في غمرة اللعلعة الهائجة عن ساعة القصاص للعراق المتمرد على الإرادة الدولية والأميركية خصوصاً التي طغت على أخبار العالم العربي في أوساط الإعلام الأميركية مؤخراً، كانت زوبعة صغيرة عن موضوع مواز تتجمع في الزوايا الخلفية لوسائل الإعلام والأنترنت، قبل أن تبرز للسطح على صفحات الجرائد والمجلات لبضعة أيام وتختفي حتى قبل اختفاء مسببها. تلك كانت موجة الاستياء الشديد والاحتجاج بكافة صوره التي عمّت الأوساط العربية - الأميركية تجاه عرض الفيلم الجديد، "الحصار" The Siege للمخرج الأميركي إدوارد زوايك Edward Zwick، الذي يقدم صورة ممعنة في السلبية عن العرب والمسلمين في أميركا كما أكد كل من شاهد الفيلم في عروض خاصة سابقة لنشره أو بعد عرضه على الشاشات التجارية ابتداء من أول شهر تشرين الثاني نوفمبر. حبكة الفيلم مرعبة فعلاً: إثر اختطاف السي.أي.إي C.I.A لزعيم جماعة إسلامية في بلد عربي، يقوم مؤيدوه وأتباعه في الولاياتالمتحدة بسلسلة من العمليات التخريبية البشعة في مدينة نيويورك، منها تفجير باص ودار سينما مزدحمة في ليلة عرض أولى، واحتجاز أطفال المدارس رهائن وقتلهم. ويتصاعد عدد الضحايا ليبلغ المئات مما يسبب موجة ذعر هوجاء ويشل الحركة في المدينة. ويتدخل مكتب التحقيقات الفيديرالي الإيف.بي.أي بشخص محقق همام يؤدي دوره الممثل الأسود المشهور دينزيل واشنطن الذي ينجح في القضاء على بعض الخلايا التخريبية التي تتخذ لنفسها مخابىء في حي بروكلين في نيويورك الشهير بسكانه المهاجرين الجدد من مختلف الجنسيات، بما فيها العرب واليهود والباكستانيين وغيرهم. ولكنه لا يتمكن بوسائله المحدودة من "قتل" كل "المخربين" مما يستدعي تدخل الجيش بقيادة جنرال أهوج ومتشدد يؤديه بطل أفلام المغامرات المعروف بروس ويليس الذي يحاصر حي بروكلين الذي يتعدى عدد سكانه الثلاثة ملايين نسمة ويحتله بعد عمليات تفجير وتدمير مهولة، ويقول بعزل كل الرجال العرب واعتقالهم على الطريقة الإسرائيلية في الواقع في ملعب رياضي مكشوف من دون الالتفات الى من المذنب ومن البريء منهم. اشتهر زوايك في الماضي بفيلمين ليبراليي الاتجاه وإن كانا يدغدغان الحس الوطني الأميركي بطريقة زائدة العاطفية: "مجد" Glory عن أول فرقة سوداء في الجيش الأميركي في الحرب الأهلية، و"شجاعة تحت النار" Courage Under Fire عن بطولات امرأة جندية في حرب الخليج. وهو، اعتماداً على رصيده الوطني الليبرالي هذا، يدعي أن فيلمه الجديد ليس ضد العرب أو المسلمين. بل ويذهب أبعد من ذلك ليؤكد أنه بفيلمه يدين الاضطهاد الذي يمكن أن تتعرض له مجموعة دينية أو عرقية في الولاياتالمتحدة إذا ما سمحت الحكومة ممثلة بالجيش هنا لنفسها بتعليق الدستور الذي يحفظ الحريات العامة، وقامت بتطبيق قوانين الطوارىء التي تطلق يد المتشددين والمهووسين زائدي الوطنية في فرض قوانينهم الخاصة على كل المشتبه بهم من دون اتباع اجراءات التوقيف والإحضار ، دعامة سلطة القانون فوق سلطة الحكومة في التعامل مع المتهم بجريمة ما قبل إثبات التهمة. ولكي يثبت زوايك دعواه، يبث في أرجاء فيلمه بعض اللقطات والملاحظات التي تقارن بين وضع العرب - الأميركيين المحتجزين تعسفياً في نيويورك ووضع اليابانيين - الأميركيين الذين وضعوا قهراً في معسكرات اعتقال جماعية عندما دخلت الولاياتالمتحدة الحرب ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، أو وضع اليساريين التشيليين الذين احتجزوا في ملعب أيضاً خلال حكم الديكتاتور بينوشية قبل تصفيتهم، بما فيها منظر مرعب ومقزز لقتل مواطن عربي - أميركي عار تماماً والتمثيل بجثته على أيدي بعض الجنود. بل، وكذر ساذج للرماد في العيون، يضم لقائمة أبطاله محقق مسلم - أميركي، اسمه في الفيلم مارك حداد، يعاني من انفصام ولائه حيث أن ابنه صار من ضمن المعتقلين، ويتفوه ببعض الاحتجاجات الواهية عن المعاملة الشرسة التي يلقاها مواطنوه في بلد هجرتهم، يؤدي دوره الممثل اللبناني - الأميركي الموهوب طوني شلهوب الذي شاهدناه بدور رائع السنة الماضية في فيلم "الليلة الكبيرة"The Big Night. ولست هنا بمعرض الدفاع عن زوايك، فانحيازه ضد العرب والمسلمين وعنصريته البشعة والخبيثة واضحين من اختياره لموضوع الفيلم أصلاً، ومن توسيعه رقعة المتهمين لتشمل كل الجالية العربية والمسلمة في البلاد، ومن اعتماده على عوامل التشويق والمبالغة في تصوير العنف والقتل الأهوج والسفك الدموي على يد "المخربين"، ومن دسه للقطات ذكية تركز على الخلفية الدينية للمخربين وتخلط الآذان مثلاً بالتفجير أو تقدم الدين الإسلامي كمحرض على الإرهاب والتخريب ضد "الكفار" وما الى ذلك من المواضيع التي تحولت كليشيهات في وسائل الإعلام الأميركية المرئية. ولن أكرر هنا ما نبه اليه كل مراقب واعٍ للدور الخطير الذي يمكن أن يلعبه فيلم كهذا في استثارة المشاعر الشعبية في أميركا ضد المواطنين ذوي الأصل العربي أو المسلم وهي على حافة الاستثارة أساساً مما قد يؤدي لإجراءات انتقامية بشعة من قبل الغوغاء ضد الأبرياء لمجرد أن شكلهم عربي أو أن لكنتهم غريبة كما حصل إثر تفجير المبنى الاتحادي في أوكلاهوما قبل ثلاث سنين، بل ولن أحاول تحليل خلفية زوايك نفسه ومموليه أو منتجيه في شركات هوليوود الكبرى منتجة الفيلم هي شركة فوكس للقرن العشرين، فهذا موضوع مفروغ منه ولا تجدينا استعادته واجتراره نفعاً كل مرة تقدم لنا السينما الأميركية صورة العربي البشع، وهي كثيراً ما تفعل. ومع أن جذور الصورة المشوهة هذه تاريخية، وهي تعود للصراع القديم بين الشرق والغرب، فهذا وحده لا يكفي لتبرير استمرارها بل وتأجج أوارها في الزمن الكئيب الحالي الذي شهد العديد من الأفلام الكبيرة المعادية للعرب لعل أشهرها "الكذبات الصادقة" True Lies و"القرار الرئاسي" Executive Decision. وعلى رغم ان هدف هوليوود الأول والأخير هو تسويق الصور والربح من ورائها وبالتالي أضعف الإيمان أن لا ندفع لمشاهدة الفيلم كما فعل أحدهم في الدفع لدخول صالة متعددة الشاشات ثم حضر "الحصار" بدل الفيلم الذي دفع لأجله، فهي ليست محايدة في تقديمها لهذه الصور. فهناك أناس ذوي مشاعر محددة وأهواء معينة خلف أفلام هوليوود. ببساطة، هوليوود لا تحب العرب لأسباب سياسية وعرقية ودينية آنية. وهي لن تحبهم في المستقبل القريب طالما أن اسرائيل لا تحبهم. وعلى هذا الأساس فهي لن تكف عن تصويرهم بصورة عدوانية، هدامة، منحازة في كل مناسبة، وعن التهويل والمبالغة في تقديمهم كمخربين وكمهددين للحضارة الغربية إما عن طريق عنفهم السادي والفج أو عن طريق سيطرتهم المالية والنفطية الخرقاء والجاهلة. هذه، من وجهة نظري على الأقل، بديهية يجب أن نتعامل معها كما هي وأن نكف عن التساؤل باندهاش يميل الى الغباء أحياناً عن السبب كل مرة تطالعنا الشاشة الصغيرة أو