لعبت دوراً في التهيئة الفكرية للنظرة المادية في المانيا. انها اذن تمثل النقلة العظيمة التي اكتنزت بها حياة غوته الذي كان يكرر مقولته الشهيرة أن الجدير بالحرية وبالحياة هو من ينتزعها كل يوم". ولم يكن سترهلر مولعاً باحياء ذكرى تواريخ معينة وفق التقويم في اختياراته المسرحية، لانه كان يشعر بصعوبة التقاط نقاط الانعطاف الحقيقية، الا انه خلف وراءه اعمالاً شديدة التنوع والتغلغل في التطور الاجتماعي والفني، ليس في ايطاليا وحدها بل في عموم اوروبا لها نقاط انعطافها ووقفاتها في الواقع، وابرز انعطافة حققها كانت مساهمته في تحرير الفن المسرحي الاوروبي من قبضة المسرح التقليدي المحافظ، ومنحه وظيفة تربوية لنشر الوعي السياسي والاجتماعي والجمالي لدى الجماهير وتحريضها على التغيير،.وتزامنت مع هذا تطلعات القوى السياسية ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت تستعد للاستحواذ على السلطة. ولهذا يعتبر من وجهة نظر نقاد المسرح الاوروبيين، افضل من نقل تجربة "مسرح التغيير" التي قادها برتولت بريخت على خشبة المسرح، محققاً استقلاليته الفنية المتميزة، واعتبر بريخت المعلم الذي كان اول من علّمه كيف يمكن ان يصنع فناًَ مسرحياً مغايراً يعني الانسانية جمعاء. وتتجلى نزعة سترهلر في التوجه نحو بريخت بشاعريتها وغناها الحسي والفكري في رغبته بأن تهضم افكاره وتنقل وتستعمل، باعتبارها سبيلاً جديداً لتغيير المجتمع، وتشجيع ومساعدة كل الاستعدادات المبذولة لتغيير تلك الامور التي تعيق الخصب الانساني. اكد سترهلر في اكثر من مناسبة انه تعلم من بريخت كيف يمكن ان تصور الاحداث الاجتماعية في اشكال فنية عظيمة ونموذجية من دون أي اهمال لدور الشخصية الفردية، لانه ادرك منذ البداية ان التطور الثقافي لا يسير بتلك الميكانيكية التي تتصورها بعض الاحزاب السياسية وتجعل كل الجهود الفردية الرامية الى استيعاب الرؤى الموضوعية محاصرة بفعل حركة الطبقة او الحزب. أبرز ما يميزه كمخرج من الطراز هو عدم رغبته في جعل الممثل يجسد ما يحركه، فهو، اي الممثل، ليس اداة تابعة له، كان يساعده للوصول الى قوته الابداعية، وكان يشاركه تلك القوة الابداعية ويراقبها ليخرج بانطباعات ما لأنه كان يتخذ دور المكتشف وليس المعلم. غادر سترهلر من دون ان يتمكن من افتتاح "مسرحه الصغير" بعد عملية ترميم طويلة، فقد توقف قلبه عن النبض عن عمر 76 عاماً فجر يوم عيد الميلاد من دون ان يتمكن من حضور افتتاح المبنى الذي كافح من اجل ان يرى "المسرح الصغير" من جديد ليقدم عليه عطاءاته وكان آخرها كما كان مقرراً، عمله في الاعداد لاوبرا "دون جوفاني" لموزارت التي أخرجها هذه الايام المخرج الانكليزي بيتر بروك. و"المسرح الصغير" الذي احياه مع زميله منظم العروض المسرحية المعروف باولو كراسي كان في البداية مجرد صالة سينما صغيرة استخدمها الفاشيون الايطاليون خلال فترة احتلالهم مدينة ميلانو مقراً للاعتقالات العشوائية وللتعذيب الذي كان يجري للمعارضين من قوات المقاومة الايطالية. الا انه وبفضل جهود "المايسترو" تحول المسرح الصغير الى واحد من اشهر المسارح في العالم، وشهد عروض اول فرقة اسسها سترهلر في مدينة ترييستا الشمالية التي ولد فيها واسمها "فرقة الاقنعة" وهي مسرحية "كاليغولا" لالبير كامو. قال عنه زميله الحائز على جائزة نوبل للاداب داريوفو عند سماع خبر وفاته في الاول من كانون الثاني يناير 1998 "كان سترهلر يمتلك شجاعة كبيرة لم يمتلكها أي من مخرجي المسرح العالميين، وكان عبارة عن قاطرة ثقافية تحمل نفسها الى كل مكان في العالم".