الكتاب: مصر القبطية المؤلف: محمود مدحت تقديم ومراجعة: الدكتور يونان لبيب رزق والدكتور سليمان نسيم الناشر: مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان - القاهرة 1998 يكشف هذا الكتاب عن حقبة مهمة من حقب التاريخ المصري العام وهي الحقبة القبطية التي يشهد كثير من المؤرخين أنها لم تدرس الدراسة الواجبة خصوصاً وأن معظم مصادرها ووثائقها لم تنشر كاملة حتى الآن. ولعل السبب في ذلك هو أن كثيراً من المؤرخين اعتادوا ربط التاريخ القبطي بالمسيحية كديانة بمعنى أنهم لم يروا في ذلك التاريخ إلا الجانب الديني فقط والذي رغم أهميته، لا يعطي صورة كاملة عن ذلك التاريخ. ويأتي هذا الكتاب ليكمل بعض النقص في الدراسات التي تعالج تاريخ مصر في العصر القبطي. ورغم أن القراءة السريعة لعنوان الكتاب قد توحي بأن صاحبه من اولئك الذين يقبلون بتقسيم الفترات التاريخية على أساس ديني، إلا أن القراءة الأكثر عمقاً لمضمونه تكشف عن امتلاك مؤلفه لمنهج علمي في النظر الى الفترة التي يدرسها حيث يتبنى منهج المدرسة المادية في تفسير التاريخ من خلال تحري أسباب الظواهر من الناحيتين السياسية والاقتصادية مع إلقاء الضوء على القوى الاجتماعية وعلاقاتها ومدى تناميها وتأثيرها في المسار الحضاري للشعب موضوع الدراسة. وعلى هذا الأساس يربط المؤلف بين المسار الحضاري في مصر القبطية وبينه في الحقب السابقة عليه مصر القديمة - اليونانية - الرومانية ويعالج أحوال مصر في هذه العصور مستعرضاً التطور الطبيعي والبيئي والجغرافي الذي حدث في مصر منذ أقدم العصور. ويشير الى أن المجتمع المصري الذي تميز بالتجانس اللافت تميز أيضاً بالعمل الجماعي المشترك لتحقيق أعلى استفادة ممكنة من طبيعته النهرية، ومن هنا كان قيام الدولة المركزية ضرورة حضارية وضمانة لاستمرار تقدم المجتمع واستقراره من خلال نظام ري يضمن عدالة التوزيع ويحقق مجتمع الوفرة الانتاجية. ويصل المؤلف الى نتيجة مؤداها ان التجانس في طبيعة الشعب المصري وصل به الى اكتشاف "الوازع الخلقي" وتشكيل الديانة المصرية القديمة التي وصلت في تطورها الى فكرة الوحدانية في مقابل التعددية. والواضح أن المؤلف لا يتجاوز في هذا السياق الأفكار التي طرحها عدد من الباحثين أبرزهم هنري برستن وأحمد صادق سعد وسيد القمتي وحسين فوزي وحلمي وحيد، غير أن نجاحه الحقيقي يكمن في قدرته على استقراء تلك الأعمال ليربط بين ما توصلت اليه ويصل الى نتائج جديدة. وبعد أن يحدد المؤلف طبيعة الجدل القائم بين الطبيعة والدولة في مصر وأثره في تكوين الشخصية المصرية وتحديد سماتها المتميزة ينتقل الى العمود الفقري في كتابه حين يرصد العوامل التي شجعت المصريين على قبول الديانة المسيحية وهو هنا لا يبتعد كثيراً عما طرحه طاهر عبدالحكيم في مؤلفه الذائع الصيت "الشخصية الوطنية المصرية" حيث يؤكد أن تحول المصريين عن ديانتهم القديمة الى المسيحية هو في حقيقته شكل من أشكال مقاومة الظلم الاجتماعي ومظهر من مظاهر المقاومة الوطنية ضد الحكم الروماني. الضرورة التاريخية في تلك الفترة كانت تتطلب قيادة وطنية جديدة تستطيع توجيه السخط الشعبي المتزايد على الرومان لأن القيادة الوطنية التقليدية أمراء طيبة وحكام الاقاليم كانت قد تعرضت للتصفية أما القيادة الدينية التقليدية كهنة آمون فهي قيادة "خائنة" بسبب قبولها لأن تكون ركيزة محلية لحكم الإغريق ثم الرومان من بعدهم. وكان