في مذكراته، يروي محمود المستيري وزير الخارجية التونسي السابق ورئيس النادي الافريقي في الثمانينات، أن ممارسة كرة القدم وارتياد الملاعب في بداية الاستقلال كان يُنظر اليهما بشيء من "الدونية"، ويُطلق نعت "زوفري" على لاعب الكرة... وبذلك كانت صورة اللاعب نسخة طبق الاصل عن صورة العاطل عن العمل وصاحب السوابق من خريجي السجون. ودلّت دراسة لمجموعة من الباحثين برعاية مؤسسة حكومية للاسرة ان نسبة 70 في المئة من شباب تونس تمارس كرة القدم وان الشخصيات المفضلة لهذه الشريحة هي المطربون بالدرجة الاولى ثم الرياضيون... وفي اسفل الترتيب رجال السياسة! وفي تونس اليوم 7 أحزاب سياسية معترف بها، تتفاوت من حيث قاعدتها الجماهيرية وعراقتها في التاريخ المحلي وانتشارها الجغرافي. ويسيطر التجمع الدستوري الديمقراطي، وهو الحزب الحاكم، على الحياة السياسية لكونه اعرق حزب في افريقيا ولارتباطه بجهاز الدولة وباعتباره وسيلة للحراك الاجتماعي في زمن العولمة والليبرالية. لكن نبض الشارع الحقيقي ومحور المناقشات اليومية لدى "التوانسة" والانتماء العضوي الفعلي هي اندية كرة القدم، وبالتحديد الاربعة الكبار الترجي تونس والنادي الافريقي والنجم الساحلي والنادي الصفاقسي... ويبقى منتخب تونس فوق الجميع احتراماً للعلم وحباً للوطن. ويحظى اللاعبون في تونس والعالم بتغطية اعلامية مهمة تتجاوز عطاءهم ومسيرتهم الى البحث في ادق التفاصيل لحياتهم الشخصية، ويحتل رؤساء الاندية حيزاً من المشهد الرياضي العام. واذا كان المال هو عصب الاعمال، فإن قوة الاندية وديمومتها واشعاعها عناصر تستمد من رجال الظل الذين يغذون موازناتها ويتحملون اعباءها المالية. كما ان احد عشر لاعباً من ارقى من انجبت كرة القدم العالمية لا يصنعون الحدث ولا الفرجة في غياب الجمهور العريض في مدرجات الملاعب. وبعد، من هم الذين يصنعون ربيع الاندية التونسية في عقد التسعينات؟ منتخب تونس... والمظلي رصد الاتحاد التونسي لكرة القدم مليون دينار لاستعدادات منتخب تونس في مغامرته الافريقية الجديدة "كأس الامم 2000"، كما ان مؤسسات عدة تدعم بالرعاية والاعلان ابناء المدرب سكوليو لتجديد العهد مع الانتصار... ويعد "ميلاد" من ابرز النخبة الجديدة لرجال الاعمال في تونس حيث تمتد امبراطوريته الاقتصادية والمالية من الاستثمار السياحي الى مؤسسة الطيران الخاصة الاولى في البلاد. ويتميز هذا الرجل الخمسيني بابتعاده عن الاضواء وحبه للعمل وحساسيته الشديدة تجاه الصحافة والاعلام عموماً. ويعتبر هذا الرجل القادم من عاصمة الاغالبة "القيروان" والذي ترأس هيئتها لدورات عديدة من كبار ممولي الاندية التونسية والمنتخب، بداية من نادي شبيبة القيروان نادي مهده الاصلي، الى شيخ الاندية التونسية الترجي، والمنتخب حيث ترأس اللجنة العليا للدعم وهي هيئة تجمع كبار رجال الاعمال في البلاد وتسهر على حسن سير المنتخب في ادق الجزئيات. وفي بورت اليزابيث، بجنوب افريقيا، قام "القعبوط" بغرس زيتونة تونسية بمناسبة كأس امم افريقيا 1996، والقعبوط مظلي سابق في الجيش التونسي وهو حالياً موظف في احد المصارف ويعد المشجع الرقم 1 للمنتخب. وينحدر القعبوط من محلة باب الاقواس في قلب العاصمة ويتميز بلباسه الطريف الذي يطغى عليه اللونان الأحمر والابيض لونا ناديه المفضل النادي الافريقي. ومع مسؤولياته الاجتماعية اب لطفلين فان في اجندته اليومية حضور دائم الى ملعب النادي او للمعسكرات التدريبية