في فيلم "كباريه الحياة" ظهرت المطربة رجاء عبده في أحد المشاهد بعد ما تقدم بها العمر وهي جالسة ترثي حالها وتشاهد صورتها على شاشة التلفزيون، وهي في أوج شبابها تغني اغنيتها المشهورة "اشهدوا يا ناس على ظلم الناس". في هذا المشهد تحديداً اختلط الأمر على المشاهدين: هل هو حقاً مشهد تمثيلي أم أنه مشهد حقيقي. وقد بدا حقيقياً تبعاً للتجاهل الظالم الذي لقيته هذه المطربة الكبيرة في وسائل الإعلام بعد احتجاجها في مطلع الخمسينات والى وفاتها قبل أيام عن عمر يناهز 79 عاماً اثر اصابتها بنوبة مرض السكر. تنتمي المطربة الراحلة الى مطربات الرعيل الثاني الذي ظهر بعد منيرة المهدية وأم كلثوم، تحديداً الى جيل نور الهدى وليلى مراد ونجاة علي واسمهان. وجميعهن شاركن محمد عبدالوهاب بطولة عدد من أفلامه، كما أن جميعهن احتجبن في حقبة الخمسينات باستثناء اسمهان التي توفيت في منتصف الاربعينات اثر حادث سيارة. وتعد عبده المطربة الرابعة التي تظهر في السينما العربية بعد نادرة - انشودة الفؤاد 1932- ومنيرة المهدية - الغندورة 1935- ونجاة علي - دموع الحب 1935- وأم كلثوم - وداد 1935. وكان ظهورها الأول في فيلم "وراء الستار" عام 1937 من إخراج كمال سليم في إطلالته السينمائية الأولى، وشاركها بطولة الفيلم المطرب المشهور آنذاك عبدالغني السيد. ولدت رجاء عبده - واسمها الحقيقي اعتدال جورج عبدالمسيح - في ضاحية شبرا في القاهرة في الثالث من شباط فبراير العام 1920، وكان والدها يعمل في هيئة تلغراف القاهرة، في بيئة حافلة بالمشاحنات بين والدها ووالدتها مع خمسة أخوة: ثلاثة صبيان وبنتان. نشأت اعتدال وهي تشعر بظلم كبير من قبل والدتها التي حاولت ان تجهض نفسها وهي حامل منها وهي ما زالت بعد جنيناً في احشائها بسبب شجار نشأ بينها وبين الزوج. وانتهى الأمر بانفصال الأب عن الأم التي انتقلت وابناءها الى منزل في ضاحية الزيتون في القاهرة. وعندما بلغت اعتدال الخامسة من عمرها ألحقتها والدتها بمدرسة "سيدة الرسل" للراهبات حيث تلقت علومها. ولم تكن اعتدال تلميذة نجيبة طوال فترة دراستها لأن وجدانها كان قد بدأ في التحرك في أتجاه آخر، إذ كانت شغوفة بالاستماع الى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وحفظت أعمالاً مثل "أفديه أن حفظ الهوى أو ضيعه" و"على غصون البان" و"في الليل لما خلي". وفي العاشرة من عمرها بدأت والدتها تصحبها معها الى مولد القديسة دميانة في مدينة بلقاس حيث كانت تغني وترتل، وعرف المحيطون بالاسرة ان اعتدال تمتلك صوتاً جميلاً، وكان جارها في مثل عمرها اسمه اسماعيل نجل حسين باشا كامل مدير هيئة سكك حديد مصر، يهوى العزف على آلة الكمان، وكان يزور الاسرة ليعزف وتغني اعتدال. وفكر اسماعيل في الانتقال باعتدال من صفوف الهواة الى صفوف المحترفين، وذهب بها الى محطات الاذاعات الأهلية مثل محطة "فؤاد" و"سابو" و"مصر". وهناك وافقوا على ان تغني اعتدال على عزف اسماعيل في مقابل أجر قدره 50 قرشاً. واشتهر صوت اعتدال تدريجاً، وكانت الأغنية الأولى