شيء واحد يمكن قوله عن العام الجديد من وجهة النظر الفلسطينية. وهو انه سيكون اكثر صعوبة من العام الفائت. فليس هناك ما يبشر بخير كيفما تطلع الفلسطينيون شعباً او قيادة. وربما كان افضل الحلول في مأزق كهذا هو تقليص التوقعات حتى الصفر تقريباً، وعدم الاسهام في ايذاء النفس وتحويل السيئ الى أسوأ. اما من يرى في هذا العام فرصاً يمكن اقتناصها فنخشى انه يمارس خداع الذات. والواقع ان احراز اي تقدم كان مهمة مستحيلة منذ ان صعد نتانياهو الى الحكم في 1996، وهنا يجب التذكير بأن انتصار ليكود في تلك الانتخابات كان هدية من "حماس" ومن هم اكثر هوساً، والذين باشروا عمليات تفجير في اوساط مدنية يهودية كانت نتيجتها اقناع الناخب الاسرائيلي، وهو متردد اصلاً، بأنه سيكون أفضل حالاً اذا انتخب من يقابل الشدة بالشدة ولا يتهاون في التمسك بأهمية الأمن الاسرائيلي. وظل الفلسطينيون يدفعون ثمن هذا الغباء الحماسي حتى اليوم، ولا من صوت عقلاني يحاسب على هذه السياسة الطفولية المؤذية او يصف مرتكبيها بالجبن لا البطولة. ومهما قلنا ان نتانياهو لا يحتاج الى امثال "حماس" وجماعة "الجهاد" الاسلامي كي يتبنى سياسة نشأ عليها طيلة حياته السياسية، يظل الواقع ان السلوك الفلسطيني قدم الغطاء والذريعة التي يحتاجها نتانياهو لتمرير نهجه مرة ومرات، امام الجمهور الاسرائيلي والجمهور الدولي، والولايات المتحدة. لذلك لم يكن عجباً ان يحل العام 1998 والفلسطينيون في مأزق لا يرون له مخرجاً. وعلى من تفاءل بتفاصيل اتفاقية "واي ريفر" وهم لا شك قلة ان يعود بأنظاره عاماً الى الوراء ليرى اين كان الموقف الفلسطيني والاسرائيلي. فقد تراجع الفلسطينيون في عام واحد عن الجزء الأكبر من مطالبهم، القائمة على اتفقاية اوسلو، بشأن حجم الانسحاب الاسرائيلي وطبيعته وصلاحيات السلطة الفلسطينية والعلاقات بين مناطق الحكم الفلسطيني. وبعد ان كانت الخطة الاميركية التي تنص على انسحاب اسرائيل من 13 في المئة من الأراضي الفلسطينية موضع انتقاد لأنها تقزيم لنصوص اوسلو، بل الغاء فعلياً لذلك الاتفاق الدولي، ولأنها اعتبرت غطاء لموقف نتانياهو الذي يرفض مبدئياً الالتزام بأوسلو، صارت تلك الخطة الاميركية مطلباً فلسطينياً باعتبارها البديل الافضل من الموقف الاسرائيلي الرسمي الذي ظل يماطل في الانسحاب من امتار معدودة. وفي كل مرة تبدأ الضغوط على نتانياهو كانت تأتيه هدية من مهووس فلسطيني يفجر قنبلة في سوق او شارع، فيقود الحكومة الاسرائيلية الى اعادة تأكيدها على ان الأهم من الانسحاب هو حماية الأمن الاسرائيلي وضبط الارهاب وأن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق السيد عرفات الذي ما لم يحقق تقدما في هذا المجال فلن يرى طائرته الخاصة تحط في مطار غزة الا في احلامه. وكالممثلين في مسرحية مألوفة تهب السلطة الفلسطينية لاعتقال مسؤولي حماس وضربهم وركلهم وهم في السجن. وتعلو اصوات منظمات حقوق الانسان بالشكوى، ويقف نتانياهو على الجانب مبتسماً لما اثبته من همجية الفلسطينيين حكماً ومعارضة. ثم يخرج بعض اتباع "حماس" من السجن، ويقسم الجميع على الوحدة الوطنية، ويتراجع الفلسطينيون عن شيء من مطالبهم لاستجداء نتانياهو للعودة الى التفاوض، وبعد قليل