تشكل التقلبات القوية التي تشهدها سوق الأسهم الأميركية صدمة للكثيرين، خصوصاً انها تأتي بعد فترة ازدهار في اسعار الأسهم استمرت سنين طويلة. وها نحن نرى مقياس داو جونز يواصل الهبوط مع فترات انتعاش استثنائية مجبراً المستثمرين على بيع بعض او كل موجوداتهم من الأسهم. للأزمة حالياً علاقة بالمأزق الذي يواجهه الرئيس كلينتون، لكن العلاقة بين الاثنين عرضية اكثر مما هي أصيلة. لم تأتِ تقلبات السوق هذه من دون تحذيرات مسبقة. وكان كثيرون من محللي الاقتصاد والأسواق أكد ان الأسواق، عاجلا ام آجلا، ستشهد "تصحيحاً" في وضعها. وضم وزير المال الأميركي الان غرينسبان صوته الى هذه الأصوات قبل فترة، متجنباً اعطاء تقدير محدد لتوقيت التصحيح او عمقه، لكنه اكد انه سيحصل لا محالة. كيف يمكن ان نفهم التراجع الحالي في سوق الأسهم؟ هل يعني ان عهد ازدهار هذه الاسواق ولى الى غير رجعة؟ وهل نتقدم نحو انكماش اقتصادي؟ بل هل هناك ما ينذر بانهيار اقتصادي كما حصل في 1929؟ الحقيقة ان ليس هناك من يستطيع تقديم اجابة مؤكدة عن هذه الأسئلة. لكن الاقتصادي جيمس ك. غولبرايث من جامعة تكساس، نجل بروفسور الاقتصاد الشهير في جامعة هارفرد جون كينيث غولبرايث، قدم أربع ملاحظات تستحق التسجيل عن وضع سوق الاسهم والاقتصاد الأميركي عموماً. أولاً، يرى غولبرايث الابن ان السنين السبع المتواصلة من الاستقرار والنمو المنتظم قد انتهت، اذ يشهد حجم عمليات الشراء انخفاضاً متواصلاً، فيما تراجعت الواردات وتوقعات الربح، وانخفض نمو الاقتصاد الوطني الى اقل من نسبة اثنين في المئة سنوياً خلال الربع الثاني من السنةالجارية، وبدأت البطالة في التصاعد. ثانياً، كان للأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تشهدها آسيا نتائج سلبية على الصادرات الأميركية، ووصل العجز التجاري الى مستوى لا سابق له، فيما استمرت قوة الدولار في آسيا وأوروبا، وهي ما يعوق تسويق الصادرات الأميركية ويشجع الأميركيين على الاستيراد. ثالثاً، نسب الفائدة لا تزال مرتفعة مقارنة بهبوط نسبة التضخم، وهو ما لا يشجع الاستثمار والاستدانة لتوسيع الأعمال. رابعاً، مجموع الدين الفردي الأميركي كبير ومستمر في الارتفاع، ويعني ذلك ان خدمة الدين تحد من المال المتاح للاستهلاك. كل هذه المؤشرات المقلقة واضحة منذ زمن، ما يطرح السؤال عن السبب في تجاهلها وعدم اتخاذ ما يلزم من الخطوات ازاءها من قبل الحكومة الأميركية وأوساط الأعمال. الجواب الأقرب هو ان الرفاه المتزايد في السنين الأخيرة، خصوصا بالنسبة لمالكي الأسهم، اشاع جواً من الاطمئنان الى استمرار هذا الوضع. من هنا لم يقم الاحتياطي الفيدرالي او الكونغرس او الادارة بشيء يذكر لمواجهة وتصحيح التباطؤ الاقتصادي الحالي. ما هو المطلوب؟ على الاحتياطي الفيديرالي ان يدرك، اولاً، ان الوضع قد تغير، وأن ليس من حاجة الآن لاعطاء الأولوية لمكافحة التضخم، كما يفعل منذ سنوات، بل ان تباطؤ الاقتصاد يستدعي موقفاً معاكساً، اي خفض نسبة الفائدة. ذلك ان من شأن خفض بسيط أن يوازن التباطؤ الذي جاء نتيجة الأزمة الآسيوية، كما سيساعد على مواجهة الضغوط على الميزان التجاري الناتجة عن ارتفاع سعر الدولار، ويخفف من الاعباء على الديون الفردية والتجارية. وعلى الولاياتالمتحدة، ثانياً، وهي القوة الصناعية الحديثة الوحيدة التي يفتقر مجتمعها الى نظام شامل للضمان الصحي، ان تواجه هذه المشكلة فوراً. من الخطوات العملية الممكنة حاليا توسيع نظام "مديكير" لكي يشمل كل من يزيد عمره على 65 عاماً اضافة الى الاطفال الى سن السادسة. ومن شأن هذه الخطوة ازالة قسم من الاعباء على الاسر الشابة وزيادة قدرتها الشرائية، ما يشكل دافعا لانعاش الاقتصاد. وعلينا، ثالثاً، زيادة الحد الأدنى من المدخول لمواجهة التفاوت المتزايد في مستويات المداخيل بين الأغنياء والفقراء - وهو دافع اخر للاقتصاد. واخيراً، مرّ زمن طويل على اي تجديد لمرافق القطاع العام، أي انظمة المياه والمجاري والمواصلات والتعليم والاسكان والمرافق الاجتماعية المحلية والطاقة والبيئة. والمؤكد ان تجديد البنى التحتية هذه يعطي دافعا كبيرا الى الاقتصاد الخاص ويدعم اسسه. يمكننا تمويل عمليات كهذه من دون زيادة الضرائب او مفاقمة العجز في الموازنة اذا واصلنا تحديث وترشيد انفاقنا العسكري بما يتماشى مع مرحلة ما بعد الحرب الباردة وزوال خطر الدخول حرب عالمية ثالثة ضد تحالف يضم الاتحاد السوفياتي والصين - هذا اذا كان ذلك الخطر موجودا اصلا خارج مخيلة استراتيجيي الحرب الباردة. انها المهمة الملحة أمامنا اليوم: التقدم بشجاعة وثقة لمواجهة ما يبدو من تراجع أسواق الاسهم والاقتصاد. * سناتور ومرشح سابق للرئاسة الاميركية عن الحزب الديموقراطي. حاليا سفير الولاياتالمتحدة لدى وكالة التغذية والزراعة الدولية في روما.