الخاصة بها عنوانها "يا سلام سلم على جمالك"، لمحلن معروف في ذلك الحين اسمه سيد عبدالعزيز. وفي إحدى المرات قرأت اعتدال اعلاناً في الصحف يطلب فيه المخرج محمد كريم وجوهاً جديدة لفتيات كي يختار البطلة أمام الموسيقار محمد عبدالوهاب في أول أفلامه "الوردة البيضاء" عام 1934، وغمرها الحلم بتولي دور البطولة أمام عبدالوهاب، ولكنها لم تكن بلغت الخامسة عشرة بعد، وعبدالوهاب تجاوز الثلاثين، فتحايلت على الأمر بارتداء ثياب جعلتها تظهر أكبر سناً ووضعت مساحيق التجميل على وجهها، وذهبت مع والدتها لمقابلة عبدالوهاب في مكتب المخرج محمد كريم وهناك طلب منها ان تغني، فأدت اغنيته المشهورة "حسدوني وباين في عنيهم" وبعدها استمع اليها باهتمام قال لها: "صوتك جميل وليس فيه نشاز، وهذا شيء مهم كما أنك تغنين كمطربة محترفة ولكنك ما زلت صغيرة وصوتك لم ينضج بعد خليكي شوية لما تكبري، وعندها سأشركك معي في فيلم آخر". ووقع الكلام عليها وقع الصدمة، وخرجت من المكتب وهي تبكي على كتف أمها لضياع أعظم فرصة في حياتها. وشاهدت اعتدال الفيلم وفي نفسها حسرة وذهبت الى والدتها لتخبرها بقرارها ان يصبح اسمها رجاء كاسم بطلة الفيلم، وهكذا اختارت بنفسها الاسم الذي عرفت به طيلة حياتها رجاء عبده، وهو اختصار لاسم عبدالمسيح. لم تنتظر رجاء كثيراً ودق الحظ بابها من جديد عندما طرق بابها المخرج كمال سليم، وجوزيف باروخ صاحب شركة اسطوانات "اوديون" يطلبانها للقيام بدور البطولة في فيلم "من وراء الستار" أمام المطرب الذائع الصيت عبدالغني السيد. وكانت ذاعت شهرتها من خلال محطات الاذاعة، تقاضت عن دورها في الفيلم مئة جنيه، وعرض الفيلم وحقق نجاحاً طيباً مما جعل الممثل بدر لاما يطلبها لتلعب دور البطولة أمامه في فيلم "صرخة في الليل" من اخراج شقيقه ابراهيم لاما. ثم بدأ حلمها الكبير يتحقق عندما اتصل بها محمد عبدالوهاب يعرض عليها بطولة فيلمه الجديد "ممنوع الحب" بعد استبعاد ليلى مراد من بطولة الفيلم بسبب مغالاتها في الاجر، وتقاضت عبده عن دوها 600 جنيه مصري وكان الفيلم أحد أهم المحطات في حياتها الفنية، فهو عرض في غير أكثر من عربي، وجعل اسمها يتردد على كل لسان، واغنياتها تبث من الاذاعات العربية. ولعبت عبده في الفيلم دور الفتاة الارستقراطية التي تقع في غرام شاب ارستقراطي، لكن اسرتيهما لستا على وفاق. الرواية مأخوذة عن مسرحية "روميو وجولييت" لشكسبير، ولحن لها عبدالوهاب في الفيلم اغنيتين هما "هيحبني واشغل قلبه"، و"هتفوتني لمين"، كما شاركها بالغناء في اثنين من اشهر الديالوغات في السينما المصرية هما "ىا للي فوت المال والجاه" و"اوعى تقول ممنوع الحب" الذي شارك فيه بالغناء الممثل عبدالوارث عسر والممثلة ليلى فوزي في الظهور السينمائي الأول لهما. وأغرى نجاح الفيلم الموسيقار محمد عبدالوهاب، فقرر أن ينتج فيلماً تكون بطلته رجاء عبده، ويضع هو جميع ألحانه، ووقع اختياره على أحد المطربين الذين اكتشفهم وهو جلال حرب ليلعب دور البطولة التمثيلية والغنائية أمامها. وكان الفيلم