تأتي الجولة العالمية الموسعة للأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء السعودي في ظل ظروف عربية وإقليمية حرجة ووسط اجواء من التوتر والترقب والمخاوف من تعطل مسيرة السلام في الشرق الاوسط بسبب التعنت الاسرائيلي المتزايد ورفض الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ومبدأ الارض مقابل السلام، اضافة الى استمرار التوتر في الخليج وعدم حسم "المسألة العراقية"، وقضايا اقتصادية اخرى مثل انخفاض اسعار النفط وانعكاساته على مشاريع التنمية. هذه الجولة التي تشمل دولاً كبرى وفاعلة سياسياً واقتصادياً سبقتها جولة عربية شملت مصر وسورية ولبنان والاردن بهدف جمع الشمل العربي ورأب الصدع وايجاد صيغة مثلى للمصالحة والمصارحة وتوحيد الموقف العربي تمهيداً لعقد قمة موسعة تضع استراتيجية العمل والثوابت للنظام العربي الجديد القادر على مواجهة المتغيرات العالمية ومتطلبات النظام العالمي الجديد على عتبات القرن الحادي والعشرين، الذي لم تعد تفصلنا عنه سوى عدة اشهر. والأمير عبدالله قادر، بصراحته المعهودة وفروسيته ووضوح رؤيته، على الدفاع عن القضايا العربية والاسلامية ووضع النقاط على الحروف خلال هذه الجولة التاريخية التي تشمل بالاضافة الى بريطانياالولاياتالمتحدةوالصين واليابان وعدة دول اخرى في بادرة ملفتة تؤكد التمسك بسياسة الحوار من موقع الند للند وتوازن العلاقات والمصالح مع جميع دول العالم وينتظر ان تسفر عن نتائج مهمة على مختلف الاصعدة ولا سيما مسيرة السلام العادل والشامل على جميع المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية وتخفيف حدة التوتر في الخليج وتشجيع استمرار الحوار بين إيرانوالولاياتالمتحدة بعدما نجحت السعودية في فتح ابوابه عبر وساطة صامتة جرت بعيداً عن اي ضجيج اضافة الى القضايا المشتركة التي تهم السعودية والعرب والمسلمين. والثوابت التي يحملها الأمير عبدالله معه في ملفاته الكثيرة تصلح لأن يتبناها العرب لتصبح ثوابت عربية تكون اساس الاستراتيجية المستقبلية نظراً لما تحمله من ايجابيات كثيرة. وكنت قد تفردت قبل اعوام عدة بمقابلة تلفزيونية نادرة مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز تحدث فيها بإسهاب عن هذه الثوابت التي وضع اسسها الملك عبدالعزيز آل سعود، طيّب الله ثراه، على اسس العقيدة الاسلامية والتضامن العربي. وهو ما سمعته ايضاً تكراراً من الأمير عبدالله في عدة مناسبات ومن الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران في كل اقواله وأعماله. ومن خلال هذه الرؤية الاستراتيجية الواضحة يمكن تلخيص هذه الثوابت بالنقاط الآتية: - ان السعودية جزء من كل واحد، وان مجهوداتها تصب في اتجاه المصالح العربية وتدعيم التضامن والتكامل وخدمة قضايا امتنا وفي مقدمتها قضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية المشروعة التي لا تقبل اي مساس. ورفض اي مساومة على القدس والتمسك بتحريرها وإنقاذ المقدسات الاسلامية وأولها المسجد الاقصى المبارك اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. - دعم مبادرة السلام على اساس تنفيذ قرارات الشرعية الدولية على جميع المسارات العربية وانسحاب اسرائيل من الاراضي المحتلة وفق مبدأ الارض مقابل السلام ومرجعية مدريد ومشروع السلام العربي الموحد مشروع الملك فهد. - تأييد اي دعوة للتضامن العربي وعقد قمة عربية شرط التحضير لها بشكل جيد لتتخذ قرارات على مستوى الاحداث وتضع آلية تنفيذ فوري لها. - رفض تقسيم العراق او المساس بوحدته الوطنية والتضامن مع شعبه العربي وتشجيع تنفيذ قرارات مجلس الامن الدولي ووقف