بصراحة، محاكمة بيل كلينتون في مجلس الشيوخ الأميركي تفتقر إلى عناصر إثارة كمحاكمة او. جي. سيمبسون في لوس انجليس قبل ثلاث سنوات. حاولت جهدي أن اتابع كلام النواب الذين لعبوا دور الادعاء أمام الشيوخ المئة وعجزت. ثم فشلت في متابعة رد محامي الرئيس الأميركي على التهم، وأخيراً نمت قبل أن يلقي الرئيس خطابه عن "حالة الاتحاد" بعد أن قرأت أنه لن يتضمن أي إشارة إلى محاكمته. طبعاً سأهتم كثيراً لو وقف أحد محامي كلينتون، كما وقف جوني كوكران، محامي سيمبسون في حينه، وأصرّ على أن ترتدي مونيكا لوينسكي الفستان الذي حمل لطخة من "آثار العدوان"، كما أصرّ محامي سيمبسون ان يرتدي موكله القفاز الملطخ بالدم الذي وجد مكان ارتكاب الجريمة. ولا بد ان القراء يذكرون ان القفاز كان تقلص وانكمش ولم يدخل في يد سيمبسون، فاعتبر المحامي ذلك دليلاً آخر على براءته من جريمة ثبتت عليه في وقت لاحق في المحاكم المدنية. لوينسكي اكتنزت شحماً ولحماً منذ انفجار الفضيحة، وأنا واثق من أن الفستان ضاق على ردفيها، فإذا حاولت ارتداءه أمام الشيوخ وعجزت، فإن هذا دليل على براءة كلينتون. أهم من براءة كلينتون ان ارتداء الفستان أو خلعه على التلفزيون، سيحيي اهتمامي والقارئ بمحاكمة الرئيس الأميركي كما لم يفعل 13 نائباً، يسمونهم "مديرون"، مع أنهم مدعون عامّون، في قضية أصرّ مرة أخرى على أنها محاولة انقلاب يميني، على الطريقة الأميركية، ضد رئيس منتخب في بلد يبدأ دستوره بالكلمتين: نحن الشعب... الشعب الأميركي أثبت في كل استفتاء قبل المحاكمة وبعدها أنه غير مهتم بالتفاصيل، وان غالبيته تؤيد الرئيس وتعتقد أنه يقوم بالعمل الذي انتخب من أجله بشكل جيد. بل أن 54 في المئة، وهي غالبية كبيرة بالمقياس الأميركي، قالت إنها تعتقد أن الرئيس صادق. وتعكس افتتاحيات الصحف الأميركية شعور الناس هذا، وأمامي الآن مقتطفات من "بوسطن غلوب" و"ميامي هيرالد" و"سان فرانسيكو كرونيكل" و"دترويت فري برس"، بالاضافة إلى ما كتبت "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" باستمرار، وكلها بمعنى ان المحاكمة التاريخية لم تثر أي اهتمام لدى المواطن العادي وتركته مرتبكاً ازاء التفاصيل. وسبب الارتباك واضح، فالمؤامرة اليمينية ضد الرئيس تميزت بالخبث في كل مرحلة من مراحلها، فقد زعم الجمهوريون في الكونغرس أنهم منقسمون على موضوع المحاكمة، وبدا كما لو ان هناك جدلاً حقيقياً في شأنها، غير ان العزل أقر في مجلس النواب على أسس حزبية خالصة، واحيلت القضية على مجلس الشيوخ للمحاكمة، وهنا عاد الجمهوريون إلى البحث علناً في "المعطيات"، مع أنهم متفقون من البداية على أن تسير المحاكمة وتطول، لايقاع أكبر ضرر ممكن بالرئيس، كما انهم يريدون استدعاء شهود، مثل مونيكا لوينسكي، ليحركوا اهتمام المواطن العادي بالقضية. وموقف المدافعين عن كلينتون ليس أقل استحالة، فهم يقولون ان احضار الشهود سيجعل المحاكمة "غير عادلة"، ولكن كيف يمكن اتخاذ قرار تاريخي، من نوع إدانة رئيس أو تبرئته، من دون سماع شهود؟ اتوقف هنا لأقول إن القارئ ربما لاحظ انني لم ادخل بعد في تفاصيل القضية، مع انني حاولت الدخول في فستان مونيكا لوينسكي، وإنما بقيت على الهامش، والسبب انني مثل المواطن الأميركي العادي أجد التفاصيل مكررة ومملة، وهي إذا كانت كذلك للأميركي المعني مباشرة، فهي أضعاف ذلك رتابة ومللاً للعربي الذي يتابع التفاصيل لمجرد التسلية في اجازة العيد. آخر تفصيل عندي اليوم هو عن كبير القضاة وليام رينكويست، الذي يرأس المحاكمة في مجلس الشيوخ، فهو محافظ حتى أخمص قدميه، عيّنه ريتشارد نيكسون في المحكمة العليا سنة 1972 لموازنة التوجه الليبرالي لغالبية قضاتها، فلم تمضِ سنتان حتى عُزل نيكسون. غير أن كلينتون ربما لقي مصيراً أفضل من نيكسون، فأغرب ما قرأت عن رينكويست هو أنه ترأس سنة 1996 "محاكمة" نظمتها كلية الحقوق في جامعة انديانا للملك ريتشارد الثالث، ملك بريطانيا من 1461 إلى 1483، فوجده رئيس المحكمة الأميركية العليا بريئاً من جريمة قتل ابني اخيه لوجود عنصر شك، لا بد أن يكون موجوداً في قضية كلينتون. ريتشارد الثالث ربما كان بريئاً من جريمة اختفاء ادوارد الخامس وأخيه الأصغر، لأن أصابع الاتهام وجهت كذلك إلى دوق بكنغهام الذي حاول تدمير سمعة الملك، ثم نظّم ثورة ضده فشلت وأعدم بسببها. والشيء بالشيء يذكر، فمدرب مايك تايسون قال قبل مباراته الأخيرة إن تايسون "لطيف" يقرأ مسرحيات شكسبير. وبين هذه كما يعرف القارئ مسرحية "ريتشارد الثالث"، إلا أنني أرجح ان تايسون يفضل "يوليوس قيصر" ففيها يقول مارك انطوني ذلك السطر الخالد "أيها الأصدقاء والرومان والناس اعيروني آذانكم..." وخسر فرانسوا بوتا المباراة، إلا أنه لم يخسر أذنه كما حدث لايفاندر هوليفيلد في مباراة تايسون السابقة.