قبل أيام قليلة نعت بولندا والاوساط المسرحية العالمية المخرج والمنظر المسرحي الكبير جيرزي غروتوفسكي تحت وطأة مرض اللوكيميا عن عمر يناهز الستة والستين عاماً . "غروتوفسكي فريد، لماذا ؟ حسب علمي، ليس ثمة غيره في العالم منذ ستانسلافسكي قد بحث في طبيعة التمثيل، على صعيد الظاهرة ومعناها،أي في طبيعة وعلم عملياته العقلية الجسدية-الانفعالية بعمق وكمال بحث غروتوفسكي ." بكلمات التعريف الحاسمة هذه يبدأ بيتر بروك مقدمته لكتاب "نحو مسرح فقير" الذي يضم مجموعة مقالات لغروتوفسكي ،وابحاثاً عن بعض عروضه ومنهجه في العمل مع الممثل لمسرحيين عاصروا تجربته، الى جانب مقابلات معه-والمقبوسات في هذا المقال مترجمة مباشرة عن الطبعة الانكليزية التي صدرت في نيويورك 1968 . ان هذه الشهادة من احد عمالقة الاخراج المسرحي في عصرنا، اظنها مازالت سارية المفعول حتى اليوم، رغم مرور ثلاثين عاماً عليها . فمنهج غروتوفسكي في العمل مع وعلى الممثل قد اصبح احد الركائز الاساسية في تدريب الممثل في معظم انحاء العالم، الى جانب منهجي ستانسلافسكي وبريشت، رغم نقاط الاختلاف بينهم من حيث الاهداف الاجتماعية السياسية لدور الممثل في العرض المسرحي، وعلماً بان مصادر التجارب والالهام جد متقاربة. ولد جيرزي غروتوفسكي في مدينة رزيزوف في 11/8/1933. درس التمثيل في كراكاو وموسكو وبكين، لكنه سرعان ما تحول الى العمل الاخراجي، وكان اول اعماله مسرحية "الكراسي" ليوجين يونسكو 1957. وبعد ذلك بعامين اسس مع صديقه لودفيك فلاشن "المختبر المسرحي" الذي دعي أنذاك "مسرح 13 صفاً ب 34 كرسياً" في مدينة أُبولِه، ثم نقلاه عام 1965 الى مدينة فروكلاف حيث اصبح مركزاً للابحاث في فن التمثيل، الى جانب التواجد الدائم للفرقة المسرحية التي بدأت تقوم بجولة عروض في الدانمرك والسويد والنرويج، كما شاركت في مهرجان مسرح الامم في باريس 1967. وبالتعاون مع مساعده تسيشلاك اقام غروتوفسكي مسرحية "قابيل" للانكليزي بايرون 1960 و"كورديان" للبولندي فيسبيانسكي و"التاريخ المأساوي للدكتور فاوستوس" للانكليزي مارلو في العام نفسه، وفي 1965 اخرج مسرحية "الامير الصامد" للاسباني كالديرون باعداد سلوفاكي، ثم "القيامة في صور"1971. وقد اوصلته هذه العروض الى الشهرة العالمية، نظراً لجدتها وخروجها على السائد المألوف في المشهد المسرحي خلال الستينات والسبعينات. ان ما لفت اليه انتباه المسرحيين بشكل خاص، هو تعامل غروتوفسكي مع الممثل والنص الادبي والفضاء المسرحي والجمهور. صحيح ان التعامل مع كل عنصر من هذه العناصر على حدة لم يكن جديداً كلياً على المسرحيين والجمهور المتابع ،لكن الجديد كان نابعاً من تضافر هذه العناصر في نسق جمالي يولد وحدة العمل الفني . والبؤرة التي يتمحور حولها العمل هي الممثل في ادائه الاشراقي الذي يقارب القدسي، والمنبثق من منهج متكامل في فن التمثيل . عندما سئل غروتوفسكي عن المصادر التي تشكل مرجعيته الفنية والفكرية أشار دون مواربة الى الممثل البولندي يوليوس اوستِرفا 1885-1947 والى ستانسلافسكي وما برهولد وآرتو وبريشت، وكذلك الى تقاليد المسرح الشرقي القديم كما في مسرح النو الياباني وكاتاكالي الهندي واوبرا بكين، وأضاف موضحاً ان منهجه الذي طوره في "المختبر المسرحي" عبر سنوات ليس تركيباً لاجزاء من هذا وذاك، "فنحن لا نريد ان نعلم الممثل مجموعة من المهارات التي سبق تقريرها او ان نزوده بوصفة سحرية .هنا في مختبرنا يتم تركيز كل شيء من اجل انضاج الممثل، وهذا يأتي عن طريق توتيره الى الحد الاقصى، وتجريده الكامل، وبالبوح الذي يقدم عارياً كل ما هو شديد الخصوصية .كل هذا دون اي شائبة من انانية او استمتاع ذاتي، بمعنى ان الممثل يقدم نفسه كهدية كاملة.