بعد اربعة عشر عاماً من حصولها على مصورات "الجنيزا" القديمة، قررت ليلى ابراهيم ابو المجد، استاذة اللغة العبرية في كلية الاداب بجامعة عين شمس، اهداءها الى الجامعة نفسها لخدمة الطلبة والباحثين. وتعد هذه المصورات اول نسخة ميكروفيلمية من اصول وثائق الجينزا القديمة التي تسربت من مصر في القرن الماضي. وكانت ابو المجد قد تمكنت من الحصول على 12 حزمة ميكروفيلم، تضم ما يزيد على 12 الف وثيقة "جينزا" قديمة ورقية من جامعة كمبردج في العام 1984، شكّلت النواة البحثية الاساسية في اطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه في العام 1987. وتضم المجموعة اشكالاً متنوعة من الوثائق، كالعقود والحسابات والقصص ونُسخ التوارة والرسائل الخاصة والادعية والاشعار والمقامات والاهازيج، بل وشخبطة الاطفال وتجريب الاقلام. ووافقت ابو المجد على إهداء نسخة عن تلك المصورات الى اية جهة علمية او بحثية تطلبها. ومن المعروف ان اول اكتشاف لوثائق "الجنيزا" حدث عندما انهار سقف معبد "بن عذرا" في منطقة الفسطاط بجنوب القاهرة، والذي شُرع في ترميمه العام 1890. الا ان اول تسريب للوثائق كان في العام 1864 عندما تسلل احد الباحثين اليهود يعقوب سافير الى مخزن غرفة "الجينزا"، ثم عاد واخذ مجموعة قيمة اخرى العام 1888 ه. ومنذ العام 1890 حدث التسرب التدريجي للوثائق، وقام اولبرت ماركس بنشر مجموعة منها العام 1894، ترجع الى القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين حتى اتى سولمون شيختر على ما تبقى منها في زيارته للقاهرة العام 1896. ويعرف حسنين ربيع، استاذ تاريخ الشرق الاوسط، نائب رئيس جامعة القاهرة السابق، "الجنيزا" بأنها "مجموعة الوثائق المحفوظة الخاصة بجماعات اليهود الذين عاشوا في مصر وغيرها من البلدان العربية في العصر الوسيط وتسميتها تشبه الكلمة العربية جنازة، اشارة الى المراسم التي تتم قبل دفن هذه الوثائق، وهي مشتقة من الكلمة الفارسية جنك بمعنى خزانة وتعني بالآرامية كنوز المخطوات، وبالعبرية المستودع او الكتابات المحفوظة، وهو اسم من الفعل جنز بمعنى اخفي او كمن". ويلاحظ ان "الجنيزا" تشتمل على وثائق متنوعة اسرية وغير اسرية، وخطابات وقوائم حسابات وموارد مالية وضرائبية وايجارات دور وحوانيت واثمان سلع وسجلات قضائية وايصالات، وعقود زواج وطلاق ورهن ومقايضة ومشاركة واقراض واستبدال، ووصايا وهبات وعتق وفتاوى فقهية ووصفات علاجية وسحر وتعاويذ وشعوذة... وغير ذلك. ويؤكد حسنين ربيع ان معظم وثائق "الجنيزا" تمتد من العصر الفاطمي 358 ه وحتى القرن العاشر الهجري 945 ه، ومن ثم فهي تلقي الكثير من الضوء على الاحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر والعالم الاسلامي في العصور الوسطى، اذ كانت تنتهي معاملات اليهود الى مقر الحاخام الاكبر ومركزهم التجاري الرئيسي آنذاك في مصر. وهناك تسع عشرة مكتبة في العالم حصلت على مجموعات من اوراق "الجنيزا"، واهمها مجموعة "فركوفتش" المكتبة الروسية العامة في بطرسبرغ، وهي اقدم مجموعة جنيزا وقد كوّنها الروسي اليهودي القرائي ابراهام فركوفتش، اول باحث عن اوراق الجنيزا في الشرق والذي وصلت مجموعته الى المكتبة في دفعتين: الاولى باعها فركوفتش الى المكتبة، والثانية آلت اليها بعد وفاته بعامين 1876م. واشهر ما تضمنه "مخطوط الانبياء" ويعود الى العام 895م ويشتمل على نص "الماسورا" المضبوط الذي وضعه "موشى بن آشير" وهو محفوظ في "معبد القرّائين" في القاهرة. ثم تأتي مجموعة "البولديان" في اكسفورد، والتي تم جمعها من الرحالة الاوروبيين القادمين الى مصر، وهي التالية لمجموعة كمبردج من حيث الفخامة، ولها كتالوج مطبوع واخر يصفها. ومجموعة "الكان ناشان ادلر" في مكتبة السيمنار اللاهوتي اليهودي في نيويورك، وادلر هو جامع المخطوطات الذي فشل في الوصول الى غرفة الجنيزا في معبد بن عذرا العام 1888، فعاد اليه وتمكن