في تشرين الثاني نوفمبر 1945، وصل ديبلوماسي بريطاني شاب الى شقة في ليننغراد تقطنها احدى أهم شاعرات وشعراء روسيا ما قبل الشيوعية. الشقة، التي هي جزء من مسكن جماعي، أقامت فيها أنّا أخماتوفا التي تركها أصدقاؤها ومعاصروها كافة: الى المنافي والسجون والموت انتحاراً. الجلسة الوحيدة دامت 15 ساعة. والكتاب الذي تُرجم مؤخراً الى الانكليزية، لصاحبه الروسي جورجي دالوس، يتحدث عن تلك الساعات، بعنوان: "زائر من المستقبل: أنا أخماتوفا وأشعيا برلين". لقد كان هذا الحدث الذي حصل قبل نصف قرن ونيف اهم لقاءات الاثنين طوال حياتهما. والاثنان من مواليد روسيا القيصرية، انفصل عالماهما وعملت الصدفة وحدها على توحيدهما، ولو لساعات. بالنسبة الى اللقاء نفسه لا يضيف الكتاب الا القليل الى ما اورده برلين نفسه في انطباعاته الشخصية. فمعظم عمل دالوس محاولة تقييم لما ترتب على اللقاء الذي عرف به ستالين، وقد شاع انه قال: "إذن راهبتنا تستقبل جواسيس بريطانيين". والمعروف ان اخماتوفا تعرضت، بعد عام، لتشهير اللجنة المركزية العلني، بوصفها "عاهرة وراهبة" معاً، في اشارة مبتذلة الى البعدين الايروسي والروحي في قصائدها. كتابها الجديد تم اتلافه، كما اعيد اعتقال ابنها، وهي الأمور التي ردتها أخماتوفا نفسها، في وقت لاحق، الى اللقاء بالفيلسوف الروسي - البريطاني. وبالغت الشاعرة الكبيرة في تقدير نتائج اللقاء اذ اعتبرته، كما يروي دالوس، واحداً من اسباب الحرب الباردة. ويتوقف المؤلف عند الموقف السوفياتي الرسمي من برلين. ففي 1952 "اعترف" عمّه الذي كان لا يزال يعيش في روسيا، بأنه كان يتآمر ضد ستالين مع "الجاسوس البريطاني" أشعيا برلين. بيد ان اخماتوفا التي ظلت مقيمة هناك، هي التي نالت الحصة الأكبر: طُردت من اتحاد الكتّاب، وحُذف اسمها من الانسيكلوبيديا السوفياتية، ومُنعت من الظهور في مناسبات عامة، وفُرضت عليها العزلة التامة، ثم حُرمت القسيمة التي تحدد لها حصتها من المواد الغذائية. ولم يغب أبداً سيف التهديد بالعقوبة القصوى: معسكرات العمل والموت. وفي هذه الغضون كانت محنة اخماتوفا: حين ضعفت، كتبت مادحةً ستالين. الجانب الآخر في اللقاء هو كونه جزءاً من قصة حب تراجيدي. فبعد مغادرة برلينموسكو في 1946، كتب اليه بوريس باسترناك ب "انكَ كنتَ الكلمة الثالثة في كل ثلاث كلمات تقولها". وقد اصبح برلين الوجه الأساسي والمتكرر في أعمال سنواتها الأخيرة، اذ تحولت زيارته اليتيمة حافزاً لها وموضوعاً. ففي "قصيدة من دون بطل"، مثلاً، وهي احدى أهم أعمالها، كتبت: "زائر من المستقبل، هل سيأتي فعلاً/ وينعطف انعطافة يسرى حول النهر؟". ومن هذا البيت، كما هو واضح، استقى دالوس عنوان كتابه. أما برلين الذي وصف موقفها منه بأنه "أكثر شيء مفرح شهدته حياتي"، فلم يرها لمدة عشرين عاماً بعد ذاك. فحين حضرت الى أكسفورد لتتسلم دكتوراه الشرف التي قدمتها اليها الجامعة، التقيا لقاء بعيداً وبارداً. كان ذاك قبل عام على رحيلها حزينةً مكسورة.