تتصاعد النقمة الفلسطينية لأن حياة المواطن تزداد سوءاً يوماً بيوم، ويأتي مهووس آخر فيلقي متفجرة جديدة، ونعود الى المسرحية ذاتها. ليس هناك ما يدل على ان العام القادم يحمل في طياته قدراً اكبر من النضج السياسي من جانب المعارضة الفلسطينية. ومن الحق هنا ان نقول ان التهور في ارتكاب اعمال العنف يمكن ان يكون نتيجة قرار من فرد او من مجموعة تعمل بمنأى عن التوجيه القيادي، سواء من "حماس" او من جماعة "الجهاد" الاسلامي، اي ان الجهاز الرئيسي لا يستطيع ان يتحمل مسؤولية كل عملية يرتكبها طرف ما باسم المعارضة الاسلامية، ولكن صحيح كذلك ان هذه المعارضة لا تزال تغذي اعمال الارهاب هذه لفظاً وفعلاً وتبررها وتروج لها وتدافع عنها وتهدد بها كلما ناسبها ذلك. وهذا بحد ذاته يخلق المناخ المواتي لهذه العمليات، كما يخلق لنتانياهو كل الذرائع التي يبحث عنها لاثبات فشل السلطة الفلسطينية في حماية امن اسرائيل. طبعاً ليس هنا مجال البحث في سخف مقولة نتانياهو هذه ولا في الموقف التفاوضي الفلسطيني على مدى السنوات الفائتة والذي سمح لاسرائيل بترسيخ مقولة الأمن والقائها على عاتق الفلسطينيين، وهي الاخرى مهمة مستحيلة. امام ذلك كله ربما امكن القول ان التسريع بالانتخابات الاسرائيلية جاء منقذاً لعرفات، لأنه بات في آخر الامر محصوراً في زاوية مؤلمة. فاذا رفض استجابة مطالب نتانياهو التي تزداد صلفاً ووقاحة كل يوم، صار هو والفلسطينيون الطرف الملوم في جمود عملية سلام ماتت من زمن وليس من يجرؤ على اعلان ذلك. وإذا هو رضخ، او تظاهر بالرضوخ، لأي من شروط نتانياهو، التي تنقلب من يوم لآخر بتقلب مزاج رئيس الوزراء الاسرائيلي وحساباته السياسية، صار رضوخه دليلاً على ان سياسة نتانياهو نجحت في تحقيق مكاسب لاسرائيل وانصياعاً من الفلسطينيين، وكان ذلك تعزيزاً لموقع ليكود وادعاء نتانياهو انه وحده يعرف كيف يتعامل مع الفلسطينيين، وانه قادر على تحقيق السلام مع الأمن والاحتفاظ بالأرض المحتلة في آن. المخرج الوحيد من هذه الورطة كان يمكن ان يكون موقفاً عربياً او دولياً أو اميركياً شجاعاً، لكن المعسكر العربي لا يزال يدفع ثمن هزيمة العراق، فلا هو ذو كلمة سياسية موحدة ولا ذو عزم عسكري يؤخذ به. والموقف الدولي مائع، والولايات المتحدة غير مكترثة بأكثر من التظاهر بالعزم على تحقيق السلام، وهي في حقيقة الامر وضعت النزاع العربي - الاسرائيلي على الرف من زمن. أثبتت عملياً عبر سياستها في قضايا الخليج انتهاء مقولة ان ذلك النزاع هو المعضلة المفصلية في قضايا المنطقة واستقرارها. وواشنطن فوق كل ذلك منشغلة بفضائحها وتحقيقاتها، لا تلتفت لمشاكل العرب الا اذا شاءت استغلالها في ساعة ضيق لتحسين صورة الرئيس الاميركي، ان في "واي ريفر" او في شوارع غزة المزينة بصور كلينتون، او في الغارات على بغداد. هذه كانت محصلة العام الفائت، ومع ذلك نقول ان العام الآتي غالباً سيكون أسوأ، لأن التحديات امام الفلسطينيين كثيرة وليس هناك من مؤشر على قدرة الاجهزة السياسية الفلسطينية، حكماً او معارضة، على استيعاب هذه التحديات ومواجهتها. اهم هذه التحديات اليوم هو الانتخابات الاسرائيلية، وليس من حل سحري او وصفة ناجعة للتعامل معها، في ظل التقلب السريع