التجاوزات والتهديدات حتى يرفع الحصار ويعود العراق عزيزاً كريماً الى الصف العربي وتنتهي محنة شعبه الذي تلقى مساعدات من السعودية في عدة مناسبات اضافة الى رعاية اللاجئين العراقيين في مخيم رفحة وغيره والاستعداد لإرسال مساعدات انسانية ضخمة. - التمسك بمبدأ الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى والدعوة لكي يصبح هذا المبدأ اساساً للعلاقات العربية - العربية لا يمكن التساهل بشأنه مهما كانت المبررات. - التمسك بمبدأ الحوار لحل الخلافات العربية - العربية مهما بلغت حدتها وكانت اسبابها. فطالما ليس هناك خلاف على الهدف الاساسي فإن الحل يصبح سهلاً بالصبر والحوار والمصارحة. لأن الكلمة العربية ستتوحد ان صلحت النوايا لأنه لا يوجد خلاف لا يمكن التغلب عليه. وإذا حققت الامة هذا الهدف فسيكون دورها قوياً ومؤثراً. - ما ينطبق على الأمة العربية، ينطبق على الأمة الاسلامية خاصة وان كل بنود سياسة المملكة تنطلق من مبادئ العقيدة الاسلامية وهي عقيدة المحبة والتسامح ولم الشمل والتعاون على البر والتقوى. والدول الاسلامية عندما تقف مع العرب لها حقوق عليهم بالمقابل وعندما توحد الامة الاسلامية فإنها تحقق آمالها وتحل مشاكلها فإذا تحقق اتفاق عربي - اسلامي حول اطار واحد فإنه يفرض نفسه على الشرق والغرب. - التأكيد على اقامة علاقات متوازنة مع جميع الدول في ظل الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وفي هذا المجال تؤكد السعودية انها على علاقات جيدة مع جميع دول العالم لأنه ليس من المصلحة ان نكون اعداء لأحد الا من يعتدي على حقوقنا فهذا لا يمكن ان نسمح له، أما من اراد مساعدتنا فنشكره ونمد له يد الصداقة. فهناك مصالح مشتركة للامم وعلى الجميع ان يحافظ عليها. - العقيدة الاسلامية صامدة ومستمرة وقوية ولا يستطيع احد ان يوقفها مهما بلغت قوته وهي تتجدد باستمرار وتندفع وتتعاظم فعشرات السنين من الاستعمار انقضت ولم يستطع المستعمرون خلالها القضاء على العقيدة ولم يستطع اي مستعمر ان ينتزع العقيدة من قلب المسلم. ولذلك فعلى دول العالم، ولا سيما الكبرى منها، ان تتفهم هذا الواقع وتتعايش مع الاسلام بوصفه دين السلام وتتصالح مع المسلمين ولا تعاديهم لأنهم يشكلون قوة عالمية مهمة: جغرافياً وبشرياً واقتصادياً وسياسياً. - الالتفات الى الداخل لمواصلة مشاريع التنمية والانجازات التي تحققت في فترة قياسية واقامة العلاقات الممتازة مع جميع دول العالم ودعم الدول العربية والاسلامية مادياً وسياسياً ونصرة القضايا الاسلامية كما جرى في البوسنة والهرسك وكوسوفو وكشمير والانفتاح على العالم وفق المتغيرات الجديدة والنظرة المستقبلية. هذه النظرة التي اثبتت عقلانيتها كانت وراء الكثير من النجاحات على صعيد السياسة الخارجية من بينها شمول الصين في جولة الأمير عبدالله الذي سيقوم بزيارة تاريخية لها هي الاولى من نوعها متوجاً اتصالات سرية ثم علنية استغرقت عقدين من الزمن. ففي كتاب "مقاتل من الصحراء" يروي الامير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات في حرب تحرير الكويت قصة بداية الاتصالات مع الصين والحصول على صفقة صواريخ استراتيجية ارض ارض متوسطة المدى احدثت ضجة عالمية كما انها شكلت نقطة تحول في الاستراتيجية الدفاعية للمملكة وفي سياسة تنويع مصادر التسلح. يقول الامير خالد في مذكراته عن صفقة صواريخ "رياح الشرق": كانت الصفقة، التي وقعنا عقدها في نهاية الامر، تخدم مصلحة الطرفين ومهدت الطريق، امام الاعتراف السياسي المتبادل واقامة العلاقات الديبلوماسية بين الصين والمملكة. حافظنا، خلال السنوات التالية، على علاقات