للمنتخب، وعادة ما يكون ضمن البعثة الرسمية المرافقة للاعبين. الجيلاني والرقراق تتجاوز موازنة نادي الترجي 4 ملايين دينار، واذا تميزت السبعينات ومطلع الثمانينات بسيطرة المحامين وكبار موظفي الدولة على هيئة النادي فإن عميد الاندية التونسية لم يعرف في تاريخه ازمات مالية، لذا تغنى محبوه بشعار "الترجي يا دولة"... فكبار رجال الاعمال اليوم يعشقون "الاصفر والاحمر" بدءاً من رئيس اتحاد الاعراف الهادي الجيلاني الى عائلات بن يدر "ميلاد" في دائرة معقدة من العلاقات بين السياسي وصاحب المال والرياضي مع امتداد اشعاع الترجي الجماهيري من باب سويقة الى جرجيس... وبعيداً عن الجغرافيا، فإن كبار مشجعي الترجي هم من سكان الاحياء الساخنة في العاصمة - امثال "الفردة" و"العكس" - الذين يعودون بعد المباريات الى "الجبل الاحمر" وهو الرمز التاريخي للاحياء الساخنة حيث يجتمع كوكتيل من المهمشين والعاطلين عن العمل وثلة من خريجي السجون لتكوين المشهد العام في الحي. واذا عرف "الجبل الاحمر" في العقد الماضي تحولاً نوعياً في بنيته الاساسية احتواءً للانحراف والتطرف الديني، فان "الرقراق"، وهو رمز للجيل الجديد لعشاق الترجي، يواصل قيادة المئات من شبان الحي في رحلتهم عبر الشوارع رافعين شعارات الترجي من الجبل الاحمر الى ملعب المنزه. ويعتقد "الرقراق" بأن زمن "الوحش" المشجع الاول السابق ولّى وانتهى وان "دبدوب" كما يحلو لانصاره مناداته هو الزعيم الفعلي لجماهير الترجي حالياً، وهو ملحن الشعار الجديد "شيبوب يا باشا الكأس في باب سويقة والقمح في جاجة". و"الرقراق" عاطل عن العمل، لكن برنامجه اليومي كثيف، فهو مرابط دائم بمركب الترجي التونسي ويحظى بعطف رئيس النادي سليم شيبوب ايام الاحد وفي الاعياد والتتويج بالبطولات والكؤوس. "سالمة" وعمرو دياب وشهدت مدرجات الملاعب التونسية في التسعينات ظاهرة جديدة تتمثل في غزو فتيات تونس لملاعب كرة القدم حاملات اعلام الاندية ومتزينات بلون النادي المفضل على وجوههن. وسمح النادي الافريقي للفتيات بالدخول الى الملاعب مجاناً في كل مقابلاته، لكن "سالمة" تمثل في حد ذاتها ظاهرة. فهذه المرأة التي تجاوزت سن الخمسين متيمة بحب نادي جوهرة الساحل "النجم الساحلي" وتتميز باستعمالها الدائم للبخور ولباسها التقليدي التونسي، وفي العام الماضي تعرضت سالمة للضرب من مشجعي ناد منافس فتغيبت عن ملعب سوسة، ولعلها مفارقة ان النجم الساحلي خرج مبكراً من مسابقة كأس تونس وعرف مردوداً مخيباً لآمال جماهيره في دور الذهاب من بطولة الدوري! لكن مع غياب سالمة فان عوامل اخرى تفسر هذا التقهقر لعل اهمها التحاق لاعبه المحوري زبير بية للاحتراف في الدوري الالماني. ويواصل عثمان جنيح رئيس النجم الساحلي وعائلات عريقة في عالم المال في تونس مثل مهني وادريس العمل بصمت لاعادة الفرحة الى قلوب عشاق النجم في حين يستمر جمهور عاصمة الزيتون صفاقس في التغني باغنية النادي الرسمية "عودوني" لعمرو دياب منذ حصول النادي الصفاقسي على كأس الاتحاد الافريقي. وبعد ايام "عنتر" في نهاية الثمانينات وهو مشجع متعصب للنادي، يبدو ان الفتي الاسمر "ميزو" هو الذي صار فأل خير على نادي عاصمة الجنوب. وبين القدرة المالية للاغنياء الجدد في تونس، وسواعد الجماهير القادمة من الاحياء الساخنة وافواهها، يرتسم المشهد العام لكرة القدم في تونس، ويهجر شبابها دكاكين السياسة في عقد التسعينات... فمن سيكون عليه الدور في الالفية الجديدة؟