لا يخفى على أحد ان العالم العربي في حاجة شديدة الى اعادة التفكير في مستقبله والتخطيط لمسار جديد لتطوره، وأن علاقته بالنظام العالمي هي منصة انطلاق مهمة لعملية إعادة التفكير هذه. فلدينا ثلاث دول عربية يستهدفها النظام الدولي ممثلا بالاممالمتحدة التي تهيمن عليها الولاياتالمتحدة وهي العراق وليبيا والسودان، وتخضع هذه الدول لقرارات عقابية من جانب مجلس الامن. وعلى رغم انها جميعاً تعيش ازمات داخلية مستفحلة بدرجات متفاوتة، فإن صراعها الذي لا يهدأ مع الولاياتالمتحدة تحديداً، وبدرجة اقل من الدول الغربية الثلاث الدائمة العضوية في مجلس الامن، وصاحبة الصوت الاعلى والذراع الاطول في السياسة الدولية هو المحدد الرئيسي لواقعها السياسي والاجتماعي، وربما يكون هو العامل الحاسم في تطورها المستقبلي، وحيث ان هذا الصراع يتخذ شكل العدوان العسكري الدوري، فإن قضايا هذه الدول الثلاث، وبخاصة العراق، تتخذ بالضرورة شكل الازمات الملتهبة بين العرب عموماً والنظام الدولي الراهن. ولدينا كذلك ثلاث دول اخرى تعيش حال ارتهان مضطرب بسبب تناقض متأجج، وإن كان مكتوماً الى حد ما في اللحظة الراهنة، مع النظام الدولي بقيادة اميركا، وهي فلسطين ولبنان وسورية، والسبب الرئيسي للارتهان يتمثل في فشل النظام الدولي بصورة فاضحة في تطبيق قرارات الاممالمتحدة ذات الصلة بالاحتلال الاسرائيلي لأراضي هذه الدول الثلاث، وتمتع اسرائيل بحماية ورعاية ودعم الولاياتالمتحدة، وهو الامر الذي يجعل هذه الاخيرة جزءاً من نظام الاحتلال، اضافة الى ما يحدثه من ارتهان مزدوج للتطور المستقبلي لهذه الدول العربية وللنظام الدولي ممثلا في الاممالمتحدة ذاتها. ولدينا كذلك دول الخليج الست الاعضاء في مجلس التعاون، وتتحدد علاقتها بالنظام الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة بأزمتين هيكليتين، الاولى تخص اسعار النفط المنهارة، وتوقع نهاية عصر النفط وريعه بما يخلخل بشدة وضعها الاقتصادي، ومن ثم موقفها الاجتماعي والسياسي الداخلي والخارجي. أما الثانية فهي الافتقار إلى نظام أمني يكفل لهذه الدول ضمان سلامتها واستقرارها وصيانة استقلالها، وهو الأمر الذي أدى - بخاصة بعد الغزو العراقي للكويت - إلى وجود عسكري أميركي وبريطاني دائم في أراضي بعضها وفي مياه الخليج، وبسبب استحالة الاستمرار في المعالجات الموقتة والجزئية لهاتين الأزمتين، فثمة ضرورة ستفرض نفسها آجلاً أو عاجلاً لإعادة هيكلة علاقات هذه الدول بالنظام العالمي. وإضافة الى ذلك كله، فلدينا حال الجزائر التي لا يمكن عزل أزمتها الداخلية الهائلة عن المحيط الدولي، حتى لو رفضنا التسليم ببعض النظريات التي ترى في هذه الأزمة علامات صراع أميركي - فرنسي على النفوذ فيها، وحال الصومال التي "استقر" دمار الدولة فيها، وحتى مصر التي يبدو ظاهرياً أن علاقاتها الدولية مستقرة إلى حد كبير، فإنها تمور وتفور بصراعات مكتومة في الداخل والخارج حول توجهها المستقبلي. وبغض النظر عن قوى الشد والجذب الداخلية، فإن استراتيجيتها العامة خلال سني حكم الرئيس مبارك والتي تقوم على