اذا تم استقبال الزعيمين الكرديين جلال طالباني ومسعود بارزاني من قبل الادارة الاميركية وعلى مستوى عال فالرسالة موجهة في هذه الفترة الى النظام العراقي الذي يدفع منذ ما يقرب من شهر الى المواجهة العسكرية بايقافه كل تعاون مع اللجنة الخاصة المكلفة ازالة الاسلحة المحظورة اونسكوم. فالاكراد يمثلون بسبب موقعهم الجغرافي - السياسي عصا تستعملها واشنطن للتلويح بنيات قوية تجاه العراق، بعد استنفاد الوسائل الاخرى. لكن هذه العصا ذات رأسين بل اكثر، ويمكنها ان تتحول الى سلاح يتضرر منه الاصدقاء قبل الاعداء. فالرأس الذي يمكن التلويح به باتجاه نظام عراقي لم يعد يعير اهتماماً بما قد يخسره في كردستان لما يواجهه من خسائر اكبر لا يمكنه ان يخفي الرأس المضر بتركيا، حليفة الولاياتالمتحدة. اذ ان كل حديث عن الاكراد اينما كانوا يعود سلبياً على ما تراه تركيا من الثوابت المطلقة في سياساتها، داخلياً وخارجياً، اي نفي كل اعتراف بالوجود السياسي الكردي. وبمعنى آخر تفسر تركيا اي استقبال للقادة الاكراد كخطوة نحو الاعتراف بهم وربما بكيان مستقبلي لهم، حتى وان بدا الامر وتفسيره التركي بعيداً كل البعد عن غاية الجهة المُستقبِلة وعن كل منطق في التفسير السياسي. تلك سنة اولية من سنن السياسة في هذا البلد. ولا ادل عليها من الضغوط التي تمت ممارستها لاجبار القادة الاكراد على التأكيد بأنهم لا يريدون تشكيل دولة خاصة بهم. ومع ان تركيا استطاعت ان تحصر كل مبادرة كردية خلال السنوات الاخيرة عبر تسلمها الملف الكردي في العراق من جانب وعبرالدور الذي لعبته في تأجيج الصراع الكردي - الكردي وتهميش القضية الكردية وقادتها وعبر مشاركتها في كل لقاء اميركي - كردي، فان استقبالاً اميركياً في واشنطن لقادة الاكراد يعني عدة مسائل سلبية بالنسبة لها ولسياستها في هذا المضمار. اولها عدم حضورها لقاءات واشنطن على رغم انها سوف تعرف ما سيدور هناك مع كثير من التفاصيل، ان كان ذلك عبر القنوات الكردية او عبر القنوات الاميركية ذاتها. فحضورها كان شرطاً وضعته مقابل دورها في حرب الخليج الثانية وعملية المطرقة المتأهبة. وسعت دائماً وبكل الوسائل الى الحصول على كامل ما يجري في المفاوضات المتعلقة بأكراد العراق، في المحافل الدولية واللقاءات الاقليمية او المتعلقة بما يجري بين الاكراد انفسهم. ثم ان الاستقبال الاميركي يقر بأن الملف الكردي العراقي يلوِّح مرة اخرى بخروجه ولو نسبياً من القبضة التركية الحديدية. وهذا بحد ذاته دليل على فشلها، بشكل من الاشكال، في استيعاب هذا الملف بما فيه خدمة مصالحها ومصالح الولاياتالمتحدة، فتركيا واظبت في ادارتها لهذا الملف على استعمال الاكراد ضد حزب العمال الكردستاني التركي وسعت الى اضعافهم في مواجهة النظام العراقي خصوصاً. فإذا بدت الولاياتالمتحدة لامبالية فيما يخص الهدف الأول فان الهدف الثاني، كما تثبت الظروف ذلك على الأقل حتى الآن، لم يصب في مجرى اهدافها ومصالحها في المنطقة. من هنا دخل التناقض بين الموقفين الاميركي والتركي. ويعني الاستقبال كذلك بأن الحدة في التعامل بين الولاياتالمتحدة والنظام العراقي ما زالت قائمة وان امامها المديد من العمر لا يمكن تحديده بفترة قصيرة آتية. وهذا يؤدي من دون شك الى استمرارية الوضع القائم في كردستان العراق وربما وصوله شيئاً فشيئاً الى حالة من الامر الواقع الذي يعيد الى الاذهان ما خلقته تركيا في قبرص وتدخر في الدفاع عنه منذ ربع قرن تقريباً. واضح ان قرار الولاياتالمتحدة استقبال القادة الاكراد لم يأخذ في الاعتبار الموقف التركي المعارض لذلك. فالطبقة السياسية التركية ترى بأن كل تجاوز، غربي