يشترك الرئيس كلينتون خلال الاسبوع المقبل بنشاط يختلف عن النشاطات السابقة السياسية او غير السياسية التي كان يقوم بها في مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض، ولعلها اقرب الى ايام الدراسة الجامعية في اكسفورد حيث كانت الاهتمامات الفكرية والاكاديمية تجتذبه وتستأثر بقسط مهم من وقته. ففي الواحد والعشرين من شهر ايلول سبتمبر الحالي تنعقد في كلية الحقوق في مدينة نيويورك قمة فكرية يلتقي فيها الرئيس الاميركي مع رئيس الحكومة البريطانية توني بلير ومع عدد من الزعماء الدوليين الآخرين لكي يبحثوا فيها ما دعاه منظمو المؤتمر بپ"الطريق الثالث". وقد وجهت الدعوة لحضور المؤتمر رسمياً من قبل مؤسسة "السياسة العالمية في نيويورك"، الا ان مساعدي الرئيسين المعنيين بقضايا البحوث والدراسات اضطلعوا بدور هام في التحضير للمؤتمر وفي اعداد برنامجه مما يضفي عليه طابعاً شبه رسمي ويزيد من اهميته. ولئن انصب الاهتمام في المؤتمر على التجربة العلمية التي مر بها كل من الزعيمين الاميركي والبريطاني في تجديد الحزبين الديموقراطي في الولاياتالمتحدة والعمال في بريطانيا، فان الكثير من الافكار التي سوف يجري تداولها في المؤتمر سوف تتأثر بقراءة الاكاديمي البريطاني انتوني جيدنز، رئيس كلية لندن للاقتصاد، لهذه التجارب والنظريات التي صاغها في ضوئها. يعتقد جيدنز ان هناك ثلاثة متغيرات هامة تمر بها المجتمعات البشرية راهنياً: الأول هو العولمة التي لا تقتصر على الاقتصاد فحسب وانما على مجالات اخرى متعددة من الحياة الانسانية. المتغير الثاني هو ظهور النظم الاجتماعية الما بعد التقليدية. ولا يقصد جيدنز هنا غياب التقاليد، وانما تبدل النظرة اليها بحيث لم تعد تقبل كمعطى وحسب، ولم يعد الناس يقبلون بها على علاتها، بل باتت تخضع، الى ما تخضع اليه الافكار والممارسات الجديدة من نقد ومراجعة وصولاً الى العثور على تعليل مقبول لها وإلا نبذت وأدار الناس ظهرهم لها. اما المتغير الثالث، فهو ولادة الانسان الذكي. ولا يقصد جيدنز بذلك ان انسان نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين هو متقدم في الذكاء على سابقيه، ولكنه يرى ان التطور العلمي والتقني جعل العالم اكثر تنوعاً بكثير من السابق ومن ثم فرض على الفرد ان يبحث عما يناسبه ويستنسبه بين كم اوسع من الخيارات. وفي هذه العملية لا يستطيع الفرد العادي ان يعتمد على رأي الخبير او الاختصاصي كما كان يحصل في الماضي بل بات عليه ان يستند الى المعلومات التي يكونها هو بنفسه عند البت في اية قضية خاصة او عامة. هذه المعطيات وضعت عقائد القرن العشرين، في رأي الذين يحضرون لمؤتمر الطريق الثالث، على المحك وأوجبت اعادة النظر فيها لأنها لم تتمكن من مراعاة المتغيرات في العالم الجديد. هذا ما تعاني منه الليبرالية بنموذجيها القديم والجديد. الديموقراطية القديمة التي تستند الى النظام الحزبي والانتخابي والى الدولة القومية ليست مهيأة، كما يتصورها منظرو الطريق الثالث، لمواجهة متطلبات الانسان الذكي والعولمة. اما الليبرالية الجديدة فانها تعاني من تناقض مستمر بين الدعوة الى اطلاق قوى السوق