معادلة دقيقة وحرجة للغاية بين هويتها العربية ومصالحها الدولية تهتز بشدة بين الحين والآخر، لأنها لا تستطيع أن تعزل ذاتها عن الصراعات المتأججة بين اميركا والغرب عموماً من ناحية ودول عربية رئيسية بالنسبة الى مصر من ناحية أخرى. ويكاد يكون الصراع حول توجه مصر المستقبلي هو حجر الزاوية في التطور المقبل للعالم العربي كله، وبصفة أخص لعلاقات العرب الدولية، ومدخلهم الى أو تخرجهم من النظام الدولي الراهن. والعرب - بهذه الصورة - هم الكتلة الدولية - او بالاحرى الفضاء القومي او الاجتماعي - الوحيد في العالم تقريباً الذي يعيش تلك الحال من الصراع المتفجر والارتهان المؤلم مع النظام الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة. ويدرك كل من "الطرفين" اي العرب والنظام الدولي هذه الحقيقة، بأشكال مختلفة تماماً، التي تسرع مجلس الامن بإلحاق العقاب بها بشأن نزاع قانوني ليس من اختصاصه، وبضغط ثلاثي مكثف من جانب الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا. أما القول بالاستثناء العربي ففيه بعض الحقيقة، فالعالم العربي يقع في المركبة الاخيرة من قطار المقرطة، وفيه بعض من اسوأ مظاهر التأخر الاجتماعي التي تنتمي الى العصور الوسطى، وهو ما تشهد عليه حال المرأة في كثير من الدول العربية. كما ان نصيب العالم العربي من العنف خارج القانون سواء من قبل منظمات سياسية معارضة او من جانب الحكومات ربما يكون الاعلى بين مناطق العالم كافة، باستثناء افريقيا جنوب الصحراء. لكن تلك الاتهامات المتبادلة فيها ايضا الكثير جدا من التبسيط والغلط، فما يسمى هنا بالاستثناء العربي لم يكن من قبل امراً سيئاً من وجهة نظر اميركا وبعض الدول الغربية التي تستعرض الآن عضلاتها ضد العرب، فقد وظفت اميركا الايديولوجية الاصولية "الاسلامية" ضد الحركة القومية وضد الاتحاد السوفياتي السابق، معاً، كما انها وظفت العنف وأشعلت فتيل التطور الارهابي لقسم من الاصولية الاسلامية في افغانستان، وما يحدث في هذا المجال ليس اكتشافاً مفاجئاً لاميركا، وانما هو في حقيقته تفكك التحالف بين اميركا والاصولية الاسلامية، ولم تكن اميركا نصيراً للمقرطة في ارجاء الكون، بقدر ما كانت خصماً لهذه العملية، ويصدق ذلك بالنسبة للعالم العربي كما يصدق بالضبط بالنسبة لاميركا اللاتينية والوسطى. وعلى الجانب المقابل، فإن اتهام اميركا والغرب، عموما بالامبريالية والتعصب العرقي والثقافي ضد العرب، قد لا يخلو من حقيقة، لكن الحضارة الغربية تحتوي ايضا على انجازات جبارة في التاريخ الانساني، بحيث يصعب الحديث عن اي تقدم بعيداً عن المشاركة معها والنضال ضد نزعاتها التعصبية في الوقت نفسه. والأهم من ذلك - من وجهة نظرنا - هو ان الصراع العربي- الاميركي يعطل التطور السياسي والاجتماعي في العالم العربي، ويؤخر التخطيط لمستقبله، ويهدر الفرص الكامنة لدفع النهوض العربي في كل المجالات، وإذا ظل العرب رهينة لصراع منفلت ضد اميركا في وقت تتمتع فيه بمكانة القطب الوحيد او بالاقل الاكبر فإنهم لا يعرّضون فيه قدراتهم وربما حضارتهم للدمار فحسب، بل