قبل مرور شهر واحد على احتلال اسرائيل لبقية أراضي فلسطين العربية بعد حرب عام 67 اتخذت حكومة ليفي اشكول قرارين يكمل كل منهما الآخر، ويكرسان في الوقت نفسه بقاءها مادياً ومعنوياً في المنطقة لأطول فترة زمنية ممكنة. اختص القرار الأول بالأرض، اذ اعلنت اسرائيل عن اقامة سلسلة مترابطة من المستوطنات فوق اراضي الضفة الغربية تشكل بالاضافة الى نهر الاردن حاجزاً وحدوداً طبيعية بينها وبين المملكة الأردنية. اما الثاني فخطط من ناحية لربط عجلة الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي تمهيداً لخلق اواصر تبعية لا فكاك منها، ومن ناحية اخرى لربط المقومات المالية والنقدية للشعب العربي في الأراضي المحتلة بالادارة الاسرائيلية للتحكم فيها بما يخدم مصلحة الشعب الاسرائيلي. ولا شك ان مخططات بناء المستوطنات هي في صلب الفكر السياسي الاسرائيلي سواء طبقته حكومة عمالية او ليكودية، تقوم على تجريد الشعب العربي من أرضه ليس فقط لهدم نظرية الارث التاريخي الممتد آلاف السنين وإحلال نظرية الحق اليهودي المزيف محلها، ولكن ايضاً على سلب مقومات المجتمع الاقتصادية والانتاجية خصوصاً في ميدان الزراعة والصناعات القائمة عليها. وقد نفذت اسرائيل بعد عام 48 هذه السياسة بنجاح حين اتبعت سياسة مصادرة الأراضي ومنابع المياه والاستيلاء على املاك الغائبين، ووضع اليد على الاملاك الفلسطينية العامة، وهدم القرى والاحياء السكنية وتبوير الأراضي الزراعية، وتجفيف الآبار ونزع الاشجار المعمرة، كل ذلك بهدف تدمير فكرة ارتباط الفلسطيني بأرضه وقتل ما كان يملك من ادوات انتاج مهما كانت بدائية. وكنتيجة مباشرة لقيام اسرائيل بمصادرة اكثر من نصف الأراضي الزراعية في الضفة الغربية وقطاع غزة لأغراض عسكرية مرة وأهداف استيطانية مرات: 1- تراجع حجم الانتاج الزراعي الفلسطيني الى درجة كبيرة، وانخفض مؤشر مساهمته في مجال تلبية الاحتياجات اليومية للفرد في الأرض المحتلة الى ادنى مستوى. 2- تحول معظم المزارعين والفلاحين الفلسطينيين الى أيدٍ عاملة رخيصة في خدمة مؤسسات ومراكز الانتاج الاسرائيلية داخل الأراضي المحتلة وخارجها. 3- تدهور الانتاج الصناعي الفلسطيني لعدم توافر المواد الأولية المحلية والمستوردة من ناحية، ولتحول اليد العاملة الى ميدان العمل الاسرائيلي من ناحية ثانية، وتوقف نمو رأس المال اللازم لمواصلة العملية الانتاجية من ناحية ثالثة، وانخفاض القوة الشرائية من ناحية رابعة. والى جانب عمليات إلحاق المرافق العامة الفلسطينية من مياه وكهرباء وأراضٍ ونقل جماهيري وخدمات عامة بالهيئات الاسرائيلية المختصة بعد ان نزعت عنها صفة "ارض العدو"، اتخذت حكومة اشكول مجموعة من الاجراءات الادارية لتحقيق استراتيجية الحد من البدائل الاقتصادية والميدانية المتاحة امام الانسان الفلسطيني وأدواته الانتاجية تمثلت بالتالي: أ - الغاء الرسوم الجمركية على السلع التي تنتقل من اسرائيل الى اراضي الضفة وغزة او من تلك الأراضي الى داخل اسرائيل لخلق ما يعرف بالاعتماد الحياتي على المورد الوحيد. ب - فرض رقابة صارمة على الصادرات العربية الى خارج الأراضي العربية المحتلة على رغم قلتها ومحدوديتها حتى ينتهي الامر بوقف حركتها تماماً. ج - تصعيب اجراءات الاستيراد من خارج اسرائيل الى الضفة وغزة لاضعاف مساراتها بكل السبل وربطها فقط بمراكز الانتاج الاسرائيلية التي تقوم بالتصدير اليها من