منذ كارثة 1967 يتعايش الإنسان العربي - بالفة مُرة - مع حالات جلد الذات التي تمطره بها يومياً وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وزاد في مرارة انعكاسات ما بعد كارثة 1967، حالات النكوص والتراجع التي عمت الوطن العربي، وجعلت من هذا الإنسان يعيش واقعاً لا بصيص لنقطة ضوء تنبعث فيه. أمام هذا التقهقر النفسي، والكساح المشلّ لكل ملكات التفكير عند الإنسان العربي، لم يجد واحد مثلي من سبيل إلى تجاوز المحنة - ولو جزئياً - سوى أن يلجأ إلى صفحات الكتب ليبحث بين طياتها عن بوادر الأمل من جهة، وليلتمس القدرة على النهوض من تلك الكبوة من جهة أخرى. إنني من الذين قد عايشوا المأساة تلو الأخرى، وترعرعوا ونموا بين الحوادث الدرامية القاتمة، وشببت عن الطوق بين مفردات آثار هزيمة 1948 وضياع فلسطين، وما صحب ذلك الحدث من فترات عدم استقرار أدت إلى العديد من الانقلابات العسكرية في الوطن العربي، وما هي إلا سنوات حتى شنت إسرائيل وفرنسا وبريطانيا عدوانها الثلاثي لتستعر المنطقة بعد ذلك بحروب ما بين مصر واليمن، ومواجهات عسكرية بين الأشقاء في شمال افريقيا، ناهيك عن ما كان يتكبده الشعب الجزائري في مواجهة فرنسا، إلى أن جاءت كارثة 1967 المدمرة ثم أعقبتها حرب 1973، فاحتلال بيروت 1982 فحرب الخليج 1980 - 1990، إلى أن وصلنا إلى مرحلة الذل والانبطاح والتسويات والتراجعات وما زلنا نعيش بين أحضانها منذ سنوات. هذا كله جعل الإنسان العربي في مؤخرة الصفوف بعد أن كان مصدراً من مصادر الحضارة الإنسانية، وأمام هذا كله كان سؤالي: أين الخلل؟! وشخصتُ بخاطري نحو من اجتهدوا في الإجابة عن هذا السؤال، فوجدت ان البعض منهم يرجعه إلى أيام سقيفة بني ساعدة. والبعض الآخر يلوي ذراع التاريخ ليمركسه، وهناك من يأتي على الأحداث نفسها ليعفلقها من منظور بسماركي عرقي، وآخر يعزو الخلل إلى أن الناس لم تطلق الذقون ولم ترتد جبة الدراويش!! ووجدت بين طيات الكتب سيلاً جارفاً من التحليلات والتنظيرات بدأت منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى أن نصل إلى محمد أركون وصادق جلال العظم. لكن هذه التحليلات والتنظيرات على كثرتها، ما استطاعت أن تسهم في الإجابة عن السؤال: "أين الخلل؟!"، بل العكس، لأن البعض منها - أي التحليلات - وسع الهوة بين الخلل وبين تشخيص أسبابه، وبالتالي العمل على اصلاحه!! لكن هناك حقيقة يكاد الجميع أن يتفق عليها، وهي ان الخلل في هذه الأمة ناتج عن انعدام الحرية!! .. فإذا كان الأمر كذلك فعلاً، يُطرح سؤال آخر: لماذا يحرم الإنسان العربي من الحرية؟! خصوصاً ان انعدام الحرية نتائجه وخيمة على العرب حكاماً أو محكومين. فالمحكومون - وأنا أحدهم - قد شرحت آنفاً جزءاً يسيراً من معاناتي كمواطن عربي، والحكام يعيش الكثير منهم في حالات احترازية غير مستقرة بسبب تجارب الاضطرابات والانقلابات التي عايشوها أو ساهم البعض منهم فيها. وها هي الدراسات الاقتصادية تؤكد ان العرب سيدخلون القرن المقبل كدول فقيرة غير قادرة على تلبية كثير من احتياجاتها حتى الغذائية!! ولست أريد في هذه الشقشقة أن اتفلسف في تعريف مفاهيم الحرية التي لو مارسناها لاخرجتنا من شرنقة هذا الواقع المزري حكاماً ومحكومين، لكنني سأثبت: ان الحرية التي ننشدها لا تحتاج منا سوى أن نطبقها عملياً، إذ أنها - أي الحرية - متوفرة وبكثافة في دساتير البلاد العربية... فإذا كنا نبحث للإجابة عن سؤال: "أين الخلل؟"