للتحالفات الاسرائيلية ومواقف المتنافسين، ولكن يصح القول ان من الواجب على الفلسطينيين منع عودة نتانياهو الى الحكم مهما كان الثمن. وهذا يحتاج الى نضج كبير في التعامل مع الاسرائيليين. فعلى المعارضة، مهما كانت تظلماتها ومهما كانت مواقفها من عملية السلام، ان تسد فمها وتكف يدها عن كل ما من شأنه حصر النقاش الاسرائيلي الداخلي في قضايا الأمن والارهاب. وان تأخذ موقفاً مسؤولاً وشجاعاً ونزيهاً من اي فرد او جماعة تتحرك بمفردها لتجاوز هذا الخط. وإذا تخاذلت المعارضة في ذلك ونظن انها ستتخاذل فعلى اصحاب الرأي الفلسطيني، من مثقفين وناشطين سياسيين ومن بقي لهم بعض من هيبة او استقلال في الرأي خارجاً عن صفوف السلطة، ان يرفعوا الصوت ويطالبوا بمحاسبة من يروج لأعمال الارهاب في هذه الظروف. ذلك ان المؤسف في الحوار الفلسطيني ان لم تبق سوى حفنة ضئيلة من الاصوات ذات الهيبة التي يصح القول عنها انها تتحدث بنزاهة وضمير. اما السلطة الفلسطينية فقد ازداد تماشيها مع المطالب الاسرائيلية والاميركية. خصوصاً منذ توقيعها مذكرة "واي ريفر" وقبولها بالتعاون العلني مع الاستخبارات الاميركية بهدف حماية امن اسرائيل، من دون التزام مماثل من طرف اسرائيل مثلاً في شأن الجماعات اليهودية المتطرفة والمستوطنين، وما في ذلك من تراجع عن كل ادعاء بالسيادة الفلسطينية. وكلما ازداد الضغط الاسرائيلي والاميركي عليها، وكلما بدا عليها الرضوخ والامتثال لهذه الضغوط، كلما تضاءلت مصداقيتها وهي تتحدث عن الارهاب والأمن والمعارضة، لا يعرف المواطن أهي تنطق محاباة للعدو او عن قناعة وضمير. ولا يكفي ان تتذرع جهة ما، مثل "حماس" او "الجهاد"، بتفسيرها الخاص لمعاني النضال ومتطلباته وتزف الشعارات عن الشهداء والبطولات حتى يسكت الجميع عن توجيه النقد. وعلى السلطة الفلسطينية، وكذلك كل الاطراف السياسية الفلسطينية القادرة على ذلك، ان تنظم حواراً متواصلاً مع الناخب الاسرائيلي، وهي المهمة التي تخاذل فيها الفلسطينيون كثيراً منذ اوسلو وبالأكثر منذ انتخاب نتانياهو. من الضروري ان يصبح الفلسطينيون وبصراحة طرفاً في الانتخابات الاسرائيلية وفي الحوار الداخلي الاسرائيلي. وهناك اكثر من وسيلة لذلك حتى ولو ثارت حفيظة اليمين الاسرائيلي، اما بصورة مباشرة او غير مباشرة بواسطة معسكر السلام الاسرائيلي والاحزاب العربية الاسرائيلية. الضرورة الاخرى، ولا تقل اهمية عما سبق، هي تنظيم الاصوات العربية في الانتخابات الاسرائيلية القادمة. ان هذه الاصوات قادرة، نظرياً، ان تصبح الصوت الفصل في تشكيل اي حكومة اسرائيلية وتحديد مسارها، وهذا يتطلب حذقاً سياسياً كبيراً وجرأة وتضحية. الحذق في التحرك من دون استفزاز المشاعر العنصرية الاسرائيلية واتهام العرب بالعمل ضد مصلحة الدولة وأمنها، والجرأة في الاصرار على ان من حق العرب المشاركة، كقومية وليس فقط كأفراد، في رسم سياسة الدولة، والتضحية في التخلي عن السعي لمكاسب ضيقة لحزب او شخصية. فاذا افلح عرب اسرائيل، وأفلحت السلطة الفلسطينية، وأفلحت المعارضة الاسلامية وغير الاسلامية، كل في الواجب المنوط به، ربما استطاع الفلسطينيون تجاوز هذا العام من دون نكسات جديدة، وعسى ان لا تكون هذه مهمة مستحيلة. * كاتبة فلسطينية.