يمكن وصف الشاعر الروسي يفغيني يفتشينكو الذي توفي قبل أيام في الولاياتالمتحدة عن 85 سنة، بأنه «شاعر من ذلك الزمان» باستعارة جزئية من عنوان رواية مواطنه ليرمنتوف، فهو يمثل نموذجاً للشعراء الذين يبزغون في مرحلة صعود الحركات السياسية، ثم سرعان ما يخبو بريقهم مع زوال شمس تلك الحركات وانحسار مدّها الثوري. كما أن تجربته الكتابية المتوزعة بين الشعر والرواية والسينما، إضافة إلى النشاط السياسي الذي أوصله إلى البرلمان السوفيتي، يثير إشكالية علاقة الشاعر بالعالم من حوله. وإذا انطلقنا من مقولة يفتشينكو ذاته بأنَّ «السيرة الذاتية للشاعر هي شعرُه. وأن أيَّ شيء آخر هو مجرد هوامش» فسنجد أن شهرته لم تأتِ من مكانته الشعرية في الشعر الروسي، على رغم أنه نشر نحو مئة وخمسين كتاباً، بل من تعقبه للقضايا الكبرى ليستمد منها شعبية داخلية وشهرة خارجية، بينما بقيت تجربته الذاتية مسكوتاً عنها لفترة طويلة. فقد قلَّلت آنا آخماتوفا من القيمة الجمالية لشعره الذي «لا يرقى إلى مستوى صحيفة ساخرة» وأنه وفوزنيسينسكي لا يمثلان أهمية استثنائية في الشعر الروسي. ولعل قصيدته «ورثة ستالين» التي كتبها بعد وفاة الزعيم البلشفي أول تعبير واضح عن موقفه النافر من الستالينية، فقد رأى أن ستالين ترك، على رغم موته، ورثة له في صميم المجتمع السوفياتي آنذاك. ويصف فيها قوة نفوذه حتى وهو في القبر، فهو: «لم يمت إنه فقط يختبئ في الضريح، ولا يزال يتنفَّس من الفتحات الصغيرة في الرخام!» لذا يلتمس من الحكومة، بتهكم، مضاعفة عدد الحراس حول ضريح الزعيم كي لا يغادره، لأن ستالين يتظاهر بالموت فحسب، لكنه يسهر داخل القبر ولا ينعس أبداً أو يستسلم، ويعتقد أن بإمكانه خداع الموت (ولكن كيف يمكن طرد ورثة ستالين من ستالين...؟) بيد أن تلك القصيدة يمكن أن تقرأ بوصفها دعايةً مرحباً بها رسمياً، عكس ظاهرها الاحتجاجي، لأن النظام الرسمي بدأ وقتها، يثقِّف باتجاه القطيعة مع المرحلة السابقة والعمل على تفكيك الستالينية وتصفية إرثها، وهكذا كان يفتشينكو أحد الرموز الثقافية لتلك الحقبة التي سميت «ذوبان الجليد» أو «ربيع خروشوف» بحيث شهدت انفتاحاً ثقافياً واجتماعياً نسبياً، وفي ظل هذا التوجه دعا صاحب «الزهور والرصاص وحربة القتل» إلى انفتاح الثقافة الروسية وتواصلها مع الثقافة الأوربية والغربية بمنأى عن تفاعلات الحرب الباردة. ويمكن قراءة قصيدته المشهورة الأخرى «بابي يار» في السياق ذاته، لكن على المستوى الخارجي هذه المرة، فهو أدان فيها النزعة المعادية للسامية في الاتحاد السوفيتي، وبقيت السرديات والأشعار التي تتناول هذه المجزرة التي ارتكبها النازيون في تلك المدينة محظورة من قبل النظام الشيوعي، فعاد يفتشينكو بعد مرور عشرين عاماً على المجزرة ليرثي ضحاياها. محاولاً أن يبدو ساميّاً، وسط ثقافة تدعو إلى الأممية وتنبذ العرقية! إذ لم يكن مضمون قصيدته مجرد إدانة لما ارتكبه النازيون، ولكن لقسوة أولئك الذين يعيشون، ولا يتذكرون المأساة: «ما من نصب تذكاري فوق (بابي يار) /أنا/ كلُّ رجل مسنٍّ/ قتلَ بالرصاصِ هنا/ أنا كلُّ طفلٍ/ قُتِلَ بالرصاص هنا». وعندا تدخلت القوات الروسية ضد ما عرف ب «ربيع براغ» عام 1968 كتب قصيدة بعنوان «الدبابات الروسية في براغ» منتقداً هذا التدخل وأرسل برقية للصحف التشيكية: «لا أستطيع النوم، لا أعرف كيف أعيش حياتي بعد هذا...! لديَّ الكثير من الأصدقاء في تشيكوسلوفاكيا ولا أعرف كيف ستتمكن عيناي من النظر إليهم». وهكذا كان يتفيأ ظلال كل ربيع متاح، من «ربيع خروشوف» إلى «ربيع براغ» قبل أن ينطوي على أبديته الذاتية في الربيع الحالي. وكثيراً ما كرَّر أنه ولد وعاش خلف السور الحديدي مع أنه أكثر الشعراء الروس سفراً. حتى أنه زار المنطقة العربية وإسرائيل في أسبوع واحد! وظل موقفه من الاستبداد مثيراً للجدل بين الجرأة على المواجهة، والنقد المعتدل الذي يلبي وجهة نظر السلطة، في إعادة انتاج المعارضة من داخل البنية نفسها. فهو لم يكن شيوعياً جذرياً، ولا