التي تنقض الوضع الراهن، وبين تمسكها بالدين والقومية والعائلة. ومثل الطريق الليبرالي، فان طريق الافكار والنظم الجماعية محفوف ايضاً بالصعاب. فالاشتراكية والدعوة الى اقامة دولة الخدمات الاجتماعية تنطلقان، في نظر دعاة الطريق الثالث، من فرضية واحدة الا وهي التأكيد على قصور الفرد وعلى حاجته لتدخل الدولة لحمايته، بينما اصبح الانسان الذكي اقل حاجة مما سبق الى الاعتماد على الدولة. مقابل الطريقين الأول والثاني، سيطلق الرئيسان الاميركي والبريطاني طريقهما الجديد الذي يدعوان فيه الى قيام "دولة الاستثمارات الاجتماعية". في هذه الدولة يجري التركيز على اربع قيم رئيسية، كما يقول جوليان لوغران، وهو ايضاً من منظري الطريق الثالث. اولاً، المسؤولية كبديل عن الاتكال على الدولة الذي نما داخل النظم الجماعية، وعن الانانية الفردية التي تشحذها الليبرالية الجديدة. ثانياً، على المحاسبة والمساءلة والشفافية التي تؤدي الى "دمقرطة الديموقراطية" اذ لا تعود مقتصرة على عالم السياسة فحسب بل تخترق ايضاً الحيز الشخصي العائلة، علاقات الصداقة الخ... ايضاً فيزول منه كل عوامل القهر والتحكم. ثالثاً، توفير الفرص للمواطن وتهيئته واعداده عن طريق التربية والتعليم للاستفادة منها. رابعاً، الروح الجماعية القائمة على الديموقراطية الحوارية وعلى التوفيق بين استقلالية الافراد، من جهة، وعلى الاعتماد المتبادل بينهم، من جهة اخرى. يبدي منظمو قمة الطريق الثالث اهتماماً بتسويق "دولة الاستثمارات الاجتماعية"، بين مواطني الدول المساهمة في المؤتمر، الا انهم يأملون في تصديرها الى المجتمع الدولي بصورة عامة. فهم لا يعالجون الاوضاع في المجتمعات الاطلسية او الغربية فحسب، وإنما يتطرقون الى المبادئ والتجارب السياسية والاقتصادية على الصعيد الدولي، كما انهم خصصوا واحداً من ندوات المؤتمر الثلاث لبحث "طريق تعزيز الديموقراطية في الاقتصاد العالمي". من هذه الناحية فان قمة نيويورك قد تؤدي الى نتائج ايجابية تعجل او ترسخ التحولات الديموقراطية التي تحصل في العالم. ولا ريب ان الولاياتالمتحدة بحكم زعامتها الدولية، وبريطانيا بحكم تجاربها التاريخية، قادرتان على دعم هذه التحولات في اكثر من بلد في العالم. وإذا كانت قمة نيويورك مناسبة للبحث في تقديم نموذج متطور ومتقدم للحكم وللتطبيق الديموقراطي، وإذا كان من اغراضها العمل على نشر المبادئ الديموقراطية وسط التطورات العالمية المتسارعة، فانه من الطبيعي الاستبشار بمثل هذه الممارسة السياسية - الفكرية. الا انه ليس من السهل تجريد هذا الحدث عن الظروف المحيطة به وعن الذكريات التاريخية التي تظلله، وكل ذلك من شأنه ان يؤثر على القمة وعلى نتائجها، وعلى "الطريق الثالث" وعلى ما يقود اليه دولياً، واستطراداً، عربياً وشرق اوسطياً. فالمؤتمر يمثل محاولة للتأكيد على تقدم الحكومات المشتركة فيه ليس في حقل السياسة فحسب، وإنما ايضاً في مجال الريادة الفكرية والمعنوية ايضاً. بيد ان اوضاع الزعامة الاميركية الراهنة لا تؤهلها لمثل هذا الزعم، وإذا كان من البديهي ان يتجه الذهن هنا الى قضية مونيكا لوينسكي واثرها السلبي على