ولإنقسام داخلي ممتد. وما حدث للعراق، وربما يحدث لليبيا، والسودان وفلسطين وبلاد عربية اخرى هو شاهد على ذلك، فحتى لو انتصرت ارادة عربية أمكن توحيدها، فإن العرب سيدفعون غالياً من حضارتهم وحياتهم ومستقبلهم في هذا الصراع، فالانتصار - فيما لو انجز بعد عقود عدة من المعارك المشتعلة - له تكلفة، مثلما ان للهزيمة تكاليفها. والحل يكمن في رأيي في حتمية البحث عن شكل للصراع لا يمتد الى التدمير العسكري او العنف المتبادل، والفصل بين قضايا التناقض الحقيقية والاتهامات المتبادلة الزائفة او التبسيطية، والقيام بمفاوضة تاريخية لضمان التفاعل الحر - صراعاً وتعاوناً - على صعيدين سياسي وثقافي، ووقف الارتطام الصدامي بين العرب واميركا أو الغرب عموماً ومن ثم بين العرب والنظام الدولي الذي تقوده. وربما يكون قد آن الأوان لتبريد خطوط التماس المباشرة بين العرب والنظام الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة كجزء من تصور عام عن اعادة التخطيط للمستقبل العربي عموماً، أما ما ندعو اليه هو العمل على فرض "هدنة" او "فك اشتباك" طويل المدى نسبياً يسمح للعرب بالتقاط الانفاس في الخارج والتركيز على اصلاح بيتهم الداخلي والتفكير بجدية في اسس النهوض الذي تعتمد عليه ركائز قوتهم في المستقبل. فإذا نجح العرب في فرض هذه الهدنة أو فك الاشتباك المطلوبة في اطار تصور او اطروحة استراتيجية للنهوض القومي وإعادة البناء الاقليمي، تصبح هذه الهدنة نفسها عملاً نضالياً وليس مجرد مفاوضة فيها بعض المكاسب وبعض الخسائر. فإذا كانت تلك المقدمات مقبولة يتعين علينا ان نتناول اطراف التفاوض، وجدول الاعمال والنتائج المرغوبة. ما ندعو اليه هنا هو تفاوض جماعي عربي، فبهذا المعنى وحده يمكن ان نجسد مفهوم الهوية العربية على الصعيد الثقافي- السياسي، ومفهوم النظام العربي على الصعيد المؤسساتي والسياسي، وقد يقوم العرب بالتفاوض جماعة بالمعنى المباشر للمصطلح، أي الاشتباك في حوار بقصد الخروج بنتائج محددة مع الاطراف الاخرى الخارجية المعنية. غير ان معنى التفاوض يمكن ايضا ان يكون غير مباشر، في هذه الحال يتفاوض العرب مع انفسهم ويخرجون بموقف جماعي معتدل ومتوازن حيال القضايا الصراعية والنزاعية، ويصرون على هذا الموقف ويتصرفون بناءً عليه، فإذا قبلت الاطراف الخارجية المعنية هذا الموقف تكون المفاوضة حققت اغراضها، وإن لم تقبل، فإن العرب يمكنهم تجاهل هذا الرفض، والتصرف بناءً على موقفهم هم، حتى لو كان ذلك يشكل خرقاً لقرارات دولية، ويمكن للعرب ايضا ان يستمروا في عرض التفاوض للوصول الى حلول وسط. وفي جميع الاحوال، يجب ان يتفاوض العرب مع انفسهم اولاً للوصول الى موقف متوازن من قضايا النزاع مع اطراف خارجية، والساحة المناسبة لهذا التفاوض مع النفس هي مؤسسة الجامعة العربية على كل مستوياتها، بما في ذلك مستوى القمة، فإذا توصل العرب الى مثل هذا الموقف المشترك والمتوازن المطلوب يمكنهم ان يفوضوا عدداً من الرؤساء والملوك الذين يتمتعون بعلامات طيبة مع الاطراف الخارجية للقيام بالتفاوض نيابة عن جماعتهم. وقد استخدمنا