دون رسوم جمركية. د - اغلاق فروع ومكاتب المصارف العربية العاملة في الضفة وغزة لنقل التعامل المالي والنقدي الى ميدان الشاقل الاسرائيلي في اسرع وقت. ه - وضع تشريعات عمالية لتنظيم تشغيل وتوظيف اليد العاملة الفلسطينية داخل الأراضي العربية المحتلة او في اسرائيل بحيث تستفيد الخزانة الاسرائيلية استفادة كاملة مما تحصله منهم من ضرائب وخصومات من دون ان توفر لهم مقابل ذلك اي حقوق او ضمانات وتأمينات. و - سن قوانين جباية الرسوم البلدية وتكاليف الخدمات العامة وكذلك ضريبة الرأس لدعم كلفة احتلالها للأراضي العربية ولتحميل كاهل ابنائها بما لا يطيقون لدفعهم إما الى الانخراط في ما تخطط له من دعم ومساندة لبقائها أو الهجرة بعيداً عن الاوطان. وأنهكت هذه السياسة الانتاج الصناعي والزراعي في الضفة والقطاع كما اضعفت العمل التجاري وفتحت اسواقهما على اتساعها امام البضائع الاسرائيلية حتى تحولت الأراضي العربية المحتلة في فلسطين الى محمية لا يدخلها سوى هذه البضائع مما جعلها تحتل المرتبة الثانية بعد الولاياتالمتحدة الاميركية اذ اصبحت تستوعب 25 في المئة من كل انواع الصادرات الاسرائيلية كافة. كما حولتها الى مركز ضخ لا ينضب لليد العاملة الفلسطينية التي استغلت حاجتها الماسة الى مصدر للرزق وحددت لها مستويات الاجور الادنى، وحصلت منها على الضرائب الاعلى مما عاد بالفائدة القصوى على مراكز الانتاج الاسرائيلية وأيضاً على خزانة الدولة. وكانت السلطة الوطنية الفلسطينية واعية وعلى علم كامل بكل هذه الظروف لذلك حرصت عندما بدأت جولات التفاوض حول بروتوكول باريس للعلاقات الاقتصادية بين مناطق الحكم الذاتي واسرائيل على ان تخلق بنوده ومواده مناخاً يتيح للمجتمع الفلسطيني فرص التحرر التدريجي من التبعية المطلقة التي تكرست للاقتصاد الاسرائيلي طوال ربع قرن، وان تنتقل اليها خلال فترة الحكم الذاتي الانتقالية السيادة الخالصة التي تمكنها من اعادة بناء الأسس الصحيحة لبنية اقتصادية سليمة. وعلى الرغم من ذلك ادى تشابك بعض مواد البروتوكول خاصة تلك التي تنص على اشتراك الجانبين في عدد من المسؤوليات، الى انتقاص سلطة الحكم الذاتي في مقابل رجحان كفة السلطة الاسرائيلية التي ساعد على تعاظمها ايضاً اساليب القمع والحصار والاغلاق الكامل والجزئي لحدود الضفة والقطاع التي دأبت سلطات الاحتلال على فرضها بين الحين والآخر. ففي حين حرصت اسرائيل على ان لا يلحق اعادة تشكيل ميادين ومجالات الاقتصاد الفلسطيني اي ضرر باقتصادها على كافة المستويات، لم تلتزم بما فرضه عليها البروتوكول من خطوات لانهاء سيطرتها وسيادتها التي تمارسها منذ عام 67 على دوائر هذا الاقتصاد كما لم تساهم بالقسط المطلوب منها لتخطيط او رسم سياساته المستقبلية. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: 1- التعنت من خلال اللجنة المشتركة في تقدير انواع وكميات ما تحتاجه السوق الفلسطينية من السلع المستوردة بحجة الخوف من تسربها الى السوق الاسرائيلية في ضوء ما تفرضه السلطة الوطنية من رسوم تقل عما تفرضه السلطة الاسرائيلية على السلع المماثلة. 2- تأجيل البت في الموافقة على السماح باستيراد السلع الضرورية لخطة التنمية الفلسطينية او الموافقة على ترتيبات الادخال الموقت للمركبات والمعدات الثقيلة المملوكة اصلاً للشركات والمؤسسات التي تعاقدت للقيام بتنفيذ خطط التنمية. 