الكتاب: جبل عامل في قرن المؤلف: حيدر رضا الركيني دراسة وتحقيق: احمد حطيط الناشر: دار الفكر اللبناني ، بيروت، 1997 نستطيع ان نخلص، من دراسة المقدمة التي وضعها الدكتور احمد حطيط، الى الامور التالية: 1- ان المؤلف هو حيدر رضا بن علي الرُكَيْني، المولود سنة 1123ه /1711م والمتوفى سنة 1198ه /1784م. وقد دوّن اخباره حتى سنة وفاته ثم تبعه ابنه فدوّنَ ما تبقى من الاخبار. وينبئنا المحقق ان الكتاب لم يصلنا كاملاً، ويقول: "ان ما وقعنا عليه يقتصر على الحوادث ما بين العامين 1163 و1247ه". وهذه المادة نقلها المحقق عن المجلدات السابع والعشرين والثامن والعشرين والتاسع والعشرين من مجلة "العرفان" ص10. وقد اهتم احمد حطيط بالكتاب لأنه يؤرّخ لفترة حرجة من تاريخ جبل عامل التي يعتبرها "مرحلة مخاض للديار المصرية والبلاد الشامية على حد سواء" ص7. ويرى ان الركيني قام بتدوين التاريخ "بالرواية والجمع دونما ترتيب بحيث ان الاحداث تتزاحم في غير أنساق في صفحات كتابه. فثمة اشارات دالّة على الاحداث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية: من اسعار السوق الى انتشار الاوبئة والجراد فضلاً عن الاخبار التي تتصل بالمنازعات بين مشايخ جبل عامل وولاة السلطنة ومؤامرات الحكام" ص27. والواقع فاننا لا نستطيع ان نسمّي الركيني مؤرخاً يتبع منهجاً واضحاً. هو مدوّن مذكرات سنوية، وفي بعض السنوات يكون تدوينه مفصلاً فيما يقتصر الامر على فسحة قصيرة في احيان اخرى. لكن المهم هو ان معرفته، التي هي داخلية ومحلية واقعاً او رواية، هي التي تجعل من هذه "المذكرات" ثروة تاريخية. ولسنا ننوي ان نلخص هذا الذي نشره حطيط، فذلك امر يمكن الحصول عليه من قراءة الكتاب" وهذا ما رمينا اليه من هذا الحديث عن الكتاب - التعريف به وبأهميته. ولكننا نود ان نشير الى ان الركيني يدوّن: اولاً اخبار ظاهر العمر الذي اصبح "شيخ عكا وأمير الأمراء" على ما عرف به بعد ان منحه السلطان هذا اللقب سنة 1768م" ثانياً اخبار علي بك الكبير المملوكي المصري الذي تحالف مع ظاهر العمر" ثالثاً اخبار مشايخ جبل عامل الذين كانوا يتحكمون في شؤونه ويروي تفرّد الشيخ ناصيف النصار لبعض الوقت" رابعاً التقاء "ثلاث قوى في الساحة الجنوبية لبلاد الشام هي قوة المصريين والصفديين والعامليين تضافرت جهودها جميعاً لمواجهة العثمانيين وحلفائهم من الشهابيين. وشكّل هذا التحالف خطراً فعلياً في وجه السلطنة، كاد ان يزعزع اركانها المتداعية". ثم يعمد المحقق الى تفصيل هذه الامور منتزعاً هذا التفصيل من محتويات كتاب الركيني، ويضع بين ايدينا بعد ذلك اخبار احمد باشا الجزار. ويختم ذلك بقوله ان احتلال ابراهيم باشا لبلاد الشام 1247ه /1831م ادخل "جبل عامل تحت سيطرة المصريين الذين ألحقوه بالإمارة الشهابية، وفقد استقلاله مجدداً، وخضع، من ذلك الحين، للإنعكاسات التي خلّفتها سياسة الامير بشير داخل الامارة وخارجها". وفي تحقيق