طبيعياً أن يلفط المصريون هذه القيادة بما تمثله من قيم. وهنا جاءت المسيحية بكل قيمها الروحية لتقدم الإطار الايديولوجي البديل للصراع الوطني مع المحتل الذي سعى بدوره لمواجهة انتشار هذه الديانة التي كانت تمثل ثورة اجتماعية قادرة على تهديد مصالحه. هذا بالإضافة إلى عوامل عدة جعلت من قبول المصري للمسيحية أمراً يسيراً في مقدمها تدهور الديانة المصرية القديمة مما أحدث فراغاً روحياً لم تصلح اليهودية لتعويضه لما تميزت به من عنصرية منافية لطبيعة الشعب المصري، هذا بخلاف تعدد نقاط اللقاء بين المسيحية والفكر الديني المصري القديم خاصة في فكرة "التثليث" مع التسليم الكامل باختلاف المضمون اللاهوتي والروحي بين العقيدتين، وكل هذه العوامل سهلت الإتصال بالمسيحية فكرياً ووجدانياً. ويرصد المؤلف في إيجاز الدور النضالي للمسيحية المصرية على المستوى الثقافي والقومي حيث كان من أهم انجازات المسيحية المصرية ظهور حركة الرهينة والديرية التي يرى بعض الباحثين أنها "أهم معونة قدمتها مصر للمسيحية" وهي حركة دينية في الأساس لكنها اكتسبت طابعاً جماهيرياً بعد أن دخلها الفلاحون لدرجة أن عدد الرهبان وصل في فترة من الفترات الى رقم 100 ألف راهب تمكنوا من قيادة عدة تمردات فلاحية أبرزها تمرد "سمنود" الذي حدث في 582 للميلاد". وبإيجاز شديد يعرض المؤلف لاسهامات الشخصية المصرية في المسيحية من خلال إنشاء مدرسة اللاهوت في الاسكندرية وهي مدرسة اصطبغت بصبغة قومية لافتة، ومن مظاهر النزوع القومي التي لم تغب عن ذهن المؤلف سعي المسيحي المصري لتأكيد شخصيته القومية وترجمة الكتاب المقدس والتعاليم الكنسية الى اللغة المصرية وهو الأمر الذي أدى أولاً الى ازدهار هذه اللغة وثانياً سد الطريق أمام اللغة اليونانية ومنعها من التسرب الى المصريين. وينظر المؤلف الى موقف الكنيسة المصرية من الجدل الذي شغل العالم الروماني حول طبيعة المسيح باعتباره موقفاً وطنياً لأنه يعبر في جوهره عن المضمون الثقافي للمسيحية المصرية فالمعروف أنه حتى أوائل القرن الرابع الميلادي كانت الكنيسة المصرية تتبنى مذهب أريوس حول الطبيعة الآدمية للسيد المسيح وفي تلك الفترة اضطر اساقفة الاسكندرية ولاسباب اقتصادية وسياسية لقبول عدة تفسيرات لهذا المذهب ابرزها التفسير الذي يرى في الامبراطور ظل الله على الأرض. لكن نجاح الاسقف المصري اثناسيوس في إحداث تمرد داخل الكنيسة وصل به الى منصب بطريرك الاسكندرية أحدث انقلاباً في موقف الكنيسة من هذا التفسير وبدأ شن حملة شعواء ضد آريوس ووصفه ب"الهرطقة" وقد خاضت المسيحية المصرية معركتها ضد هذه الهرطقة تحت راية "الطبيعة الواحدة للمسيح". ويلاحظ المؤلف أن ثبات الكنيسة المصرية على إيمانها يعزز من مقولاته حول الطابع القومي لها حيث استهدفت كل المجامع الكنسية التي شهدتها الامبراطورية حول قضية طبيعة المسيح عزل مصر وكسر شوكة البطاركة الذين برزوا كزعماء دينيين من جهة وزعماء للشعب المصري من جهة أخرى في مواجهة الاحتلال الروماني، وهو الأمر الذي يؤكد نجاح المؤلف الاستدلال على فكرته التي طرحها في المقدمة وأراد خلالها اثبات أن المسيحية المصرية استطاعت أن تبلور إطاراً قومياً للمصريين يحفظ لهم شخصيتهم القومية المستقلة، والمؤكد أن ظروف اللحظة الراهنة تجعل من الأفكار التي يحملها الكتاب درعاً أساسياً في مواجهة بعض المحاولات التي تسعى للتفريق بين المصريين على أساس ديني.