يُلاحظ اليوم ان هناك رد فعل عنيفاً في ليبيا ضد العرب والعالم العربي بات يشكل عملياً مقدمة واطاراً ل "المرحلة الافريقية" في المسار السياسي للزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، بعد المرحلتين "المشرقية" في السبعينات و"المغاربية" في الثمانينات والتسعينات. وظهرت اخيراً مؤشرات قوية الى ان العقيد القذافي مصرّ على الغاء "الخيار العربي" من خياراته الاستراتيجية واستبداله بالبعد الافريقي. وفي مقدم المؤشرات الجديدة الغاء امانة وزارة الوحدة التي تأتي في المركز الثاني في الترتيب البروتوكولي الليبي بعد امانة اللجنة الشعبية العامة رئاسة الوزراء على رغم وجود سياسي عتيق مقرب من القذافي على رأسها هو جمعة الفزاني الذي تربطه صداقة مع الزعيم الليبي، الى جانب ابو زيد عمر دوردة رئيس الوزراء السابق والمندوب الدائم حالياً لدى الأممالمتحدة. ومن المؤشرات المهمة ايضاً على هذا الانعطاف - وإن بدت صغيرة - الغاء خريطة العالم العربي شعاراً للتلفزيون الليبي الفضائي واستبداله بخريطة افريقيا، ما يعني ان الاخيرة احتلت مكان العالم العربي في عقل الزعيم الليبي. الا ان المؤشر الأهم هو ما جاء على لسان العقيد القذافي نفسه في الخطاب الذي ألقاه لمناسبة الذكرى الثلاثين لوصوله الى سدة الحكم والذي دعا فيه الى وحدة افريقيا كونها تشكل امة واحدة موزعة على قبائل، متهماً الدعوة الى المشروع العروبي بأنها "نزعة عنصرية". وهكذا نقل التبشير ب "الوحدة الاندماجية" الى الجنوب بعدما أعيته المحاولات الفاشلة مع الجيران العرب شرقاً وغرباً. في البدء سحرت مصر الناصرية عقل الزعيم الشاب الممتلئ حماسة فسعى الى الوحدة مع الجار الشرقي الكبير في عهد عبدالناصر ثم في عهد خلفه انور السادات الى ان تبلور مشروع الوحدة الرباعية في العام 1971 تحت عنوان "اتحاد الجمهوريات العربية"، والذي ضم - الى ليبيا ومصر - كلاً من سورية والسودان على أيام الرئيس السابق جعفر النميري. وسرعان ما تراجع المشروع الى اطار بعد انسحاب السودان لينطفئ وهجه شيئاً فشيئاً مع تفاقم التباعد في الرؤى والمواقف بين القذافي والسادات حيال طبيعة الصراع العربي - الاسرائيلي وآفاق تسويته. ويمكن القول ان حرب تشرين اكتوبر شكلت الانعطاف الحاسم الذي كرس شرخاً عميقاً بين الزعيمين، لأن المصريين اعلنوها "حرب تحرير" فيما اعتبرها الليبيون "حرب تحريك" لحمل اسرائيل على الجلوس الى مائدة المفاوضات. ثم انزلق الخلاف لاحقاً الى قطيعة فحرب حدودية في العام 1977. والثابت ان هذا الانعطاف انعكس في ترتيب الأولويات الليبية، اذ ان الزعيم الحالم بالوحدة نفض يديه من مصر والمشرق عموماً وإتجه غرباً. وليس من باب الصدف انه اسرع الى جزيرة جربة جنوبتونس في الحادي عشر من كانون الثاني يناير العام 1974 اي بعد نحو ثلاثة اشهر فقط من انتهاء حرب تشرين اكتوبر ليوقع في اليوم التالي مع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة وثيقة انشاء "الجمهورية العربية الاسلامية" بعدما امضى الاعوام الخمسة الأولى من حكمه في محاولة اجتراح الوحدة "الاندماجية" و"الفورية" مع اهل المشرق من دون جدوى. وهكذا كانت الوحدة العربية العنوان الذي يختزل طبيعة علاقته مع كل من هذه البلدان. لذلك ما ان فشل مشروع الوحدة مع بورقيبة والذي لم يعمر اكثر من ساعات قليلة حتى انكفأ الداعية الوحدوي على الداخل ليقرر نقل نظامه السياسي من عهد الجمهورية الى "عهد الجماهيرية" ويطلق "النظرية العالمية الثالثة". الا ان الحلم الوحدوي ظل يدغدغه واستمر تفكيره مركزاً على جيرانه الغربيين بعد يأسه من المشرق. وفي هذا السياق فاتح الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين بإقامة وحدة ليبية - جزائرية، الا ان بومدين كان متحفظاً عن الفكرة مثل تحفظه المعروف عن الوحدة التونسية - الليبية. وتكرس التباعد بين البلدين مع تحسين ليبيا علاقاتها مع المغرب وإعلان المصالحة بينها وبين تونس لمناسبة زيارة العقيد القذافي الرسمية اليها في شباط فبراير العام 1982. وقطع الليبيون خطوة نوعية جديدة في الاتجاه غرباً لدى الاعلان في آب اغسطس العام 1984 عن اقامة "الاتحاد العربي - الافريقي" في مدينة وجدةالمغربية بين القذافي والملك الحسن الثاني والتي تعتبر اطول تجربة وحدوية غير اندماجية اجترحها الزعيم الليبي كونها استمرت نحو سنة ونصف سنة. وعلى رغم انتكاس التجربة استمرت مراهنة القذافي على المغرب العربي ربما لكونه ادرك استحالة تحقيق اي مشروع من النوع الذي كان يتصوره مع اي من بلدان المشرق، ومن هذه الزاوية يمكن تفسير حضوره القمة المغاربية الأولى في ضاحية زيرالدا القريبة من العاصمة الجزائرية في حزيران يونيو العام 1988 على القمة العربية المخصصة لدعم الانتفاضة الفلسطينية. وهو شارك كذلك في الاجتماع التأسيسي ل"اتحاد المغرب العربي" وكان احد الموقعين على "معاهدة مراكش" في شباط فبراير من العام التالي واعتبره "انجازاً تاريخيا" و"خطوة نوعية على طريق الوحدة العربية الشاملة". الا انه سرعان ما اكتشف ان حجم الوهم اكبر من حجم الحقيقة في رؤيته للاتحاد وهو ما حمله على مقاطعة القمم المغاربية الثلاث الاخيرة بعدما كان حضر اجتماعات مجلس الرئاسة في كل من تونسوالجزائر ورأس الأنوف ليبيا في العامين 1990 و1991. ومن علامات خيبة الأمل بالمشروع المغاربي ان القذافي جعل وزير الوحدة الفزاني يصرح في آخر اجتماع لوزراء الخارجية المغاربيين في الجزائر العام 1995 قبل تجميد الاتحاد ان ليبيا لا تستطيع تسلم دورها في رئاسة الاتحاد طالما بقيت خاضعة للعقوبات الدولية، ما أربك الجزائريين وجعلهم لا يعرفون ماذا يفعلون ب"الرجل المريض" الملقى على كواهلهم منذ اكثر من أربعة أعوام. وعلى رغم تراجع القذافي في موقفه وتأكيده ل"الحياة" في زيارته لتونس اواخر 1996 استعداد ليبيا لاستضافة القمة المغاربية المؤجلة وحماسته لاجراء مشاورات مع القادة المغاربيين لترطيب الاجواء وإنضاج شروط عقد اجتماع لمجلس الرئاسة، فإن الوفاة غير المعلنة للاتحاد ربما تكون كشفت للقذافي عمق الهوة بين الواقع واليوتوبيا وجعلته ينفض يديه من المغرب مثلما نفضها من المشرق. وفي هذا السياق أتت مبادرة تشكيل تجمع اقليمي لبلدان الساحل الافريقي مركزه في ليبيا ورئيسه القذافي في وقت سابق من العام الجاري تدشيناً لمرحلة ثالثة من مغامرة البحث عن "المفتاح" الذي يقود الى بوابة الوحدة. وتكريساً لهذا الخيار الافريقي الجديد سعى الزعيم الليبي في خطابه الاسبوع الماضي واجراءاته الاخيرة، خصوصاً الغاء وزارة الوحدة، لشطب ما قاله وفَعَله طيلة العقود الثلاثة الماضية أملاً بتسويع الاستراتيجية الليبية الجديدة. ولعل الطريف في هذا المجال ان الليبيين طلبوا هذا الاسبوع في اجتماع لمدراء البرامج في اتحاد الاذاعات العربية ارجاء "مهرجان الاغنية العربية" الذي يقيمه الاتحاد في ليبيا هذا العام خلال الأيام المقبلة فترة قصيرة للافساح في المجال لدعوة فنانين وفرق موسيقية من افريقيا وتحويل المهرجان الى مهرجان للاغنية العربية و... الافريقية! الا ان الوفود العربية رفضت الاقتراح. طبعاً لا يعني هذا ان القطيعة ستحل بين ليبيا والعرب، فالليبيون سيحتفظون بعلاقات قوية على الصعيد الثنائي مع كل من مصر وتونس والمغرب والسعودية، الا ان الثابت ان المجال الافريقي سيشكل مركز الثقل في سياستهم الخارجية خلال الفترة المقبلة ربما الى ان تحملهم خيبة امل جديدة على صنع يوتوبيا اخرى متجهة الى... الشمال هذه المرة.