قتلى الصيف الموَّقد في كور الشيطان لم يكونوا، باحتكام العقل إلى القياس في قبرص، ضحايا خطط الحرارة، المتمادية انتقاماً من الفَلَك الأرضِّي مذ مزِّق الإنسان حياء غلافه بمصانعه، بل المصادفة التي تجمع عدداً غفيراً من الصرعى، والمرتثين، والمُغمى عليهم، في سياق قصير من الوقت، فيميل زَعْمُ البحث في الأعراض إلى الاستدلال بخيط من نسيج المنظور لإقامة البرهان، وتزويقه بالمثير. لم يختلف هذا الصيف، في صقع الشمس المذوبة في السَّيكران، عن غيره إلا بانقلابات الجفاف والرطوبة، كل ساعة، في صراع طاحن، حتى بات الداخل القاريُّ، المشهود له باليبوسة في غالب فصوله، مقاطعة بحرية، ينهض فيها الغمام المائي صباحاً على سيقان من الرصاص الكثيف، فما ينقشع في ارتفاع الشمس إلا عن بلل فيه خصائص الأصقاع الاستوائية. وتعاقب الرطوبة واليبوسة على مقاليد الحكم ليس فيه توريث للموت على النحو الحسابي، الصادر عن حلم الأزمات عادة، وحلم الدواهي الكامنة في فجاءات الطببيعة - إرث الصدام الفلكي ومكائد البروج. فلماذا زعم التدوين المنشور بترجيح الحرارة قائلاً، في أخبار الارصاد النطاسية والطقسية؟ ربما في الأمر نزع التهويل عن الخفيّ بإدراج الأسباب في مصائد المعلوم. والمعلوم هو الحرارة في الصيف. هكذا تم تطويع الخارج على مألوف الإدارة الناظمة لمعارف الجماعة. وتلك مسألة اخفقت فيها حين نبشت امرأتان قبور "الضحايا المجهولين" للغزو التركي قبل ربع قرن، على غرار قبر الجندي المجهول. فلنوضح المسألة قليلاً: تعمد كل دولة إلى الاستئثار السحري بنسبة من خصائص التلفيق الغامض، الذي يغدو أنيساً في العرف المصنوع عن يدي "الشعور الوطني"، الذي هو، على نحو ما، ترويض للنوازع الفردية في التوسل إلى معنى "الفرد الخاص". فالجنود الذين يسقطون في الحروب، وتغدو بطون الطير قبوراً لهم بحسب رغبات الاسلاف الشعرية في منع اسدال حجاب القبر على موت الآخر الغريم، تشيد لهم الدولة نصباً رمزاً يحيل البعثرة في الجوارح، والعظام، والأرواح، وحدة ملموسة، في حيز ملموس نظراً، تحجُّ إليه أفئدة أهل المفقودين على سُنَّة المعنى، ويزوره السلطان وضيوفه على سنة الإكبار. وقد جرى لخيال السلطان القبرصي توكيل معنى ما مراتبَ معنى آخر، فجُمعت عظام القتلى البالية التي للمدنيين، من غير الجنود، ووزعت على قبور متجاورة، بحسب عظمتين، أو ثلاث لكل قبر، وجمجمة تحفظ العهد للجسد الرميم بالحصانة من البقاء مفقوداً. لكن امرأتين عجوزين آثرتا، بعد ربع قرن، نبشَ قبرين يخص كل واحد اسماً لمفقود لهما، كي تتأكدا، على نحو غامض، من نسب العظام إلى أربابها. هكذا وجدت الدولة نفسها، فجأة، قد أخطأت تقويم مرتبة المجهول المحضر من رقبته إلى مرتبة المعلوم، فلم ينطل الدورُ على الموت. الآن ستأتي فِرَق الاختصاص في إعادة النسب إلى العظام من مدارج أوروبا، كي يَلزم كل قبر حدود موتٍ واحد، لشخص واحد، لا حدود موتين أو ثلاثة على طريقة توحيد الجماعات دفناً. فمن سيحضر لتحديد وفيّات سقطوا صرعى موت عادي؟ لا أحد قطعاً. شيوخ مسنون، ضعاف قلوب، مرتفعو ضغط الدم، سُكريون من السُّكري، مملّحون من ارتفاع الملوحة، مؤجلو موت بلا إطالة في التأجيل، دفعهم الصيف بيده إلى عصمة المقدور، جملةً، فأرتاب الخائفون من الآجال في عوائد الجملة، التي تحفظ الكوارث وحدها لنفسها بحق التدبير فيها. إذ ذاك انبرى القائمون على تفسير الحقائق، من وزارات الدولة، إلى ارشاد الحياة إلى المسالك التي ينبغي سلوكها كي تنجو: ارتياد المسابح، والشطوط، وشرب الماء البارد، والمكوث في الظل، وأكل المرطبات، والأطعمة الخفيفة، وسلطات الخضار، والحلم طويلاً بالثلوج، ففي ذلك مجلبة لبرد متوهّم يصيب الجسد منه غنيمة وصفة مجربة - يقول أهل النفسانيات. لا بأس. من معلوم الظاهر القبرصي ولع الناس بالشمس. قد يتفهم المتأملون شغف جماعات العالم البارد بالشعاعات المحتجزة وراء السماء الرصاص في أقاليمهم، فيهرعون إلى حرية الذهب المجتلب من مناجم القيظ في قبرص، لكن ما بال أهل الصقع هذا يبنون غرفاً من الزجاج بأكملها، ويجعلون لشرفاتهم الظامئة إلى الهواء جدراناً من الزجاج يتشمسون خلفها، من الخريف إلى مطلع الصيف؟ أهو الهرب إلى أمام؟ صيف منسوخ عن صيف. درجات حرارة لا يجري التصريح بها على الاطلاق، فتبقى، أبداً، ملجومة في عقال التاسعة والثلاثين درجة، والأربعين. أسرار سياحية تقتضي الحذر، الذي سفحه التهارش السياسي بأنباء صواريخ سپ300، فكادت السياحة تذوب كحلوى من الزبدة. من يموت، إذاً، في جزيرة أصلها نجم ناري، وأهلها ناريون، من درجة إضافية في قياس هموم الجحيم؟ عقل الكيد يتأول المسّورات على قياس الموت العادي بالموت العادي، من وجه، ويتأول المظهورات على قياس الموت الغامض بخَبَل الفَلَك، وانجراف الأبراج العُلوية إلى الأبراج السفلية، وتداخل البرازخ، التي كانت حصانةَ المتحينات في البقاء نقية الجواهر، من وجه ثانٍ. فإلى أية حقيقة يميل النظر في تدبير سَنَده؟ لربما إلى الوجهين معاً في عقل الكيد العقل المتأوِّل في ريبة، النازع إلى تقليب الكيفيات بلا تماهٍ مع عقل الشكِّ، كي يستوفي الإخبارُ بالوفيات شرطاً من شروط غايته. فهم ماتوا موتاً عادياً للأسباب المنحولة إلى الأعراض، وماتوا موتاً غامضاً للأسباب المنحولة إلى حدوث الموت بالجملة. لأن المصادفة، في هذا السياق، هي اجتماعُ الخواص المنفصلة، اللامنظورة. لعديد من الممكنات، يغدو تآلفها حدوثاً لا يُقرأ بمنسك العقل وحده، بل بالاحتكام إلى المتنافرات المتعارضة، والضدّية، واللاتجانس، واللامعقول، واللاطبيعي. واللامحتمل، واللاممكن أيضاً. لكنه ممكن لسقوط التكليف العقلي في اختباره حدوثاً. أبداً تغدو متابعة الأعراض الخبرية في صقع نجمة الساحل السوري، جزيرة النحاس، على قدر من الصخب والجسامة. فهي، لصغرها، وتنافيها مع طباع الجزائر ندرة الأسماك إلا ما سخف منها، قلة الماء حتى الشحِّ، قلة الأساطير، تنزع إلى التهويل: قتل شخص مجزرة، عراك عشرة حرب، نسف ملهى غزو كوني. وأفروديت المستنسخة على شواطئ المتوسط قاطبة، حتى أواسط صحراء النيجر، ذات الذراع الواحدة، التي بلا ساقين، الصغيرة الجرم، هي اجتماع الأثر البشري انخاباً في حجر رمليّ. فكيف لا تنهال على وسائط العالم في نقل الحدثات وقائع موت الجملة في بيوت مأخوذة بالزجاج المقتنص للشمس شتاءً، وصيفاً، على قياس واحد في اللذة؟ الحرارة ليست كمين المَصَارع، بل تعجيل بأسبابها.