هذا الكتاب قام الدكتور حطيط بأمرين على غاية من الاهمية: الاول انه وثّق الاحداث من المصادر والمراجع المعروفة" والثاني انه بيّن في هوامشه الكثيرة المواقع الجغرافية للقرى والأماكن الواردة في الأصل، كما بيّن المكاييل المستعملة بما يقابلها بالأوزان بالكيلوغرامات او الغرامات مثل الاوقية الدمشقية. ورصد حركة اسعار السلع الاساسية ما بين سنتي 1166 و1232ه /1752 و1816م. والسلع الاساسية التي عني بها المحقق هي القمح والشعير والذرة والعدس والتين، وهو عمل مهم لانه يضع بين ايدينا صورة واضحة تبيّن تقلّب الاسعار بين ارتفاع وهبوط ويبيّن الاسباب الى هذا التبدّل في حركة الاسعار سواء في ذلك العوامل الطبيعية والحروب التي كانت تتعرض لها المنطقة. ثمة امور لم يُعنَ المحقق بها، منها ان هناك الف ظالم يفسّرها لقرّائه مثل الجزار والأوطار والقنتل والمنصر والقرمش. وكنا نود لو انه شرح للقارئ معنى البلص خصوصاً وأن المؤلف يتحدث عن بلصة الجزار. ومع ان حطيط اشار الى القرش وزمن اصداره فاننا نسمح لأنفسنا بأن نضيف الى انواع النقد المستعملة ونسبها ما يأتي: القرش كان يومها من الفضة وكانت قيمته اربعين بارة" ويرد ذكر المصرية وهي تساوي البارة" والزلطة تساوي ثلاثة ارباع القرش" اما العلبة كمكيال فهي نصف كيل. وهناك نقطة لم ينتبه المحقق اليها هي التاريخ الميلادي الذي استعمله المؤلف. فقد عمد هذا الى التاريخ الشرقي، المعتمد في الكنائس الارثوذكسية وهو التاريخ الذي كان معتمداً ومعروفاً ويسمّيه المؤلف الحساب الرومي. فقد ظن حطيط ان المؤلف اخطأ في كل مرة استعمل فيها هذا التاريخ الميلادي فوضع في الهامش "خطأ ويقابله ..." وهنا استعمل المحقق التاريخ او التقويم الغربي الغريغوري مصححاً للمؤلف خطأه. وكان الأَوْلى ان يكون الهامش "هذا هو التقويم الشرقي ويقابله في التقويم الغربي كذا". اننا نأمل ان يطبع الكتاب ثانية وعندها ستتاح الفرصة لدارسه ومحققه ان يصحح خطأ بتصويب استعمال المؤلف. اعتمد المحقق خمس سلع اساسية لوضع جدول الاسعار، لكن هناك سلع اخرى وردت اسعارها متفرقة، وليست بانتظام" وفي ذكر بعضها هنا دلالة خاصة. 1- يذكر المؤلف ان الزيت بيع من دون ذكر المكيال او الوزن بقرش ونصف وخمسة فضة الفضة هي البارة ايضاً، والسمن بقرش وخمسة فضة. اذا كان الوزنان متساويين فانه من الطريف ان يكون الزيت اغلى سعراً من السمن. ويرد في الصفحة 80 قول المؤلف ان الرطل من الزيت بيع بقرش ونصف والسمن بقرش وربع. الظاهرة نفسها. 2- يرد ذكر الرز اربع مرات عند المؤلف ص53، 57، 71، 76. وهذا يعني ان الرز كان معروفاً ولو قليلاً. فهل كان يزرع في البلاد ام كان يؤتى به من الخارج؟ والثاني هو المرجح في رأينا. 3- ثمة اشارة الى سعر بزر الحرير ص76، الامر الذي يحمل على الظن ان دود القز كان يربّى في جبل عامل او بعض اجزائه على الاقل. امر يحتاج الى العناية. 