قد يكون الشاعر الايطالي جياكومو ليوباردي 1798-1837 من أشدّ الشعراء غرابة لا في نتاجه الشعري والنثريّ فقط وإنما في حياته ككلّ وفي شخصيته الغامضة جداً. فهو جاء الى العالم وكأنه لم يأتِ اليه وسنواته التسع والثلاثون مضت من غير ان ينتبه لها. وحين اجتاز مرحلة المراهقة بدا كأنه أنهى شيخوخته وقال عنه معلّمه وهو في الرابعة عشرة: "لم يبقَ لديه من أمر ليتعلّمه". كان ليوباردي في الحادية عشرة حين ترجم جزءاً من "الفن الشعري" للشاعر اللاتيني هوراس وفي الثالثة عشرة كتب نصاً تراجيدياً وفي الخامسة عشرة وضع بحثاً في فقه اللغة بلغ ثلاثمئة وخمسين صفحة وفي الثامنة عشرة ترجم جزءاً من "الأوديسيه". ولم يتوانَ ليوباردي عن وصف طفولته ب"الطفولة الكارثة" فهو نشأ في ظل والد مثقف ومدمنٍ على القراءة ووالدة شرسة ومستبدة ومتزمتة كانت تتمنّى ان يموت اولادها باكراً ليصعدوا سريعاً الى السماء. وفي هذا الجوّ العائلي الخانق الذي شبهه ب"القفص" حيناً و"القبر" حيناً آخر وجد ليوباردي في القراءة وسيلة للهرب وللنسيان. وراح يتعلّم على نفسه اللغة اليونانية والعبرية والفرنسية حتى اتقنها كل الاتقان علاوة على إلمامه العميق بالللغتين الانكليزية والاسبانية. وفي قريته الايطالية الهادئة "ركاناتي" استطاع ان يقرأ نتاج العصور القديمة المتجلّي في الأدب الاغريقي والروماني. وقرأ ايضاً الادب الفرنسي وفلسفة عصر الأنوار. ولئن يعرف ليوباردي اليوم في ايطاليا وخارجها كواحد من كبار الشعراء الايطاليين بعد بترارك فهو كان في طليعة الشعراء الايطاليين المحدثين والمجددين. وانتماؤه الى القرن التاسع عشر زمنياً والى العصور القديمة شعرياً لم يحولا دون تطويره الشعر الايطالي وفتح افاقه على الحداثة. لكن صعوبة لغته المشبعة بالتراكيب الأغريقية والمجازات جعلته عصياً على الترجمة فلم يرج شعره كثيراً خارج ايطاليا على رغم رواج إسمه. ويكفي ان يرجع القارىء الى الترجمات الفرنسية مثلاً التي حظي بها شعره ليكتشف كيف تختلف القصائد المترجمة من مترجم الى آخر. ولعلّ في هذا الاختلاف خير دليل على غنى شعره وعلى عمق مداه التأويليّ. وهكذا لم يبالغ الايطاليون في نظرتهم اليه كشاعر كلاسيكي يضاهي دانتي وكشاعر حديث بل كمنارة للحداثة الشعرية في الحين عينه. واذا قيل ان ليوباردي يمثل هوميروس وفيرجيل وبترارك معاً فهو يمثل ايضاً مالارميه ورامبو وهيراقليط معاً سواء في غموضه واقتضابه أم في خلفيته الفلسفية. ومثلما كتب ليوباردي القليل من الشعر كتب الكثير من النثر الفلسفي الذي كان أقرب الى الشذرات المتفاوتة الاحجام. وقد أعجب نيتشه كثيراً بتلك الشذرات النثرية ورأى في ليوباردي أكبر ناثر في القون التاسع عشر. الا ان البعض قال ان نيتشه أساء فهم الشاعر الايطالي وظنّه ملحداً وعدمياً في المعنى المجرّد والصرف في حين يثير إلحاد ليوباردي وعدميّته تأويلاً آخر يفترض التعمّق في فكره ونتاجه. فالرؤية الفاجعة الى التاريخ ولا جدوى الوجود والتشاؤم والشك وفقدان البراءة وعبثية المعرفة ومأساة الولادة والخيبات الكثيرة لا تعني جميعها الإلحاد في مفهومه الفلسفي والميتافيزيقي. و"العدم الصلب" كما يعبر ليوباردي الذي حاصره لم يكن يعني العدمية المطلقة التي نادى بها شوبنهور ونيتشه. فالشاعر في نظر ليوباردي هو الكائن الذي يفرض نفسه حيال العدم. وهو يطالب الانسان الا يتخلّى