كانت قصائد "حزن في ضوء القمر" لمحمد الماغوط نموذجاً واعداً لشعرية مغايرة، شعرية علامتها كثافة الدلالة ومفارقة الصورة وطزاجة التراكيب، مضفورة بإيقاع مراوغ، لا يتبع أقراء الوزن المعتادة بتفاعيله المنتظمة، لكنه مشحون بترجيعاته الداخلية التي تمايزه عن النثر العادي. هذه الشعرية المجاوزة أخذت من الشعر عنصره التخيلي الخالص، وهو أهم عناصره، فألحت على استخدام الصورة الشعرية بما جعل منها كتابة بالصورة، وأطلقت سراح الفاعلية الاستعارية لعلاقات الكلمات بما أحالها إلى لغة مجازية موغلة في الجسارة، وجاورت بين المختلفات والمتباعدات بواسطة التشبيه الذي وصل بين ما لا يتصل، ومزجت بين المدركات والمعطيات بما جمعها في تركيبات مفاجئة، واستبدلت المحسوس بالمعنوي والملموس بالمجرد بما لا يكف عن توليد المفارقة، وجعلت من تراسل المحسوسات والمجردات الوجه الآخر من تدمير التراتب اللغوي وعدم الاعتراف بمحرمات في استخدام الكلمات. وكانت الخاصية الأولى لهذه الشعرية توقد خيالها المتمرد الذي اكتسح المواصفات والأعراف والمسكوكات المألوفة والموروثة، كي يعيد تشكيل مدركات الواقع المتنافرة في علاقات لغوية جديدة، علاقات ليست محاكاة لعالم الضرورة، أو تطهيراً آنياً لانفعالات مقموعة، أو اتباعاً لأنساق ملزمة، وإنما علاقات مفاجئة، مباغتة، صادمة، تستمد قيمتها من قدرتها على تحطيم أسوار مدركاتنا العرفية، وانتزاعنا من سبات الألفة ووخم العادة. فهدفها الأول أن تفتح أعيننا وعقولنا على ما لم نتعود أن نراه أو نلتفت إليه، وحثنا على أن نرى الكائنات في ضوء مختلف كما لو كنا نراها للمرة الأولى، ونعي الوجود من منطق مباين كما لو كنا نراجع حضورنا فيه، وكما لو كنا نضع كل شيء - بما في ذلك تصوراتنا عن أنفسنا وعن واقعنا وعن الشعر والشاعر - موضع المساءلة. قد تركض هذه العلاقات بين الأسطر، أو تنكفئ على نفسها في تباطؤ الإيقاع، أو تشهق بالحدس المفاجئ للعين التي لا تمل من النظر، أو تتحدث عن أشياء تافهة وأخرى عظيمة، أو تجمع بين الرهافة والخشونة، القبح والجمال، كأنها الجسد المغطى بالاسمال والجواهر، سواء في مفارقات تشبيهاتها أو أضداد مجازاتها التي ترتطم بالدمامة في قاع المدينة أو تحلّق كطائر رفيف فوق البحر، لكنها تتوثب بحيوية الشعر في كل أحوالها، وتمتلئ برغبتها في أن تبين عن كل ما يظل في حاجة إلى الكشف، وتشهر كلماتها في وجه الليل والجباه المحنية، حتى لو جلدت نفسها بالقمل والغبار والجروح، وبنت للعيون مملكة ترشح بالاسمال والمشانق، غير متنازلة عن براءتها الأصلية كأنها طائر من الريف. فالكلمة فيها أوزة بيضاء مهما علق بها من وحول، والأغنية بستان يطلق نوافيره على رفات القوافي والأوزان، كي تحكي عن كائن مقموع أو وطن بحجم الجرح، والشاعر لا يتخلى عن بكارة تلقي الطفل الذي في داخله، أو براءة الطفولة التي تتبعه كالشبح. ودائماً، هي علاقات تنتج قصيدة تنفض قلقها على تدافع الأسطر، مخافة أن تكرر نفسها، أو تستنسخ قصائد متشابهة، ذات لحن جريح لا يتبدل. ولا تكف عن الاستدارة إلى نفسها، والإشارة إلى ذاتها في الوقت الذي تشير إلى غيرها، كما لو كانت المرآة التي ترينا العالم، وترينا أنفسنا ضمن العالم، وترينا نفسها كأنها وعي ذاتي بالحضور. ومن هذا المنظور، تتطابق هذه القصيدة والصوت الذي ينطقها لأنها إياه في مدى الرؤية والموقف، فهي المرآة التي لا نرى فيها غير ما يراه ويعيشه ويتحرك في حدوده، ويتمرد على شروطه ويتأبى على نواهيه، فاتحاً مغاليق وعيه كي نرى في مرآته كل ما يريدنا أن