4- يقول المؤلف في احداث سنة 1197، وهي احداث مفصّلة ص 100 - 106 وفيها قصة! وفي ص 104 عبارة لافتة: "وفي يوم الاثنين، يوم العاشر من شوال، وفي الرومي ! يوم السابع والعشرين من آب اغسطس، صار شتاء، حتى بلّ التين والتُتُن، وأتلفه". والتتن هو التبغ. فهل كانت زراعة التبغ مألوفة في جبل عامل في تلك الأيام؟ 5- في حوادث سنة 1179 ص53 نقرأ "وحتى انهم ذكروا، في هذه السنة، ان المد الطحين من القمح كانوا يخبزونه اثني عشر عدة ويبيعونه في الاسواق كل ثلاثة ارغفة بمصرية ببارة حتى بلغت قيمة المدّ القمح قرشين، والمدّ الطحين من الشعير يخبزونه ست عدات، كل ثلاثة ارغفة بمصرية". ويقول حطيط في الهامش ان العدة: لفظة عامية تعني عشرين. بهذه المناسبة حتى اوائل القرن العشرين كان البرتقال يباع في منطقة عكا شمال فلسطين بالعدة، لكن عدته كانت خمس حبات. وكان الباعة عندما يصلون الى كلمة "سبعة" يتجنّبونها تشاؤماً ويقولون "سمحة" تفاؤلاً. 6- يقول المؤلف ص 54 "... وعيد الصليب كان في هذه السنة يوم الجمعة عشرين مضت من ربيع آخر، وهو قاعدة كلية آخر يوم من آب يكون عيد الصليب". هذه الاشارة الى سنة 1180. لست ادري من اين جاء المؤلف بهذه القاعدة الكلية، اذ ان موعد عيد الصليب هو دوماً 14 ايلول سبتمبر! 7- يورد المؤلف طرائف بين حين وآخر. ومن اجمل ما ورد قصة الخبازين سنة 1197 - ص105. فقد روى الركيني القصة كما يلي: "ومن القضايا الربّانية العجيبة، وحوادث الدهر الغريبة، ان رجلين كانا يسلقان القمح للناس بالأجرة لعمله برغلاً على ما نرجح، وكلما جاءهما احد من الناس يقول لهما "والله، ما جابني اليك إلا الامانة، والعمل المليح!". فيقولان له: "اللهم، ان كنا نطابق مع بعضنا البعض على الخيانة ان يقع نصيبنا من تعبنا، ويرمّل نسواننا، ويقصّر آجالنا في ليلة واحدة!". ويقول صاحب القمح "اللهم، آمين ان خنتما، وان لم تخونا فلا!". فما مضى شهر إلا وماتا في ليلة واحدة، احدهما في اول الليل، والآخَر في آخِر الليل، في ليلة واحدة، وهما من اهالي قرية ديركيفا أين احدهما بعلبكي ... والآخر ... أعاذنا الله من شر شياطين الإنس وجنود إبليس". وثمة قصة اخرى وردت في حوادث سنة 1198 ص 108 هي: "وروي ان لصاً من اللصوص مرّ في سوق، فرأى امرأة من نساء الأعراب جالسة وبحذائها مخلاة ملآنة، فظن ان فيها عكّة سمن، فأخذ اللص المخلاة تحت عباته، وخرج من السوق مسروراً، بينما هو يمشي اذ سمع بكاء طفل من تحت عباته، فثبت عنده ان ولد البدوية في المخلاة، فجعل يخاطب الطفل ويقول له "انا ظننت انك تكون سمناً، اذ انت بدّوقاً". ورجع الى السوق على الفور مسرعاً، فرأى امه تصيح وتنادي على ابنها، فوضع المخلاة موضعها خفية، وخالط الناس في السوق". وبعد، فالكتاب على صغره، وعلى ما يبدو عليه من تزاحم في الاحداث في غير اتساق، حريّ بالقراءة. ولست اقصد انه حريّ بقراءة المؤرخين فحسب، بل انه حريّ بالقراءة العادية لما فيه من متعة وفائدة اصلاً، ولما بذله المحقق من جهد محمود.