، فلنقف على بعض سطور من مواد الدساتير العربية التي نجد للحرية فيها مكاناً بارزاً، ولولا السعي الدؤوب من أجل هذه الحرية، لما نصت عليها أساساً تلك الدساتير. - فهذه الفقرة 1 من المادة 15 من دستور الأردن تنص على التالي: "تكفل الدورة - حرية - الرأي، ولكل أردني أن يعرب - بحرية - عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير". أما الفقرة 2 من المادة نفسها 15، فإنها تنص على: "الصحافة والطباعة - حرتان -". والفقرة 3 من المادة نفسها 15 تقول: "لا يجوز تعطيل الصحف ولا إلغاء امتيازها". أما الفقرة و من المادة 23 فإنها تؤكد على: "التنظيم النقابي - حر -". - وهذه هي المادة 26 من دستور الإمارات العربية المتحدة: "- الحرية - الشخصية مكفولة لجميع المواطنين، ولا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حجزه أو حبسه إلا وفق أحكام القانون". وتكررت كلمة "الحرية" في دستور الإمارات في أكثر من مادة، فالمادة 29 أكدت على: "- حرية - التنقل والإقامة مكفولة للمواطنين". والمادة 30 تقول: "- حرية - الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير". والمادة 31 تنص على: "- حرية - المراسلات البريدية والبرقية وغيرها من وسائل الاتصال، وسريتها مكفولتان". أما المادة 32 فأكدت على: "- حرية - القيام بشعائر الدين". والمادة 33 تسمح ب "- حرية - الاجتماع وتكوين الجمعيات". - أما المادة 4 من دستور البحرين، فتنص على: "ان العدل أساس الحكم والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، - والحرية - والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة". والمادة 22 من الدستور نفسه تقول: "- حرية - الضمير مطلقة وتكفل الدولة حرمة دور العبادة و - حرية - القيام بشعائر الأديان والمواكب والاجتماعات الدينية طبقاً للعادات المرعية في البلد". أما المادة 23 فإنها تؤكد على: "حرية الرأي - والبحث العلمي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة". - ويشير الدستور التونسي في الفصل 4 منه إلى شعار الجمهورية، وهو: "- حرية - نظام - عدالة -". والفصل 5 من الدستور نفسه يقول: "كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات وحرية الفرد وحرية المعتقد، وحماية حرية القيام بالشعائر الدينية". - وتشير المادة 9 من الدستور الجزائري إلى: "انه يجب أن تتوفر في ممثلي الشعب مقاييس الكفاءة والنزاهة والالتزام، يتنافى تمثيل الشعب مع الثراء أو امتلاك مصالح مالية". وتؤكد الفقرة و من المادة 19 على التالي: "مكافحة الآفات الاجتماعية، ومساوئ البيروقراطية". والمادة 39 تقول: "يُلغى كل تمييز قائم على أحكام مسبقة تتعلق بالجنس أو العرق أو الحرفة". والمادة 41: "تكفل المساواة لكل المواطنين، وذلك بإزالة العقبات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، التي تحد في الواقع من المساواة بين المواطنين، وتعوق ازدهار الإنسان". والمادة 45 من الدستور الجزائري تعلن صراحة: "لا تجريم إلا بقانون صادر قبل ارتكاب العمل الإجرامي". والمادة 48 تنص على أن: "تضمن الدولة حصانة الفرد". - "يقوم المجتمع السوداني على مبدأ الوحدة الوطنية وتضامن القوى الشعبية وعلى مبادئ الحرية والمساواة والعدل"... هذا ما نصت عليه المادة 14 من الدستور السوداني. والفقرة د من المادة 16 من الدستور نفسه تقول: "تعامل الدولة معتنقي الديانات وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دونما تمييز بينهم في ما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم كمواطنين". وكذلك تؤكد المادة 216 من الدستور السوداني على التالي: "تجرى انتخابات رئاسة الجمهورية ومجلس الشعب عن طريق لجان محايدة". - والفقرة 2 من المادة 2 من دستور الجمهورية العربية السورية تؤكد على أن: "السيادة للشعب يمارسها على الوجه المبين في الدستور". وفي المادة 27 من الدستور السوري: "يمارس المواطنون حقوقهم ويتمتعون بحرياتهم" وأما الفقرة 3 من المادة 28 من الدستور نفسه فتنص على التالي: "لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك". والمادة 38: "لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلانية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى". - ولننظر إلى الدستور العراقي، خصوصاً في المادة 2 منه حيث تنص: "الشعب مصدر السلطة وشرعيتها". والمادة 13 من الدستور العراقي تؤكد على أن: "الثروات الطبيعية ووسائل الانتاج الأساسية ملك للشعب". والفقرة أ من المادة 20 من الدستور نفسه تنص على أن: "المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية". وكذلك الفقرة أ من المادة 22 في الدستور العراقي تؤكد على أن: "كرامة الإنسان مصونة، وتحرم ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي والنفسي". - المادة 15 من الدستور القطري نصت على: "مراعاة النظام العام، واحترام الآداب العامة واجب على جميع سكان الدولة". أما المادة 65 من الدستور القطري نفسه، فإنها تؤكد على: "عدل القضاء دعامة أساسية للحكم في الدولة، والقضاة مستقلون في أداء اختصاصاتهم، ولا يجوز لأي جهة التدخل في سير العدالة". - والمادة 28 من دستور الكويت تقول: "لا يجوز إبعاد كويتي عن الكويت أو منعه من العودة إليها". والمادة 29 من الدستور نفسه تقول: "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين". - والمادة 2 من الدستور اللبناني نصت على أنه: "لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه". والمادة 12 من الدستور اللبناني: "لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة، لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون". - وفي الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، يؤكد البيان 3 لمؤتمر الشعب العام على: "السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي، فالسلطة للشعب، ولا سلطة لسواه". - وفي وثيقة اعلان الدستور التي أصدرها الرئيس المصري الراحل أنور السادات تؤكد الفقرة 4 على: "ان كرامة الفرد انعكاس طبيعي لكرامة الوطن، ذلك أن الفرد هو حجر الأساس في بناء الوطن، وبقيمة الفرد وبعمله وبكرامته تكون مكانة الوطن وقوته وهيبته". وفي المادة 41 من الدستور المصري جاء التالي: "الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تمس". والمادة 139 من الدستور المصري نفسه تقول: "لرئيس الجمهورية أن يعين نائباً له أو أكثر ويحدد اختصاصاتهم ويعفيهم من مناصبهم". والمادة 184 تشير إلى: "ان الشرطة تؤدي واجبها في خدمة الشعب وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن وتسهر على حفظ النظام والأمن العام والآداب". - والفصل 9 من المبادئ الأساسية في دستور المملكة المغربية يؤكد على التالي: "يضمن الدستور لجميع المواطنين حرية التجول، وحرية الاستقرار، وحرية الرأي، وحرية التعبير بجميع أشكاله، وحرية الاجتماع، وحرية تأسيس الجمعيات، وحرية الانخراط في أي منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم، ولا يمكن ان يوضع حد لممارسة هذه الحريات". - كما بدأ دستور اليمن بهذه الآيات من القرآن الكريم: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون" الجاثية 18. "هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" الجاثية 20. "وشاورهم في الأمر" آل عمران 15. "وأمرهم شورى بينهم" الشورى 78. "قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون" النمل 32. "وتشير المادة 22 من الدستور اليمني إلى أن: "العقوبة شخصية فلا تزر وازرة وزر أخرى". ولما انتهيت من الابحار والغوص في مواد الدساتير العربية وكلها تدعو وتنادي بالحرية - كما مر عليكم آنفاً - فتحت كتاب الاعلان العالمي لوثيقة حقوق الإنسان، وباعتباري إنساناً، فإن هذا الاعلان يشملني، إذ يؤكد في مادته الأولى على أن: "جميع بني البشر يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وهم يتمتعون بالشعور والعقل، وعليهم ان يتصرفوا، بعضهم حيال البعض الآخر، بروح الاخوة". وتؤكد المادة 2 من الاعلان على أن: "كل إنسان يستطيع أن يطالب بجميع الحقوق، والحريات دون أي تفريق". كما تشير المادة 6 إلى التالي: "لكل شخص الحق في الاعتراف بشخصيته القانونية في كل مكان". والمادة 18 من وثيقة حقوق الإنسان تؤكد على أن: "لكل إنسان حق في حرية الفكر والضمير والدين". إذن!! ما دامت العقول الجبارة عكفت على صياغة القوانين عبر الدساتير، وكلها يؤكد على حرية الإنسان، فلماذا يكتنف حياتنا الاحساس بانعدام هذه الحرية ونحن في أوطاننا؟!! * إعلامي عربي مقيم في لندن