ليبرالياً واضحاً. وينفي انتماءه للحزب الشيوعي، رغم تباهيه بصداقته لتشي غيفارا وسلفادور أليندي وبابلو نيرودا. وعلى العموم لم يمتلك جرأة أستاذه باسترناك، ولا مقدرة جوزيف برودسكي الشعرية وصعوده المستحق في الثقافة الغربية بعد انشقاقه، ولم يتعرض للنفي أو السجن كسولجنتسن، لهذا يوصف بأنه ليس أكثر من تلميذ مشاغب في مدرسة النظام الشمولي، أو كما وصفه برودسكي: «لا يرمي الحجارة إلا في الاتجاهات التي يحددها النظام رسمياً» في مرحلة لاحقة أصبح من المبشرين الأوائل بالبيروسترويكا وأبرز المتحمسين لها، وهي العملية التي أسفر عنها تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1991، ولأنها النتيجة الطبيعية لتفكيك الستالينية، فقد كان من المفترض أن يحظى صاحب «التفَّاح المسروق» بربيع آخر في ظل الوضع الجديد، لكن اللافت إنه انتقل في العام ذاته للعيش في الولاياتالمتحدة، وكأنه اعترف بنهاية التاريخ الشيوعي وانتصار الرأسمالية! بدأ يفتشينكو تجربته وريثاً للرعيل الأول من الأدباء البلاشفة سواء في المضامين أو الأساليب الفنية، قبل أن يبدأ تذمره واحتجاجه في مرحلة لاحقة، ربما طمعاً بجائزة نوبل التي أصبح قريباً منها في مرحلة ما من عقد الستينيات. وبدا في ديوانه الأول «آفاق المستقبل 1952» مقلداً للشعر الثوري، ويزخر شعره في تلك الفترة بالولاء للشيوعية، وينشغل بالموضوعات الأثيرة لدى أدباء الواقعية الاشتراكية، حيث أبطاله العمال والفلاحون والفقراء، والمرأة الشيوعية المكافحة، والأم الغوركية، وكذلك في نقده للعزلة الإبداعية والنخبوية في الفن، والاحتفاء بالكرنفال الإنساني الأممي، مثل هذا الشعر سجَّل حضوراً قوياً في ثقافة السبعينات العربية، لكن صاحب «من أين أتيت » نفسه كان قد غادره قبل ذلك التاريخ إذ سرعان ما جذبته أفكار الانشقاق ونقد الاستبداد، لدى باسترناك «الذي ذهب في طريقه، تاركاً كلَّ ضجيجِ للآخرين» كما يقول في مرثيته له: «من مرارات هذه الأرض، مسرات هذه الأرض/ ما من سُورٍ حديديٍّ سيعزل أيَّ شخص/ يعيش، كما لو أنّهُ هديةٌ للآخرين.../على هذه الأرض لا يمكن أن تدومَ مثل هذه الأسوار». وثمة الكثير من المقارنة الممكنة التي ليس مجالها هنا، بين قصيدتيه عن قبر باسترناك وضريح ستالين. كما كتب شعر الحب: «دائماً ستجد امرأة... ولكن هناك عيون امرأة واحدة/ تنظر إليك بحزن دائم/ وهي حتى نهاية الحياة /عيونُ حبِّكَ وضميرك». وإلى جانب قلقه في خياراته السياسية عاش متأرجحاً في حياته الاجتماعية (تزوج أربع مرات!) ولعل قصيدته «مدينة نعم ومدينة لا» هي أفضل نموذج معبِّر عن ذلك القلق والتأرجح: «أنا مثل القطار/ مسرعٌ لسنوات عديدة في الحاضر/ بين مدينة نعم، ومدينة لا/ أعصابي مُتوترةٌ كالأسلاكِ/ بينَ مدينة لا، ومدينة نعم.» ليخلص إلى أن الحلَّ يكمن في التنقل بين هاتين المدينتين إلى الأبد، ولعل هذا التنقل بين الأبيض والأسود في حياته، انعكس على أعماقه، ولهذا عنونَ سيرته التي ترجمها المغربي إدريس الملياني ب «العمق الرمادي» وقال فيها إنه كان جريئاً وصادقاً، في دفاعه عن الاحتجاج، وأن الغرب أراد أن يجعل منه «شخصية مستقلة منفصلة فيما يبدو كبقعة مضيئة عن العمق الرمادي للمجتمع السوفياتي» لكن الأعماق الرمادية تسكنه هو بالذات حقاً، ويعد يفتشينكو من هذا الجانب، ملهماً لعدد من شعراء اليسار العربي، منذ السبعينات إلى إيامنا هذه! ليس في شعره الذي يبدو منعدم التأثير تقريباً، ولكن في تنبيهه لليساريين العرب إن بإمكانهم أن يرفعوا الراية الحمراء خفاقة، فيما تنطوي أعماقهم على تلك المسافة الرمادية الشاسعة حين يتعلق الأمر بتنقّل الولاء بين السلطة والمعارضة. لقد خبا نجم يفتشينكو الشعري، قبل أن يذوي جسده، ومع هذا عكف خلال السنوات الأخيرة، على إعادة مراجعة تاريخ الشعر الروسي، فبعد أن أصدر مختاراته من الشعر الروسي خلال قرن بعنوان «أشعار القرن» استكمله لاحقاً بمختارات شاملة تمتد لألف عام، محاولاً تأصيل مسافات بعيدة من الشعر الروسي.