نراه، ونسمع في إيقاعاته غير المنتظمة كل ما يبطئ إيقاع لقائنا بضمير المتكلم المهيمن على القصيدة. هذا الضمير، بدوره، يحدثنا عن نفسه في الوقت الذي يحدثنا عن العالم الذي يحتج عليه. وكل تجلياته في كل سياقاته تبدأ وتنتهي بهذه "الأنا" غير المتعالية المهوّسة بالعالم الذي تستبدل هامشه بمركزه، تأكيداً لاغترابها عنه ووحدتها فيه وقمعها بواسطته. وحتى عندما تهجر هذه "الأنا" ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، في أقل القليل من سياقاتها، فإنها تفعل ذلك على طريقة أجافيكم لأعرفكم. أعني للتعبير عن حضورها المباشر بطريقة غير مباشرة، واجتلاء هذا الحضور بغيره الذي سرعان ما يفضي إليه، تماماً كعيون النساء التي تبدأ بها "أغنية لباب توما": ترنو حزينة إلى الليل والخبز والسكارى، لكن لتمنح هذه "الأنا" رغبة البكاء والشهوة، ومن ثم تنقل استهلال الأغنية من خطاب الغيبة إلى خطاب الحضور الذي تؤديه هذه الأنا بواسطة ضمير المتكلم المهيمن على كل شيء. ولعل أبرز مظهر لهيمنته هو ما يلزم عنه من تحويل لتعدد القصائد المتعاقبة إلى موجات متتابعة متدافعة لدفق الصوت نفسه، وذلك على نحو تبدو معه القصائد كلها بمثابة قصيدة واحدة، ممتدة، متلاحقة، متصلة، ذات نفس واحد، لا تخطئ العين أو الأذن ترجيع صوته. ولعل أبرز علامتين لغويتين على ذلك هما الإلحاح على أدوات النداء وصيغه أولا، ثم الإلحاح على أفعال الأمر مقرونة بأفعال التمني التي تنطق مبدأ الرغبة صراحة. أما أدوات النداء وصيغه فإنها تبين عن الهوة التي تفصل الأنا عن عالمها وتصلها به، في المنطقة الملتبسة من الأضداد الشعورية التي يمتزج فيها الإقبال بالإدبار، الرغبة بالصدود، مع الإبقاء على المسافة التي تنأى بالذات عن موضوعها الذي نرى تفاصيله في مجازات مفاجئة، صادمة، تدفعنا إلى مراجعة تصورنا عن الموضوع نفسه، خصوصاً حين نقرأ جمل نداء من قبيل: أيها الربيع المقبل من عينيها، أيتها العشيقة المتغضنة، أيتها الطفلة التي تقرع أجراس الحبر في قلبي، يا صحراء الأغنية التي تجمع لهيب المدن ونواح البواخر، أيها النهر الذي يرافق أبي في غربته، أيتها الوحول الصافية كعيون الأطفال، أيها العرب، يا جبالاً من الطحين واللذة، يا قبوراً من الأجاص والبغايا، أيها الجراد المتناسل على رخام القصور والكنائس، أيتها السهولة المنحدرة كمؤخرة الفرس. وإحباط التوقع الدلالي لافت في الجمل السابقة التي ترينا مدلولاتها بعدسة مجازات تتولى تدمير الترابطات الشعورية المعتادة للموضوعات، سواء في شعورنا الفردي أو الجمعي، وذلك على نحو يدفعنا إلى أن نرى هذه الموضوعات من منظور جديد، هو منظور الأنا التي تعيد صياغة كل شيء في بؤرة توحدها وتمردها واغترابها، والتي تستحضر عناصر عالمها بواسطة أدوات وصيغ نداء تدنيها من إدراكنا، لكن بعد تغريبها بالمجازات التي تدفعنا إلى معاودة التحديق واكتشاف معاني الترابطات الجديدة. وشأن أدوات وصيغ النداء في ذلك شأن أفعال الأمر التي لا تفارق سياق صيغ التمني في أغلب الأمر، كأنها نوع من المقاومة اللغوية لمبدأ الواقع بواسطة مبدأ الرغبة، سواء في تأكيد الأحلام التي تستبدلها الأنا بكوابيس العالم الذي تحياه، أو كشفها عن المقموع والمكبوت والمرجو والمشتهي في الأعماق التي لا تكف عن الرغبة. وينتج عن ذلك تداخل دلالة الأمر والتمني في سياقات "الفعل المضارع" الذي يدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد، وذلك على نحو تتجاوب فيه أزمنة الأفعال، ويغدو استخدام فعل الأمر الوجه الآخر من استخدام