من الحصول على عدد من المخوطات والوثائق المطبوعة، في العام 1896، ثم اكتشفت أوراق طبعت بفاس في المغرب في القرن الخامس عشر الميلادي لها اهميتها في تحديد تاريخ استخدام المطبعة في شمال افريقيا. اما انطونين كابوستين فهو تاجر الاثار الروسي الذي عاش في القدس بين العامي 1865 - 1894، وتحفظ مجموعته حالياً في المكتبة الروسية العامة في بطرسبرغ وتضم 1200 قطعة نادرة غير مكررة بها نصوص عبرية من العهد القديم مشكّلة ومضبوطة وعليها علامات للنبرات، وكثير من القطع التلمودية التي تعود الى ما قبل تدوين التلمود، نشرت منها 181 قطعة من التلمود البابلي العام 1977م. ومجموعة كمبردج التي يطلق عليها تايلور - شيختر هي اضخم واشهر جنيزا في العالم، وتشير قصة تكوينها الى اكبر عملية نهب للوثائق والمخطوطات في التاريخ، عندما اتى سولمون شيختر الباحث اليهودي الى القاهرة العام 1896 مدعياً وقوفه على مخطوطة "كتاب الحكمة لابن سيرا" الذي يرجع الى العام 200 ق. م. وبهذه القصة الوهمية تمكن شيختر من دخول المعبد ونقل وثائق الجنيزا بمساندة تايلور مدير كلية "سانت جون" في جامعة كمبردج آنذاك، وبقيت في مكتبة الجامعة تحت اسم تايلور - شيختر. وتتكون من 140 الف وثيقة ومخطوطة بين ورقية وجلدية وبردية، وثلاثة اضعاف هذا العدد من اوراق الجنيزا، وبسبب ضخامتها انشأت لها الجامعة مركزاً خاصاً. ومن المجموعات المهمة في جامعة كمبردج تلك الوثائق العربية والمصنفة تحت اسم "المحمديات او الصناديق الاسلامية" تمييزاً لها عن العبرية، وقد اخذت هذه الوثائق العربية طريقها للجنيزا عندما تسربت لأيدي اليهود فاستغلوا الفراغات الموجودة بها للكتابة عليها، بسبب ارتفاع اسعار الورق آنذاك. وتقدر مجموعة الأوراق والوثائق التي ذهبت الى جهات اخرى، بخلاف جامعة كمبردج، بحوالى مئة الف وثيقة، وُزعت بين المكتبات العامة والخاصة والاشخاص من دون تنظيم او نشر لمادتها، ومنها مجموعات المتحف البريطاني، والاتحاد الاسرائيلي العالمي في باريس ومكتبة فرانكفورت العامة، وجامعة ستراسبورغ وكلية دروبس في فلادلفيا ومتحف "الفرير" في واشنطن، ومتحف جامعة بنسلفانيا، ومجموعات سايروس ادلر ودافيد كاوفمان وبارون وافيد جونز برغ. وآخر ما اكتشف من وثائق "الجنيزا" هي المجموعة التي استخرجت من مقابر البساتين في القاهرة على ايدي عائلة موصيري اليهودية العام 1908، ثم استكملت هيئة الاثار المصرية استخراجها العام 1987. وكما يقول محسن ربيع، المفتش في ادارة اليهودية المصرية، فإن مجموعة جنيزا مقابر البساتين حديثة نسبياً اذ ترجع الى اواخر القرن الثامن عشر واوائل القرن التاسع عشر، الا انها خضعت لمراسم "الجنز" نفسها التي اتبعت في الجنيزا المكتشفة في معبد بن عذرا. وللجنيزا أهمية كبرى في دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للعالم الاسلامي في العصر الوسيط اذ انها تساعد في الحصول على معلومات مختلفة عن أنواع المتاجر وأثمانها وأسعار الاراضي والمنازل وقيم الايجارات ونفقات المعيشة واسعار الصرف والمعاملات النقدية المختلفة. كما انها تملأ الفراغ الذي خلفه المؤرخون المعاصرون، الذين اكتفوا بذكر تاريخ الحكام واخبار المعارك والحروب من دون التعرض للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الا نادراً. وتتمثل اهميتها كذلك في انها مكتوبة بأيدي فئات مختلفة، وتضم ما هو رسمي وغير رسمي، وبالتالي فهي بعيدة كل البعد عن المبالغات المعروفة في الكتب الادبية. وفيها ايضا الكثير مما صدر عن ديوان الانشاء وزارة الخارجية في العصر الوسيط ما يعد سنداً رسمياًَ عن احوال العلاقات الخارجية المصرية آنذاك. كما ان لشكلها المادي اهمية كبرى لدراسة تاريخ اللغة العربية وتطوراتها وما احتوته من اساليب مغربية ومصرية ويمنية وشامية. ويضيف عطا ابو رية الباحث في "الجنيزا" اهمية خاصة لها، تتمثل في انها كشفت عن شخصيات لم يذكرها التاريخ من قبل مثل "ابن عوكل" تاجر الذهب والياقوت الذي انشأ وكالة للبريد قائمة بذاتها في بلاد المغرب. كما كشفت الدراسات في "الجنيزا" عن اماكن تمركز اليهود في العالم العربي والاسلامي في العصر الوسيط ومنها بلاد الاندلس، وفاس ومراكش وسجلماسة في المغرب، وتلمسان وبيجايا في الجزائر والقيروان والمهدية وجربة في تونس، ولبدة في طرابلس وبرقة في ليبيا، والفسطاط والاسكندرية في مصر، وبغداد التي كانت مقراً للمدرسة الاكاديمية الكبرى لتخريج الأحبار وارسالهم الى المراكز اليهودية في تلك البلاد. كما حدثتنا "الجنيزا" عن مركز تجمع اليهود التجاري في مدينة عدن اليمنية، وطوائف التجار ووكلائهم وطرق التعامل بينهم بواسطة "السفاتج" او الحوالات. ونعود الى ليلى ابو المجد التي تؤكد ان البحث في وثائق "الجنيزا" ليس بالأمر الهين، وذلك لأنها ليست أرشيفاً منظماً، وإنما هي عبارة عن أوراق تم تخزينها عشوائياً، بعد الاستغناء عنها فاختلط بعضها ببعض. كما ان وثائق الجنيزا بقيت حوالي تسعة قرون في تلك الحجرة في معبد بن عذرا ليأخذ منها الناس ما يريدونه من اوراق قديمة للكتابة في الأماكن الشاغرة بها، ما أدى الى تشتت أجزاء الوثيقة الواحدة بين المكتبات المختلفة والمتباعدة. ونتيجة لاستخدام الأحبار الرخيصة واختلاف الخطوط من بلد الى اخر ومن عصر الى عصر، وبسبب ما تعرضت له هذه الوثائق من عوامل الرطوبة والجفاف، يواجه الباحث صعوبة اخرى في حل رموز بعض كتاباتها. كما ان معظم اوراق "الجنيزا" لاتحمل تواريخ ومن ثم يكمن الخطر الحقيقي في اعتماد الباحث على وثيقة غير مؤرخة من عصر معين للبحث في عصر اخر من دون ان يدري. وعلى الرغم من اهمية وخطورة "الجنيزا" الا انها لم تحظ بالاهتمام العلمي اللازم حتى اواخر القرن التاسع عشر. ويعتبر "جويتن" من اهم المستشرقين اليهود الذين نشروا "الجنيزا" واستفادوا منها، ومن ذلك موسوعته "مجتمع حوض البحر المتوسط"، التي ظهرت في خمسة اجزاء تناولت الاسس الاقتصادية، وطوائف اليهود، والاسرة اليهودية والحياة اليومية، واخيرا الحياة الثقافية لليهود في العصر الوسيط. ويؤكد السباعي محمد السباعي، رئيس قسم اللغات الشرقية في جامعة القاهرة، ومدير مركز الدراسات الشرقية السابق، ان المركز قام بتشكيل ما اسماه "لجنة الجنيزا" بالتعاون مع هيئة الاثار المصرية اوائل التسعينات بهدف دراسة الجنيزا والبحث فيها والعمل على نشرها ومحاولة اقتناء ما يوجد منها خارج مصر، لا سيما بعد اكتشاف وثائق "الجنيزا الجديدة" في مدافن موصيري، والتي ما تزال في القاهرة. ويستطرد السباعي قائلاً: قامت اللجنة بإصدار دليل وثائق الجنيزا في العام 1993، وضمنته توصياتها الخمس بأنه على الجهات المختصة في الدولة ان تقوم بتصوير مجموعات "الجنيزا" في العالم على ميكروفيلم عن طريق بعض المراكز العلمية كمركز تحقيق التراث في دار الكتب المصرية، او مركز الدراسات البردية في جامعة عين شمس، وضرورة تشكيل لجنة علمية من اساتذة الجامعات المصرية، بخاصة اساتذة التاريخ واللغات العبرية، للقيام بإعداد الكتلوجات لمحتويات الوثائق، وتوجيه الباحثين المصريين للاستفادة منها ونشرها. واوصت اللجنة كذلك بدراسة مجموعة موصيري في القاهرة، وبعمل المجسمات اللازمة في مناطق مقابر اليهود خارج الفسطاط وغيرها من المواقع الاثرية اليهودية، لاحتمال وجود بقايا من هذه المجموعات الوثائقية فيها. وأخيرا رأت اللجنة ضرورة اقتصار العمل والبحث في ميدان وثائق "الجنيزا" على العلماء المصريين، وألا تمنح تصريحات او استثناءات لأية هيئة أجنبية للبحث أو التنقيب عن تلك الوثائق أو نشرها باعتبارها تراثاً يجب ان يحتفظ به ليكون ذخيرة للبحوث والدراسات التاريخية للباحثين المعاصرين وللأجيال المقبلة من جهة، ولدرء الخطورة التي تكمن وراء دراسات المستشرقين لا سيما اليهود، والتي تتمثل في تعمدهم إثبات مزاعم غير حقيقية اعتادوا على ترويجها من جهة اخرى.