هذه هي فنيةالتجلي وتكامل القوى النفسية والجسدية التي تنبعث من اغواركيانه وغريزته، فينبثق ما هو نوع من الاشراق ...ان اشكال السلوك الطبيعي تخفي الحقيقة . لهذا نبني نحن الدور على نظام من العلامات التي تمثل ما وراء قناع الرؤية العادية: اي جدل السلوك البشري .. العلامة اذن، وليس الحركة الطبيعية، هي بداية التعبير الصحيح لدينا". ولكي يتوصل غروتوفسكي الى نتائج مرضية مع الممثل ،سواء كان بولندياً او اجنبياً، فانه يستعين بنتائج كثير من العلوم الانسانية كعلم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا الثقافية، لان تدريب الممثل بالنسبة له هو بمثابة عملية كشف مشتركة بين ذاتين، المدرب والمتدرب، وذلك عبر سنوات من التدريب الشاق جسدياً ونفسانياً ومن جلسات تحليل مختلف الحالات التي يتعرض لها الممثل خلال عمله . اما في ما يتعلق بالنص المسرحي الادبي فقد توصل غروتوفسكي عبر عمله في مختبره الى ان الفن المسرحي لا يجوز ان يكون مطية لتقديم وتوضيح نص كاتب ما ، من زمن ما، كتبه لجمهور ما. بل هو احد عناصر العرض وليس مركز ثقله، ووظيفته تتركز في تحريض الممثل على خلق دوره بنفسه وليس على اعادة انتاج الشخصية كما تخيلها ووصفها الكاتب. ان الدور الذي يهدي الممثل نفسه له يتخلق في سياق العمل عبر التعاون المتكامل بين فريق العمل ككل، ولايجوز فنياً ان يكون تجسيدا لنسخة متصورة سابقاً في الذهن. ومن هنا فقدت النصوص الادبية قدسيتها بالنسبة لغروتوفسكي واضحت مجرد مادة خام، قابلة لاعادة النظر وللحذف والتطوير واعادة الكتابة انطلاقاً من راهنية لحظة العمل. صحيح ان غروتوفسكي يتكئ على نصوص مسرحية لادباء معروفين - كما عرضنا آنفاً - لكن نص عرضه المسرحي الجاهز للقاء مع الجمهور لايتطابق مع نص المؤلف الا من حيث العمود الفقري للحدوتة، بمعنى ان ما نتعرف عليه في العرض هو سيناريو جديد من حيث البنية والتكوين. يقول غروتوفسكي :"المسرح بالنسبة للاكاديمي هو المكان الذي يلقي فيه الممثل كلمات النص الادبي مجسداً اياها بمجموعة من الحركات تؤدي الى جعله اكثر قابلية للاستيعاب من قبل المتفرج. وبالتالي فان الفن المسرحي ليس اكثر من عنصر كمالي مفيد للادب،ومسرح المثقفين ما هو الا تنويع على المفهوم نفسه. انهم يجدون النص شيئاً مهما، اما المسرح فهو المشجب الذي نعلق عليه السجالات الثقافية... نحن لا نحتقر الادب، لكننا لا نجد فيه الجانب الابداعي للمسرح". خلال تجاربه المسرحية الاولى في "المختبرالمسرحي" تعاون غروتوفسكي على صعييد السينوغوافيا مع فنانين معروفين مثل جوزيف شاينا وغورافسكي،لكن بحثه التنقيبي في ماهية المسرح اوصله بالتدريج الى التركيز على الجوه، اي على الممثل فحسب، متخلياً عن كافة مكونات العرض الاخرى من ديكور وازياء ومكياج وموسيقا واضاءة، واطلق على عروضه الجديدة تسمية "المسرح الفقير" في مواجهة المسرح الثري المزود بالتقنيات الحديثة. يقول غروتوفسكي:"ان تعريفات المسرح لا تنتهي، ولكي نخرج من هذه الدائرة المفرغة، لابد ان نلغي بعض التعريفات بدلاً من ان نضيف اليها. وذلك بان نسأل انفسنا: ماهو غير الضروري في المسرح ؟ هل يمكن ان يوجد مسرح دون ازياء وديكورات؟ نعم يمكن. هل يمكن ان يوجد مسرح دون موسيقا تصويرية ودون مؤثرات اضاءة وصوت؟ بالطبع وهل هذا ممكن دون نص؟ نعم ايضا، فتاريخ المسرح يؤكد ذلك... لكن هل يمكن ان يوجد مسرح دون ممثل؟ لا علم لي باي سابقة من هذا القبيل. وهكذا يتبقى لنا لقيام المسرح: ممثل ومتفرج، اي يمكننا تعريف المسرح بقولنا : انه ما يحدث بين ممثل ومتفرج . اما ماعدا ذلك فمحض اضافات قد تكون ضرورية، لكنها اضافات. وبالتالي ليس الامر صدفة ان مختبرنا المسرحي قد تحول من مسرح ثري بتجهيزاته الى المسرح الفقيرالذي صرنا اليه خلال السنوات الاخيرة: مسرح فقير، ليس فيه سوى ممثلين ومتفرجين. كل ما هو بصري يقدمه الممثل بجسده، وكل ما هوسمعي يقدمه الممثل بصوته". ان الشق الثاني في معادلة غروتوفسكي كتعريف للمسرح، اي المتفرج، قد أخذ حيزاً كبيراً من تفكيره وممارسته منذ السنوات الاولى لقيام "المختبرالمسرحي" و"مسرح 13 صفا ب 34 كرسياً" يشير الى ذلك بوضوح. انه لايتوجه الى جمهور عريض مجهول، وانما الى نخبة محددة في جو حميمي يهيء امكانية المشاركة المتوخاة بين الطرفين بهدف التأثير في المشاهد انفعاليا عبر اداء الممثل المنعتق جسدياً ونفسياً. لكن هذه النخبة"لايحددها الوضع الاجتماعي او الاقتتصادي للمتفرج، ولا حتى الوضع الثقافي. ان العامل العادي الذي لم يتجاوز مرحلة التعليم الثانوي يمكنه ان يخوض هذه العملية الابداعية في البحث عن الذات، في حين قد يبقى استاذ جامعي ميتاً متقولباً، جامدا بصورة مفزعة كالجثة. يجب ان يكون هذا واضحا منذ البداية : اننا لا نتوجه الى جمهور ما، لا على التعيين، وانما الى جمهور خاص". ومكان العرض المسرحي لدى غروتوفسكي لا ينقسم حسب التقاليد الموروثةالى صالة ومنصة بحيث تتحدد العلاقة الجبهية الاحادية بين الجانبين، انما يتغير مكان الجمهور بين عرض وآخر حسب خصوصيته، فتارة يحيط الحمهور بالممثلين، وتارة اخرى ينقسم هذا الجمهور الى جزئىن او ثلاثة موزعة في المكان المفتوح بما يحقق التواصل والتأثير الامثل لفعالية الممثل على المشاهد. يقول غروتوفسكي:"الامر الهام بالنسبة لنا هو ان وجود المتفرج في المسرح هو تواجد في مرحلة النمو الروحي له، وكأنه موجود مطلاً على النفس البشرية وعلومها، باحثاً في عروضنا عن مفتاح يتعرف بواسطتته على ذاته او موقعه على هذه الارض." ثمة في عروض غروتوفسكي ما هو طقسي احتفالي، وقد لجأ منذ منتصف الستينات الى استخدام الاساطير، الوثنية والدينية وتضمينها في ثنايا عروضه، ولكن ليس بالمعنى الجمالي او المعرفي، وانما كحامل لقضايا الانسان المعاصر. وهذا الهدف ينسجم مع شكل وسلوب العمل داخل فرقته-مختبره، اقصد بذلك حياة التقشف الماددي الجماعية التي يعيشها اعضاء الفرقة وابداعهم الجماعي واخلاقياتهم الرفيعة .ومنذ عرض "القيامة في صور" 1971 بحث غروتوفسكي في الظواهر شبه المسرحية التي تعرف على اشكال لها خلال جولاته في ايرانولبنان وامريكا اللاتينية مستفيداً من تقاليدها، وفي عام 1975 اسس ما يسمى ب"المهرجان او المشاريع الخاصة او الفعالية الجماعية"التي اخذت تبحث في ميادين مختلفة في آن واحد الى جانب الفن المسرحي كالفنون عامة والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والنثروبولوجيا وعلم البيئة والاقتصاد وغيره،ما أدى على الصعيد التنظيمي الى تجزيء "المختبر المسرحي" الى فروع عدة تمارس انشطة مختلفة مثل "مختبر العمل النظري والتحليل الجماعي"بادارة لودفيك فلاشن و"مختبر بحث منهجية الحدث" بادارة جينيف تسينكوتيس و"مختبرندوات العمل" بادارة ستانيسلاف سيرسكي و"الستوديو الدولي"بادارة جيغنيف سبينمالسكي. وكانت آخر مشاريع هذه العاليات عرض "جبل المخاطر" و"بيت خلية النحل"1975 - 1977 بالاضافة الى تأسيس"جامعة مسرح الامم التجريبية" في فروتسواف منذ 1975التي اخذت تستقبل اعداداً متزايدة من طلاب التمثيل من مختلف انحاء العالم، مع الاستمرار في اقامة ورشات العمل حول منهج غروتوفسكي في كثير من عواصم الغرب بادارة فلاشن وتسيشلاك وتسينكوتيس. وقد امتد تأثير هذا المنهج الى المسرح العربي، وتحديداً الى لبنان كما في تجربة منير ابو دبس في "فرقة المسرح الحديث" وفي عروض المخرج جوزيف بو نصار الذي درس لدى غروتوفسكي. * ناقد سوري