في الفقرات السابقة تعبير "الاطراف الخارجية" اي الشركاء الدوليين في عملية التفاوض لأنه يجب تحديد هؤلاء الشركاء بدقة، وهناك مدخلان مختلفان الى حد ما. المدخل الاول يحدد شركاء التفاوض في الدول الغربية الكبرى الثلاث: أي الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، او حتى الاولى وحدها، والمنطق وراء هذا التحديد هو انه ليست ثمة مشكلة حقيقية بين العرب والاعضاء الاخرين الدائمين في مجلس الامن، أي روسيا والصين، بل إنه لا تكاد تكون ثمة مشكلة حقيقية مع فرنسا خارج نطاق النزاع مع ليبيا المتهمة باسقاط طائرة مدنية فرنسية فوق تشاد فإذا تم الوصول مع هذه الاطراف الى اتفاق تفاوضي يكون الهدف قد تحقق تلقائيا، وهو تصحيح علاقة العرب مع النظام الدولي عموماً. والعيب الجوهري في هذا المدخل هو انه يخرج اطرافاً مهمة قد تقوم بدور جوهري في الوصول الى حلول وسط خصوصا روسيا والصين. ولذلك فاننا نقترح ان نأخذ بالمدخل الثاني وهو التفاوض مع مجلس الامن ذاته، وبكامل اعضائه الخمسة الدائمين، عندئذ يكون التفاوض اكثر شمولا ويتم في اطار العلاقة المؤسسية المنصوص عليها في الميثاق: اي بين الاممالمتحدة والجامعة العربية. اما جدول اعمال المفاوضات فيجب ان يكون مصاغاً بما يكفل الوصول الى نتائج عملية وفي اطار زمني مقبول، ومن هنا نستبعد ان يماثل هذا التفاوض ما يسمى بحوار الحضارات مثلا. ومن ناحية اخرى، فانه يجب ان يكون مشتملاً على عدد من المواضيع، وحيث ان المشكلات العالقة بين العرب واميركا، او العرب والنظام الدولي ممثلا في هذه الحال بمجلس الامن كثيرة جداً، فمن الممكن تقسيمها الى مجموعات او شرائح يناقش كل منها خلال فترات زمنية متتالية، ومن المحتم ان تبدأ هذه المفاوضات بشريحة الدول العربية التي تخضع حالياً لنظام العقوبات. أما النتائج المرغوبة فهي تسوية المشكلات العالقة بين هذه الدول العربية من ناحية والاممالمتحدة عبر اميركا من ناحية ثانية، وتوفير مناخ جديد للعلاقات الدولية للوطن العربي، ومن المحتم في المقابل، ان يقدم العرب تصوراً لحل هذه المشكلات بصورة يمكن قبولها من جانب الولاياتالمتحدة بافتراض اتخاذها لموقف اعتدالي من هذه المشكلات العالقة. وحيث ان كل حال على حدة تستحق معالجة مستقلة نظراً لتباينها مع الحالات الاخرى فإن العرب يجب ان ينتجوا تصورات ملموسة عن حل هذه المشكلات، ومع ذلك، فإن مجرد فكرة التفاوض الجماعي يمكن ان تؤثر بعمق على الاطراف المقابلة وان تدفعها للاعتدال في ما يتعلق بمطالبها. ونضيف الى ذلك امرين: الاول هو ان العرب انفسهم يمكن ان يكونوا الضامن المناسب والمقبول للحلول التي ينتهي اليها التفاوض، وعلى سبيل المثال، فإن لجنة عربية يمكن ان تحل محل لجنة اليونسكوم في ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل في العراق، اما الثاني فهو ان يكون الحل الذي تنتهي اليه المفاوضات نوعاً من تسوية الحساب مع ماضي العلاقات العربية مع النظام الدولي وتمهيداً لبداية جديدة وطازجة لا تنتهي فيها التناقضات ولكنها تكون متحررة من العنف المتبادل. * كاتب مصري.