أفعال التمني وصيغه، خصوصاً حين تتوزع الأخيرة بين فعل مضارع متكرر على نحو لافت، هو الفعل أشتهي من ناحية، وصيغة التمني التي يؤديها الوصل بين الحرف والضمير في "ليتني". والناتج هو تجاوب صيغ النداء والتمني وصيغ الفعل المضارع وفعل الأمر في مقاصد الرغبة. ولا فارق، عندئذ، بين أن نقرأ من منظور "فعل الأمر": أعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى وحرية التلصص من شقوق الأبواب... وبنية جميلة تقدم لي الورد والقهوة عند الصباح لأركض كالبنفسجة الصغيرة بين السطور وأن نقرأ من منظور "الفعل المضارع" الذي ينطق من خلاله ضمير المتكلم المستتر وجوباً، فيما يقول النحاة: أشتهي منضدة وسفينة.. لأستريح لأبعثر قلبي طعاماً على الورق. أو أن نقرأ من منظور صيغ التمني: ليتني مطر ذهب يتساقط على كل رصيف وقبضة سوط لألملم عطر حبيبتي المضطجعة في سريرها كطير استوائي حنون. لكن سواء كان الفعل "أشتهي" هو الفعل السائد في هذا النوع من السياقات، بالقياس إلى أفعال مثل "أود" و"أحلم" و"أتأمل" و"أرى" وغيرها، فإن كثرة استخدام الأفعال المضارعة تتجاوب والإلحاح على أفعال الأمر في الدلالة على الزمن الحاضر الذي لا تفارقه القصيدة، وذلك من حيث هي موقف من الحاضر بواسطة مدركاته التي لا تقودنا موازياتها الرمزية إلا إليه كي تغوص بنا في زمنه الخاص، وتضعنا في مواجهة علاماته التي تدلنا عليه، سواء في علاقتها بنا في الدلالة على حاضر ممتد، أو إشارتها إلى "الأنا" التي تنطقها، والتي لا تتقنع بأي قناع يبعدها عن زمنها الحاضر. وكثرة أفعال المضارعة على مستوى الاستخدام اللغوي لصيغ الفعل بوجه عام، خصوصاً في ارتباطها بمعاني الرفض والتوتر والحركة، هي الوجه الآخر من الجمل الاسمية حياتي سواد وعبودية وانتظار، إنني مليء بالحروف والعناوين الدامية، وأنا أتسكع تحت نور المصابيح... إلخ في الدلالة على معنى "الحالية" التي هي، بدورها، لازمة نحوية لهيمنة "المضارعة" التي تؤكد هوية الزمن السائد. وإذا كانت أفعال المضارعة تدل على ضمير المتكلم المستتر فيها وجوباً، من المنظور النحوي، فإنها تدل على "الأنا" الملازمة للضمير، ومن ثم تدل على نموذج الشاعر الذي تنطوي عليه، أو تنطقه، أو تؤديه، العلاقات اللغوية لقصائد "الحزن في ضوء القمر". إن هذه العلاقات يتصدرها نموذج محدث في مغايرته، يرهص بما جاء بعد "حزن في ضوء القمر" بسنوات، وما لم يكن شائعاً أو سائداً سنة 1959 حين صدر الديوان، نموذج لا يتهوس بالماضي في توتره إزاء الحاضر، ولا يحلم بولادة جديدة أو بعث تموزي، ولا يتخلق من رماده فينيق أو عنقاء، فهو لا يتطلع إلى المابعد الذي يسترجع الماقبل في دورة الفصول، ولا يعرف سوى ما يراه ويلمسه ويعاينه في الزمن الحاضر الذي يجمع لهيب المدن. وهو نموذج لا يحمل ملامح الشاعر الرومانتيكي الذي هبط الأرض كالشعاع السني بعصا ساحر وقلب نبي، ولا شبه بينه وصورة "الشامان" كُلِّي القدرات الذي يعرف كل شيء، ويقدر على كل شيء. وهي الصورة التي وصل بها أدونيس إلى ذروة مخايلتها، ابتداء من مهيار الدمشقي الذي حمل قارة ونقل البحر من مكانه، ناقشا على جبين عصره علامة السحر، قائلا عن نفسه: ها أنا أشرع النجوم وأرسي، وأنصب نفسي ملكاً للرياح. ولم يحمل نموذج الشاعر في "حزن في ضوء القمر" صورة الشاعر الكلاسيكي بالقدر نفسه، لا في تعقل خياله الذي يؤثر الوضوح الساطع وصرامة المبادئ المحددة، ولا في إيثار النظام والنسق والقواعد بنواهيها الملزمة. وإنما كان على النقيض من ذلك، نموذجاً لا يحتمل المنطق الذي