طيبة مع الصين، وهي علاقات مبنية لدى الطرفين على التقدير الراسخ والواقعي لميزات الطرف الآخر وتراثه. فالصين تتمتع بثروة بشرية هائلة، وتبرز قوة اقتصادية رئيسية، ونحن بدورنا قوة نفطية ومالية مهمة. وكلانا من الدول الآسيوية التي لها دورها ومكانتها في القارة. فإن كانت الصين تُعد نفسها زعيمة العالم الثالث، فنحن نحتل، بالمثل، مركزاً مهماً في العالم الاسلامي، ونحرص على استخدام نفوذنا لتحقيق الاستقرار في الساحتين العربية والدولية. وكلانا من الدول الموقعة على المبادئ الخمسة الشهيرة للتعايش السلمي، التي انبثقت للمرة الاولى من مؤتمر باندونغ عام 1955. تلك المبادئ التي تحكم العلاقات بين الدول ذات الانظمة السياسية والاجتماعية المختلفة. ويمكن تلخيصها في الآتي: - احترام كل دول لسياسة الدولة الاخرى وسلامة اراضيها. - التزام كل دولة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة اخرى. - التزام كل دولة بالتعامل مع الدول الاخرى على قدم المساواة. - الالتزام بالحفاظ على السلام العالمي. - الالتزام بالتعايش السلمي. هذه المبادئ هي جزء من الثوابت التي اشرت اليها في بداية المقال والتي تصلح لأن تكون ثوابت عربية حتى يفتح الباب امام خروج العرب من النفق المظلم ونجاحهم في رأب الصدع واعادة تجميع قواهم وقدراتهم وعلاقاتهم مع الدول الاسلامية والافريقية والآسيوية والدول الصديقة وفتح باب الحوار مع دول العالم من اجل تحقيق الوفاق والتفاهم وحماية المصالح العربية. ولا شك ان جولة الأمير عبدالله التي جاءت في الوقت المناسب ستحقق نتائج ايجابية تصب لمصلحة العرب وتكريس الثوابت وإيصال الصوت العربي الى دول العالم ولا سيما الدول الكبرى وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة صاحبة الصوت الاقوى او "المهيمن" في النظام العالمي الجديد الذي اصبح احادي القوة حتى اشعار آخر. والامل كبير بأن تسهم هذه الجولة في دعم الموقف العربي وتحريك مسيرة السلام في الشرق الاوسط واقناع الولاياتالمتحدة بالضغط على اسرائيل حتى تعود الى مرجعية مدريد وتلتزم بمبادرة السلام الاميركية ومبادئ الشرعية الدولية لأن البديل سيحمل اخطاراً كثيرة ليس على المنطقة فحسب بل على العالم اجمع، ولهذا فإن على الولاياتالمتحدة ان تدرك ان مصالحها لن تتأمن وتستقر الا بتحقيق السلام الشامل والعادل في النطقة ووضع حد للغطرسة الاسرائيلية وتعنت حكومة الليكود برئاسة بنيامين نتانياهو. صحيح ان اللوبي الصهيوني مسيطر على مفاصل الولاياتالمتحدة ومراكز القرار فيها، وان الولاياتالمتحدة على ابواب انتخابات تشريعية قريبة بعد شهرين، الا ان وزن المملكة العربية السعودية ودورها الفاعل سيساعدان على ترجيح الكفة ودفع الولاياتالمتحدة للتخلي عن ترددها والمسارعة لتجديد مبادرتها خاصة وأن الأمير عبدالله سيُسمع الرئيس كلينتون وكبار المسؤولين صوت العقل والارادة والاقتدار ليس في السعودية فحسب بل في العالم العربي كله" كما ان الجولة ستشمل دولاً فاعلة اخرى ستسهم بدورها في التحرك والتحذير من مغبة استمرار الجمود وتجاهل الحق العربي. والأمير عبدالله، في جولته الحالية، خير من يدافع عن هذا الحق بشجاعة وصراحة كما فعل دائماً عندما قال "ان كل من يتخلى عن القدس ليس منا ولا هو من ديننا، وكل من يفرّط في الحقوق لا مكان له بين العرب والمسلمين". وهو مبدأ لم تحد عنه المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز وبعد ان حمل ابناؤه الراية وما يعمل به اليوم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والأمير سلطان بن عبدالعزيز وكل من يحمل راية التوحيد. * كاتب وصحافي عربي