3- اغلاق نقاط الدخول والخروج بين الجانبين امام استيراد السلع الى داخل الضفة وغزة او تصدير السلع منها الى الخارج فور وقوع اي توتر بين السلطتين، والتلكؤ في اعادة الفتح حتى بعد زوال اسباب هذا التوتر بفترة طويلة. 4- تجميد حق السلطة في استرداد الرسوم الجمركية والضرائبية التي استوفتها السلطات الاسرائيلية من المؤسسات الفلسطينية التي تقوم بالاستيراد عن طريق الموانئ والمعابر الحدودية الاسرائيلية، وكذلك الرسوم الجمركية التي تم استيفاؤها من الشركات الاسرائيلية التي تبيع منتجاتها داخل اراضي الحكم الذاتي. 5- التأجيل الغير المبرر لسداد ما قيمته 75 في المئة من ضرائب الدخل التي تقتطعها الحكومة الاسرائيلية من سكان مناطق الحكم الذاتي العاملين داخل حدودها و100 في المئة من قيمة الضرائب التي يتم تحصيلها ممن يعملون منهم في المستوطنات، ناهيك عن اجمالي الضرائب المباشرة وغير المباشرة التي شرعت في تحصيلها منذ شهر تموز يوليو 67، اذ يقدرها بعض المؤسسات الدولية بنحو 1375 مليون دولار. 6- فرض سعر صرف منخفض للشاقل بالنسبة للدولار الاميركي حالياً 3.8 شاقل لكل دولار مقابل 3.2 شاقل حتى نهاية العام الماضي يؤدي عملياً الى: أ - انهيار الدخل الحقيقي لليد العاملة الفلسطينية التي تعمل داخل اسرائيل او في المستوطنات وبالتالي انخفاض قدرتها الشرائية مما يؤدي الى تعميق حالة الركود الاقتصادي التي تعاني منها مناطق الحكم الذاتي لأسباب اخرى عديدة، وتنطبق الحالة نفسها على موظفي السلطة الوطنية، الذين جرت العادة على صرف رواتبهم بالدولار على اساس سعر صرف ثابت للشاقل. ب - زيادة الصادرات الاسرائيلية الى الضفة وغزة حيث يقوم المستورد الفلسطيني بسداد قيمتها بالدولار، وعندما يبيعها بالشاقل يتحمل المستهلك فروق اسعار تحويل العملة. ج - انخفاض القيمة الفعلية لمدخرات وودائع السلطة الوطنية الفلسطينية، وكذلك مدخرات الافراد والتجار خاصة تلك المودعة لأغراض الاستثمار. 7- رغم ان الحاجة اصبحت ماسة لاصدار العملة الوطنية الفلسطينية الجنيه ليتم على اساسها تحديد سعر صرف العملات الاخرى، الا ان ما تضعه الحكومة الاسرائيلية من عقبات في سبيل ذلك يجعل وقت تنفيذ ذلك مؤجلاً باستمرار. ويذكر ان الاغلاقات القسرية الاسرائيلية لمناطق الحكم الذاتي تصيب الاقتصاد الفلسطيني بخسارة قدرها 277 مليون دولار سنوياً، هذا التدهور الى جانب هبوط معدل اعانات الدول المانحة لدعم هذا الاقتصاد وتأخر مشاريع التنمية يؤدي الى ارتفاع معدل البطالة الى مستوى 42 في المئة وانخفاض الدخل بنسبة 24 في المئة وتدني مستويات المعيشة بنسبة 35 في المئة. الا ان سلبيات هذه التفاعلات بوضعها الراهن ما كان لها ان تهدد بانفجار الموقف كما هو متوقع بين لحظة واخرى لو ان الحكومات الاسرائيلية التزمت بتنفيذ مواد وبنود بروتوكول باريس الذي ينظم العلاقات الاقتصادية بينها وبين السلطة الوطنية الفلسطينية. وهي تعمد الى ذلك عن قصد وتخطيط للحد كما قلنا من البدائل المطروحة امام السلطة الوطنية لكي يتحقق على يديها استقلال القرار الوطني على كافة المستويات في الوقت المناسب، فلو ان التنسيق بين الجانبين سار في الطريق الصحيح المرسوم له بروتوكولياً لأصبح مناخ التنمية امام الاقتصاد الفلسطيني مهيئاً واتسعت القدرة التنافسية للقطاع الخاص في الداخل والخارج وزادت مجالات الاستثمار المحلي والاجنبي، ووجوب فرص عمل هائلة لحل ازمة البطالة الوطنية المتفشية.