فاتحة خير عليها خصوصاً أن الألحان التي قدمها لها عبدالوهاب في الفيلم كانت أنجح الأغاني التي غنتها على الاطلاق، ومن بينها طقطوقة "البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي" التي ارتبطت باسم عبده حتى وفاتها، وكذلك اغنية "اشهدوا يا ناس على ظلم الناس"، واغنية "حبايبي كثير يحبوني" وديالوج "اجزخانة السعادة" مع جلال حرب. واستمرت عبده في تقديم أفلام غنائية ناجحة الى عام 1950 عندما قدمت فيلم "حبايبي كتير"، وبعد ذلك آثرت الاستقرار العائلي مع زوجها الطبيب يوسف عطية على المجد الفني وانجبت ولدين هما عصام وعمر الخيام. ويبدو ان ما حدث مع ليلى مراد حدث مع رجاء عبده، فهي في غمرة اهتمامها بأسرتها اكتشفت ان الوقت يمر والظروف تتغير ووزنها يزيد بما لا يسمح لها بالاستمرار في الاطار نفسه التي تعودت عليه وهكذا آثرت الانزواء في بيتها على أمل العودة من جديد حين تكون الظروف مهيأة لذلك، وحدث ذلك في العام 1973 عندما أقنعها الممثل الراحل فريد شوقي بأن تشاركه بطولة فيلم "كباريه الحياة" مع مها صبري ومحمود المليجي وروحية خالد، وكان الفيلم الوحيد الذي مثلته عبده بالألوان الطبيعية. وأقنعها كذلك الفنان عبدالمنعم مدبولي بالمشاركة في مسلسل يحمل اسم "مع حبي وتقديري" في السبعينات. شاركت عبده بالتمثيل والغناء في اوبريتات عدة منها أوبريت "شهر زاد" لسيد درويش وأوبريت "الدنيا بتجري" التي قدمتها في مطلع الخمسينات في دار الاوبرا المصرية من اخراج زكي طليمات في مشاركة المطربة الراحلة نور الهدى التي كانت تلعب البطولة في ليلة وفي الليلة التالية تلعب عبده الدور نفسه. وظلت عبده منزوية في بيتها نحو 35 عاماً رافضة اجراء أيّ أحاديث صحافية او اذاعية او تلفزيونية اياً كانت الاغراءات خصوصاً في الفترة الاخيرة، مكتفية بأولادها وبصديقتها المطربة المخضرمة لورد كاش. وكانت "الحياة" داومت على الاتصال بها قبل عامين في محاولة لاقناعها إجراء حوار صحافي، غير انها كانت ترفض بلطف لم يحل دون الاتصال بها مرات عدة للاطمئنان، وكان آخر اتصال عندما توفيت زميلتها الفنانة نور الهدى، وما ان علمت بالامر حتى اجهشت بالبكاء "حبيبتي يا نور الله يرحمك"، وقالت كلاماً نبيلاً عن نور الهدى نشرته "الحياة" في حينه. وفي أحد حواراتها النادرة قالت عن احتجابها: "انني اعيش من أجل ولدي، ولكي أصون مجدي الذي بنيته، ولكن كيف السبيل الى ذلك؟ لقد احتجبت وقتاً من الزمن من أجل هذه الصيانة، ومن الصعب على الفنان الذي يقيم لكرامته الفنية والشخصية وزناً أن ينزل من عليائه من أجل مادة زائلة، أوعرض سخي". بقي ان نذكر رأي محمد عبدالوهاب في صوتها، فهو قال في حديث اذاعي بثته الاذاعة المصرية اخيراً: "رجاء عبده صوتها مثل وجهها بالضبط، وجه مصري صميم كأنه أتى من النيل او الهرم، ولو أنك وضعتها وسط مجموعة كبيرة من فتيات العالم تستطيع فوراً أن تلمحها وتقول البنت دي مصرية، أهو صوتها كده مصري مئة في المئة برشاقة المصريين وذوقهم ونكاتهم ولطفهم يعني صوت يدخل الى الوجدان بسهولة".