سمعة الرئيس الاميركي ومكانته المحلية والدولية، فان هناك عوامل اخرى تنال من وهج النظام الاقتصادي، ومن ثم السياسي الذي حققه كلينتون خلال رئاسته. صحيح ان الاميركيين يتمتعون بمستوى اعلى من الدخل ومن العمالة ومن الامان من السابق، الا انه، من ناحية اخرى "تقلص حجم الخدمات الصحية والتعليمية وازداد انتشار الفقر والعنصرية" خلال حكم كلينتون عما كان عليه سابقاً، كما جاء في مقال لروبرت رايخ الذي شغل منصب وزير العمل في ادارة كلينتون والذي كان من كبار المدافعين عنه. ثم ان المؤتمر يتسم بطابع ثنائي صريح. صحيح ان رومانو برادي، رئيس الحكومة الايطالية، وغوران برسون، رئيس الحكومة السويدية، سيحضرانه ايضاً الا انه جرى استبعاد زعماء دوليين آخرين مثل قادة المانيا وفرنسا واليابان عنه لأسباب غير مفهومة، كالقول بأن المستشار الألماني لن يكون قادراً على الحضور بسبب الانتخابات الألمانية. ولا ريب انه كان من المستطاع تأجيل القمة بضعة اسابيع بحيث يتمكن حاكم المانيا الجديد من المساهمة فيها. بيد انه من الارجح ان منظمي المؤتمر، كانوا يفضلون سلفاً الا يحضره زعماء آخرون يمثلون قوى دولية فاعلة مما ينال من لونه الانغلو - سكسوني. وقد لا يكون في هذا خطأ الا عندما يجري الخلط بين الطابع العالمي للمؤتمر او أية مبادرة فكرية او سياسية من هذا النوع وبين هويتها الحقيقية. بالطبع انه ليس من عيب او ضرر في ان يقوم بلد او مجموعة من البلدان يقوم بينها تقارب ثقافي وسياسي بالدعوة الى نمط معين من الحكم والى منظومة قيم خاصة. كذلك ليس من ضرر في ان يتصور هذا البلد او ذاك ان الافكار التي يعتنقها تفيد الآخرين، وان يدعوهم الى تبنيها. الا ان هذا النهج ينطوي على محذور كبير. فالدول تحاول احياناً تغطية مصالحها القومية الخاصة ومشاريع الهيمنة على الآخرين بطلائها بالطابع الدولي والأممي، وبادعاء صفة الأمم المنقذة والمخلصة المهيأة لانقاذ البشرية من التخلف او الضياع والضلال. ويقترن هذا الادعاء، في اكثر الحالات، باستخدام اساليب العنف من اجل "تخليص" الآخرين من واقعهم، وقيادتهم على طريق الخلاص. ان هذا النهج الاخير لم يكن غريباً على بريطانيا ولا على الولاياتالمتحدة، ولا هو غريب على الرئيسين كلينتون وبلير. ولعل ما يؤكد استعداد للزعيمين للسير على هذا الطريق، اولاً كان ام ثانياً ام ثالثاً، هو مجمل السياسة التي يتبعانها تجاه المنطقة العربية، وهي سياسة تستخدم القوة بدعوى حماية السلام الدولي او الاستقرار الاقليمي، بينما هي ترمي الى الحفاظ على مصالح الدولتين ومصالح حليفهما الاسرائيلي الاستراتيجية والنفطية والاقتصادية. لعله كان من المستطاع التقليل من هذه المخاوف لو دعا الزعيمان الاميركي والبريطاني الى مؤتمر دولي وفكري حقيقي، وفي اطار هيئة الأممالمتحدة، من اجل بحث "الطريق الثالث" ومن اجل التفتيش عن الصيغة الافضل للحكم. ان مؤتمراً بهذا الحجم قد لا ينتهي بيوم واحد، كما هو مقرر لقمة نيويورك الفكرية، ولكن تنظيم حوار بين القيادات الدولية حول قضايا المستقبل البشري، يستحق مؤتمراً اطول مدة وأوسع تمثيلاً من مؤتمر كلينتون - بلير. * كاتب وباحث لبناني.