خصوصاً، لها في التعامل مع الاكراد انما هو محاولة للدفع الى تكوين كيان كردي مستقل تكون تركيا اول الخاسرين وأكثرهم. فمعاهدة سيفر تعود دائما الى الاذهان ما ان يدور الاهتمام باتجاه الاكراد، خصوصاً وان القضية الكردية في تركيا اصبحت منذ اكثر من عقد من المسائل الملحة في هذا البلد وأخذت تدخل في جوانب من علاقاتها مع العديد من الدول الغربية والمنظمات اللاحكومية والانسانية وصارت عذراً من الاعذار الأساسية التي تقدمها اوروبا في جوابها السلبي على طلب تركيا الدخول الى حلقتها. ومعاهدة سيفر ليست قديمة جداً من منظور التاريخ السياسي. فهي تعود الى عام 1920 وتقسيمات نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية. وتنص موادها 62 و63 و64 على مشروع للحكم الذاتي المحلي للمناطق التي تسكنها غالبية كردية. وتقر على انه اذا اظهر غالبية السكان الاكراد في غضون سنة رغبتهم في الاستقلال فعلى تركيا ان توافق على ذلك. وكانت المناطق المحددة تشمل الجزء الاكبر من كردستان تركيا الحالية على ان يحق لأكراد ولاية الموصل اي غالبية اكراد كردستان العراق الانضمام الارادي "الى الدولة الكردية المستقلة". جاءت هذه الكلمات نصاً في المادة 64 من المعاهدة، لذلك سوف يقع الثقل الاكبر لدولة كردية، استناداً الى معاهدة سيفر، على تركيا. وعلى رغم اهمال هذه المواد وفشل الاكراد في تكوين كيان خاص بهم، اسوة بغيرهم من شعوب المنطقة، العرب منهم خصوصاً، الا ان شبح الدولة الكردية لم يترك القيادات التركية منذ ذلك الحين. فخلال ثلاثة ارباع القرن بنوا سياساتهم على اعتبار وجود خطر الانفصال الكردي. ولو ان الكثير من الاكراد لم يكن يفكر في الانفصال فان السياسة التركية المعادية لهم دفعتهم بالضرورة الى التفكير فيه. ويبدو ان خوفهم اليوم في هذا المجال من اكراد العراق اكثر من خوفهم من اكرادهم. من جانب آخر، تقلق تركيا من لقاء الزعيمين الكرديين برعاية واشنطن، ولا تقتصد صحافتها منذ ايام في التعبير عن هذا القلق، وخوفها الاكبر هو ان تعود الادارة الكردية، بما في ذلك الحكومة المشتركة والبرلمان المشترك في أربيل، الى العمل من جديد. تركيا تريد ان يستمر الوضع الحالي على ما هو عليه من دون اي تغيير. وهذا وحده يطمئنها على انهاء حكم الاكراد لأنفسهم واستقلاليتهم النوعية منذ حرب الخليج الثانية في أية لحظة تعود فيها الحكومة العراقية الى المناطق الشمالية. فانهاء حالة من الصراع بين حزبين متصارعين لا تتطلب اكثر من حجة انقاذ الناس من ايدي العابثين بالأمن وزارعي الفوضى، اما ضرب برلمان وحكومة كردية فسوف يكون اكثر صعوبة لأنهما سيعبران عن ارادة عامة ولا بد انهما سيحصلان على شيء من الدعم من قبل الرأي العام الغربي. فاذا لم تكن تركيا تملك وسائل كثيرة في هذه الفترة للضغط على اميركا لكي تعدل عن استقبال الاكراد فانها تتحكم بالكثير من الخيوط لدفع الحزبين الكرديين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الى حلبة الصراعات الدموية. يبقى السؤال مطروحاً على الحزبين وقدرتهما على تجاوز الخلافات الشخصية والآنية بهدف تحقيق ما يصبو اليه المعارضون العراقيون لنظام بغداد بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم منذ اكثر من ثلاث سنوات. فالثمن البشري والمادي الذي دفعه السكان الاكراد خصوصاً، لكي يصل الحزبان اخيراً الى القناعة بأن لا احد منهما يهزم الآخر وينفرد بالسلطة، كان غالباً جداً. ولا احد يجهل اليوم بأن الحزبين يتحملان المسؤولية الأولى والأساسية في اشعال الحرب بينهما وإيقافها، اذا أرادا ذلك. * استاذ مساعد في معهد اللغات والحضارات الشرقية، باريس