الفضية بصورة مشوهة للعرب أو معادية لهم. أنا لا أدعو للكف عن الاحتجاج عن تشويه صورتنا بكل الوسائل المتاحة لنا وكلما أمكننا، ونحن نفعل وننجح أحياناً. وإنما أدعو للعودة الى جذور المشكلة أيضاً: يجب علينا كعرب - أميركيين أولاً، وكعرب عموماً أن نغير تكتيكنا في مقاربة موضوع إساءة تمثيلنا في وسائل الإعلام الأميركية وأن نعامل القضية بالمباشرة والاهتمام والتخطيط الذي تستحقه. ويجب على أشقائنا في الوطن العربي مؤازرتنا في مسعانا هذا فالصورة المشوهة في عصر الانفتاح والعولمة تمسهم مباشرة كما تمسنا بل وربما أكثر. ففي العصر الحديث، كما ذكرنا الفيلسوف مارتن هايدجر Martin Heidegger في مقالته الشهيرة "عصر العالم - الصورة"، "The Age of the World Picture"، حلت الصورة محل الواقع ونسخته وأزالته أحياناً. ونحن كلنا الآن نفهم عالمنا المعقد والهائل من خلال صوره التي نتلقاها عبر المنشورات والتلفزيون والسينما والانترنت أخيراً، أكثر منا من خلال تعاملنا المباشر معه. ونشكل آراءنا وانطباعاتنا عن العالم ومفرداته وأناسه من خلال هذه الصور نفسها والكتب والصحف التي نقرأها والقصص التي نسمعها. وهذه الصور طبعاً مسيّرة، بل ومسيسة، في غالب الأحوال. وهي، وإن كانت تدعي الانتماء لواقع خارج ومنفصل عنها، فهي في الحقيقة تخلق واقعها ثم تمثله كما لو كان فعلاً قائماً بذاته وكما لو كان بالإمكان الإطلاع عليه بمعزل عن صورته أو من دونها. وهذا هو بيت القصيد في سياسة التمثيل، وإن كان مضمراً في أغلب الأحيان. ومن هنا تأتي دعوتي: دعونا نمثل أنفسنا في هوليوود. ليست هذه دعوة خيالية وإن كانت صعبة، وهي ليست دعوة انتقامية وإن كانت مشبعة بالإحساس بالغبن. لم لا ينظم بعض الممولين العرب - الأميركيون والعرب شركة انتاج جديدة في هوليوود - على غرار الشركة الجديدة، Dreamworks: SKG، التي أسسها قبل سنتين الثلاثي، المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ، ومدير شركة التسجيل الشير دافيد غيفن، وجيفري كاتزنبرغ المدير التنفيذي السابق لشركة والت ديزني. قد يقول قائل أن البحر مليء بأسماك القرش وأن الغطس فيه مستحيل، وهذا صحيح. ولكن المال ما زال سيد الموقف في هوليوود، والمجال مفتوح نسبياً لكل مستثمر قادر على الصمود في وجه التحديات التي لا بد وأن تثيرها الشركات الموجودة هناك وأغلبها برأس مال يهودي. والمواهب كذلك موجودة على الأرض. فهناك العديد من الممثلين البارعين والمخرجين والعاملين في السينما من أصول عربية، وقد أبرز كيسي قاسم الإذاعي الشهير اللبناني الأصل والناشط في العمل العربي - الأميركي أسماء العديد منهم في مقال أخير له. فبالإضافة للمخرج السوري الأصل، مصطفى العقاد، المعروف في العالم العربي بفيلميه "الرسالة" و"عمر المختار" هناك العديد من الأفراد الذين وصلوا لأدوار مهمة أو مناصب عالية في هوليوود على الرغم من صعوبة الوصول ولو أن بعضهم يميل الى اخفاء أصله العربي. هناك مثلاً المنتج ماريو قصار ورئيسة تلفزيون اليونايتد باراماونت لوسي صالحاني، والمخرجين التلفزيونيين أسعد قلادة وجون بواب، وكالي خوري كاتبة سيناريو الفيلم النسائي التحرري الرائع "ثلما ولويز" Thelma and Louise، والممثلين داني توماس وابنته مارلو توماس، والممثل الرابع ف. موراي أبراهام، الذي ربح جائزة الأوسكار قبل بضعة سنين عن دوره في فيلم "أماديوس" Amadeus، بالإضافة للعديد من الوجوه الجديدة. والقصص والمواضيع والأفكار كثيرة. مصطفى العقاد مثلاً يعمل على مشروع عن الحروب الصليبية سيبرز النواحي الإنسانية في شخصية صلاح الدين، ولكنه يشتكي من صعوبة الحصول على الرساميل اللازمة وهو المنتج المخضرم التي حققت أفلامه التجارية أرباحاً كثيرة. والأبطال المعاصرون الذين يمكن اقتباس حياتهم للسينما كثر أيضاً: جبران خليل جبران كانت له حياة مثيرة يمكن إظهار بعض جوانبها المضيئة والإنسانية في فيلم كبير. وكذلك العديد من البارزين المعاصرين في الحياة الأميركية العامة كياسر سيروان مثلاً، بطل الشطرنج العالمي الذي يمكن أن يقدم في سيرة حياته مثلاً أعلى. أنتجت هوليوود العديد من الأفلام على غراره في التسعينات، أو كريستا ماك أوليف أستاذة المدرسة العربية - الأميركية من نيو هامبشير التي ماتت في حادث انفجار المكوك الفضائي Challenger قبل سنوات. وهناك الأبطال التاريخيون الذين انتخبتهم الحضارة الغربية كأعضاء شرف في سلم شخصياتها المميزة والفاعلة، كصلاح الدين، البطل المسلم الكردي طبعاً، وكإبن رشد ولنتذكر هنا فيلم يوسف شاهين "المصير" فيلسوف الأندلس، وكعمر الخيام الذي سببت رباعياته آهات حب امتد صداها منذ ترجمتها عن الفارسية ونشرها في نيويورك في منتصف القرن التاسع عشر عبر الزمن. وما زال اسم عمر اسم محبب في الولاياتالمتحدة الى يومنا هذا. وهناك طبعاً إدوارد سعيد مالىء الدنيا المعاصر وشاغل ناسها، وهو الآن بصدد انتاج فيلم عن سيرته الذاتية، ولكن حياته الخصبة تستحق أكثر من مقاربة سينمائية. وطبعاً هناك أبطال الخيال الأسطوري: شهرزاد، علاء الدين من وجهة نظر بناءة، على غير ما مثلته شركة ديزني، والسندباد، وغيرهم الكثير من الأبطال الذين يمكنهم أن يحركوا أفلام الصور المتحركة كما فعلوا في هوليوود منذ نشأتها. خلاصة الحديث، تغيير صورة العربي البشع ممكن، بل وربما مربح تجارياً وفنياً إذا عرف استغلاله. ولعلنا نتذكر هنا أن صورة اليهودي في المسرح والسينما لم تكن أحسن كثيراً من صورة العربي اليوم، وأن الجالية اليهودية عملت جهداً جباراً لتغيير الصورة السلبية التي توارثتها أوروبا عن اليهودي الجشع والمراوغ والخداع والقذر وكلنا يذكر شايلوك، واستخدمت مختلف أساليب التنظيم وبعضها ربما كان مثار تساؤل، ونجحت نجاحاً شديداً. فأين هو شايلوك في المسارح الأوروبية والأميركية اليوم؟ اختفى، وشكسبير هو من هو. وقد بلغت الجالية في نجاحها شأواً كبيراً بحيث أنها أبدلت السلبي بالإيجابي، وبالتالي فقد أصبح العديد من أبطال السينما والتلفزيون المحبوبين اليوم يهود الشخصية والهوية. ولا أدل على ذلك مثالاً من شخصية ساينفلد Seinfeld التي طغت ببساطتها وذكائها وخفة مقاربتها للحياة المعقدة في نيويورك وروح الفكاهة التي تشع منها على شاشات التلفزيون الأميركية لست سنين. في تلك الفترة كانت الشخصية العربية الوحيدة الإيجابية في التلفزيون الأميركي شخصية خيال علمي: الدكتور بشير في المسلسل الشعبي ستار تريك Star Treck الذي تدور أحداثه في الفضاء وفي المستقبل البعيد. فحبذا لو أننا مولنا وخططنا ونفذنا عملية نقل الصورة الإيجابية الوحيدة من الخيال العلمي الى عالم الصورة السينمائية التي تقوم بدورها مقام الصورة الواقعية. * أستاذ مشارك لتاريخ العمارة، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T.