يسجن فيه الخيال المتعقل حضوره، ولا يطيق الميوعة العاطفية التي تنحدر بالخيال إلى تهويمات ذاتية معزولة عن العالم، ويسخر من التحليقات الرومانتيكية، ابتداء من اللعب بعنوان القصيدة الأولى "حزن في ضوء القمر" التي حمل الديوان اسمها، حيث لا تترك لنا "أنا" الشاعر فرصة التحليق مع الربيع المقبل من عيني الحبيبة، أو تشبع توقنا الرومانتيكي في التهويم مع ذلك الكناري المسافر في ضوء القمر، بل تصدمنا بما يحبط التوقع الرومانتيكي، وتباغتنا بما يجمع بين قصيدة غرام وطعنة خنجر، عند شاعر متشرد وجريح، يرقد في غرفته ليكتب عن الأزقة وباعة الخبز والجواسيس، ويحلم بدمشق التي ظل يدق لعشرين عاماً على أبوابها الصلدة المقهورة، لا يفارق علاقته القديمة بالحزن والعبودية، ولا يجد خلاصاً في ليلى ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين ما ظل يحدّق في التاريخ الرابض على شفتيه، ممسوساً بالوطن الذي يقبع مجده الطاعن في السن تحت أظافره التي تشتهي، مثله، جريمة واسعة بامتداد الوطن المتلوي كحبل من جثث العبيد. وكان هذا النموذج يشير إلى حضور شاعر من نمط مغاير لم يعتده الشعر السائد إلى ذلك الوقت، نمط يتجسّد به كائن هامشي، جوال، متسكع، جواب آفاق، مغترب، مقموع، لا يتمتع بأي قدر من البطولة. كائن بسيط يعرف ضعفه. إنساني إلى ابعد حد. مليء بالمتناقضات، شاك لا يؤمن بالمطلقات، يعشق الأطراف والسير عكس الاتجاه. عاشق للحرية، متمرد على قيود الألفة والعادة والعرف. يضيق صدره بالشعارات الزاعقة والكلمات الطنانة والمسكوكات اللفظية الرنانة. يريد أن يعيش كل شيء يستطيعه، لكن من دون إنتماء أو تحزب، ويحلم بأن يجمع كل الأزمنة في زمن اللحظة الحاضرة التي يعيشها بكل ذرة في خلاياه. نموذج شاعر يصف نفسه كأنه "رجل على الرصيف": نصفه نجوم ونصفه الآخر بقايا وأشجار عارية ذلك الشاعر المنكفئ على نفسه كخيط من الوحل وراء كل نافذة... والخطوة الذهبية لهذا الشاعر الذي يتسكع كالضباب المتلاشي، بلا وطن ولا أجراس ولا مزارع ولا سياط ولا سيوف ولا أمهات، هي وقفته أمام المرآة حافياً وخجولاً، يحدّق بعينيه المتسعتين في حاضره كي لا يفوته شيء، وذلك من قبل أن يتقلب في فراشه كدودة القز عندما تندلع الشرارة الأولى، فيرسل نحيبه الصامت أغنية ثقيلة حادة كالمياه الدافقة، أو الصهيل المتمرد على الهضبة. هذا النموذج مديني حتى النخاع، ينتسب إلى مدينة يعيش فيها ومدينة يشتهيها، متوتراً بينهما توتره ما بين مبدأ الواقع الذي يجذبه إلى تعارضات المدينة التي تجمع متنافرات العالم الذي يحياه ومبدأ الرغبة الذي يتأبى على واقع ضرورة ما يحياه. عينه كبقية حواسه مسلطة على المدينة، مهوّسة بعلاماتها، مملوءة على وجه الخصوص بقاع المدينة الذي ينعكس على الأسطر في تنافره الذي يجذب عينيّ القارئ. وانحياز هذا النموذج للبسطاء الهامشيين من أمثاله الذين يلقاهم في الحانات، الأزقة، الساحات، الشوارع الممتلئة بالضجة والدفاتر والأطفال، الطرقات الحالكة بعد منتصف الليل، على الرصيف قرب النوافذ المفروشة بالزجاج والدم، حيث مدى حركة الكائن الذي يصف نفسه بأنه إنسان تبغ وشوارع وأسمال. يبيع البطالة والتثاؤب أمام الدكاكين، أو بين المنازل المتسلخة كأيدي الفقراء، تحت شمس الظهيرة الصفراء أو تحت أنوار المصابيح، متسكعاً كالعواهر من شارع إلى شارع. إن أصابه العياء من التجوال والتلصص والتحديق عاد إلى غرفته الممتلئة بصور الممثلين وأعقاب السجائر، يحلم بالبطولة والدم وهتاف الجماهير، ويبكي بحرارة كما لم تبك امرأة من قبل.