عن كرامته في معركته ضد الطبيعة التي منحته أمنيات عالية وجعلته عاجزاً عن تحقيقها بل عاجزاً ايضاً عن التكيّف مع رغباته. ومواجهة الواقع السلبيّ لا تتمّ الا عبر اضطلاع الانسان بما يملك من رفعةٍ وسموّ. يصعب فعلاً الحكم على شاعر مثيل ليوباردي بالإلحاد حتى وإن انقطع عن المسيحية وهجر الايمان وتبنّى نظرية مادية للكون استقاها من فلسفات العصور القديمة. ولعل انقطاعه عن المسيحية كان في حقيقته انقطاعا عن "التفاؤل الساذج" الذي عممته الكنيسة الكاثوليكية وكم انتقد هذا التفاؤل داعياً الى التشاؤم الخلاق الذي من خلاله يمعن الانسان النظر في نفسه وفي الكون. لقد تألم ليوباردي كثيراً وتشاءم كثيراً ويأس وخاب وعاش حياة هي "الأشد بؤساً" كما يقول شاعر ألماني عرفه من قرب. عاش في معزل عن الحياة نفسها بعدما عجز عن التكيّف معها ومع الناس في الوقت نفسه. وخيبته من الحياة هي التي جعلته يكتشف التشاؤم باكراً وجعلته ايضاً ينتقل منه الى حال "عدمية" ورسّخت رؤيته اليائسة الى عالم ليس فيه الا الألم والعذاب. هذا العالم لا يعرف فيه المرء الا قدْراً من "الوهم السعيد" هو وهم الفتوّة واليناع وليس له فيه من فرحٍ الا في ذكرى هذا الوهم. وليس من المشين ان يجد شاعر المعرفة في الطفولة بعضاً من الخلاص. فالطفولة في نظره هي "العمر الذهبي" بل هي "الحالة البدائية للطبيعة". انها زمن الرجاءات والفردوس المفقود وزهرة الحياة الوحيدة وينبوع الرقة والرأفة والوحي. وليس على الشاعر بحسبه الا ان يستعيد الطفولة ليتمكّن من مواجهة الواقع ولكن بالذكرى طبعاً. فالطفولة مضت وأضحت وهماً، وهماً غالياً جداً ورقيقاً. وفي رؤية ليوباردي ان الاسراف في المعرفة كدّر حالة الفطرة السعيدة وخرّب التواصل مع الطبيعة وقتل شغف "الفعل البطولي" وكشف الطابع الوهميّ للمجد والفضيلة. ولم يكن حنينه الى العصور القديمة الا حنيناً الى الملاحم والبطولات. غير انه لم يسع الى تلك العصور سعيه الى "يوطوبيا" مثلى بل بغية خلع القناع عن مثاليات الايديولوجيا الرومانطيقية. ومن خلال عظمة القدامى وفرادتهم راح ينتقد ظواهر الانحطاط الفكريّ والسياسيّ التي سادت عصره. وفي أشدّ مراحل ازدهارالرومانطيقية في اوروبا كان ليوباردي شاعر "الماديّة" والتشاؤم والموت، بل كان شاعر الكارثة والمأساة والقلق الحاد والسخرية الطالعة من روح القرون الغابرة. لم يرَ ليوباردي في الجنس البشري والحكمة البشرية نتيجة غائية طبيعية أو إلهية مقدار ما رأى فيهما "حادثة" طبيعية "مشؤومة". فالانسان هذا الكائن المحدود يمضي عمره ساعياً الى سعادة لا محدودة. وفي هذا السعي يكمن الألم. فالانسان باطل، ولادته مأساة وموته مأساة والحبّ ليس الا وهماً. لا ينفصل شعر ليوباردي عن حياته ولا تنفصل فلسفته كذلك عن شخصيته. وشاعر عانى ما عاناه من ألم وعزلة ويأس وقاسى ما قاساه من مآسٍ وخيبات كان لا بدّ له ان يكون متشائماً بل تشاؤميّ النظرة، "عدمي" الانتماء، مشككاً وقلقاً ابداً. الا ان نزعاته السلبية هذه لم تحلْ دون إدراكه الجمال ولا سيما الجمال "الأنثوي" الذي وجده اكثر ما وجده في وجوه الفتيات القرويات. وقد كتب عنهن قصائد كثيرة واستوحاهن ليعبّر عن الألق الخفيّ للحياة. فالفتاة اليانعة، تملك، كما يقول ليوباردي، "في وجهها وفي حركاتها وصوتها وقفزاتها... ما لا أعرف من الالهيّ، ما لا شيء يوازيه". ويتحدث ايضاً عن الفتوّة مشبهاً اياها بالزهرة أو مستعيراً لها صفة الزهرة قائلاً: "الزهرة الندية، زهرة الفتوّة البكر والشديدة الصفاء، هذا الرجاء النقيّ الذي نقرأه في وجه الفتاة". وجد ليوباردي في وجه الفتاة أو في وجوه الفتيات وليس في اجسادهن العارية خلاصة الجمال النقي والبريء، الجمال الذي لم يشوّهه كدر أو ألم، الجمال الفردوسي الذي لم يشُبْه إثم ولا دنس. ويقول كذلك عن هذا الوجه انه يدفع من يراه الى الارتقاء روحياً الى الانتقال الى عالم آخر. بل إن هذا الوجه "يمنح فكرة عن الملائكة وعن الفردوس وعن الألوهة والفرح". قال ليوباردي ذلك من دون ان يكون "مغرماً" كما يعبّر، أي من دون ان يملك الرغبة في "امتلاك" هذا الجمال. وشاعرنا اصلاً لم يعرف الحب الا معرفة طيفية. فهو كما قال فيه صديقه رانييري، "أخذ معه الى القبر زهرة عذريته البكر". فالشاعر المتوحّد والغارق في نفسه وهمومه لم يقترب من المرأة طوال حياته وآثر ان يرى الحب في تلك الوجوه العذبة التي عبرت لا حياته وإنما أمام ناظريه. وكيف له ان يقترب من المرأة هو "القصير القامة والمحدودب، الشاحب الوجه والمسقام" مثلما وصفه احد اصدقائه، هو الذي "يجعل من النهار ليلاً ومن الليل نهاراً". وقد قال جهاراً: "لقد تدمّرتُ بؤساً ومن دون ايّ دواء طوال حياتي". لم يكتب ليوباردي الا ستاً وثلاثين قصيدة هي كل نتاجه الشعري الصرف الذي ضمّه ديوانه الشهير "الأناشيد" وقد أمضى حياته القصيرة يصوغ قصائده وينظر فيها مرة تلو مرة. وكانت هذه القصائد كافية لتكوّن مدرسة شعرية قائمة بذاتها سواء قي لغتها الجديدة المنبثقة من "اللغات الميتة" كاللغة الاغريقية واللاتينية وسواهما، أم في مضمونها الفلسفي وحالاتها الداخلية وأبعادها الرؤيوية. وقد وصف شعر ليوباردي ب"شعر اللانهائي" تبعاً للكثافات الروحية والأحاسيس الدفينة والغامضة التي زخر بها. والشعر بحسب ليوباردي لا يولد الا من الاحساس وليس من الخيال مثلاً فهو يعكس حنيناً الى التناغم الأوليّ والى السعادة الصافية التي لا يعرفها المرء الا في مراحل نادرة جداً ومنها مرحلة الطفولة. وكان لا بدّ للشعر ان يصبح في حياة شاعرنا حالاً من الانغلاق على الذات والانطواء على السريرة ولكن من دون التخلي عن الانتباه الحاذق الى تموّجات الروح بودلير ودفقات القلب ويقظات الحدس. الشعر لم يكن حالة وصفية ولن يكون: انه استدعاء واستبطان وعبره "يتجلّى" الوعي الأليم بالواقع، يتجلّى أو يتّخذ وجهاً آخر هو وجهه الحقيقي. الشعر ينبع من أعماق الألم ويضيء كثمرة لازمنية أُنكِر عليها خلودُها. وهكذا اجتاز ليوباردي من المعرفة الى "الاحساس بالجميل" ثم اجتاز "الاحساس بالجميل" الى "الاحساس بالحقيقي" من خلال الشعر والفلسفة، من خلال الانشاد والنثر. فهو كان ناثراً مقدار ما كان شاعراً بل كان فيلسوفاً ولكن على طريقته، فيلسوفاً ثملاً يتأمل في العالم والموت، والايمان والعدم ويكتب بل يراكم ما يكتب من دون ان يلجأ الى المنهج الصارم الذي غالباً ما يوقع الكتابة في الجفاف. ومن يقرأ كتابه النثري الشهير "ركاميات" يدرك ماذا أضاف هذا الشاعر المتأمّل أو هذا الفيلسوف الثمل الى نثر القرن التاسع عشر وكيف استطاع نثره ان يتخطّى لعبة الزمن الخطرة ليكون مستقبل الكتابة لا ماضيها فقط. تُرى ألم يقل ليوباردي نفسه: "فلسفتي ليست من النوع الذي يُقدَّر ويُعجِب في هذا العصر؟".