أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    سكري القصيم «عقدة» رائد التحدي    استهداف 34 ألف لاعب تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 9 سنوات    "فيفا": ملف استضافة المملكة لكأس العالم 2034 الأعلى تقييمًا في التاريخ    بحضور وزير الرياضة.. انطلاق منافسات سباق "سال جدة جي تي 2024"    نائب رئيس مجلس الإفتاء السويدي: المملكة ناصرة للدين الإسلامي    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    ذوو الاحتياجات الخاصة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أندريه ماكين بحثاً عن مكان ضائع : في الكتابة تصبح لغات العالم لغة واحدة
نشر في الحياة يوم 09 - 08 - 1998

في حال اندريه ماكين Andrei Makine تتطابق الحكاية مع ما ترمز اليه: المسافة التي قطعها هذا الكاتب الشاب من بلاد نشأته في سيبيريا الى العاصمة الفرنسية شاهقة جغرافياً ومعنوياً. فانتقاله من شيوعية الاتحاد السوفياتي الثقيلة وقراه النائية الى أضواء باريس الأدبية انتقال لم يحققه الكثير من الروس وان كان لا بد راود أذهان العديد منهم نظراً لأهمية فرنسا في مخيلتهم الجماعية.
وانجاز ماكين لا ينحصر في كتابته لخمس روايات بالفرنسية، أي بلغة هي لغته الثانية وليست لغته الأم، بل في نيله أيضاً جائزتي "الغونكور" و"المديسيس" المرموقتين عام 1995 عن روايته الرابعة "الوصية الفرنسية"، وهي المرة الأولى التي تنال فيها رواية واحدة الجائزتين معاً. الا ان نجاح أندريه ماكين وان كان عارماً فإنه لم يكن سهل المنال. ولد ماكين عام 1957 ونشأ في سيبيريا ثم انتقل الى موسكو ونوفغورود جنوبي لينينغراد أو سان بطرسبرغ كما تعرف اليوم وكما كانت تعرف من قبل أن يتبوأ البلاشفة السلطة: ...والروح النبيلة لهذه العاصمة القديمة التي لن تعتاد أبداً على اللقب الذي خلعه عليها أسيادها الجدد، وظل "راسكولنيكوف" يتجول في مكان ما في كثافة الشوارع المغمورة بالضباب. أما موسكو التي نال ماكين شهادة دكتوراه في الأدب من جامعتها، فتقول فيها احدى شخصيات رواياته: "اكتشفت موسكو، مدينة كالمسخ، ساحقة، بلا نهاية. ولكن بالنتيجة مدينة شرقية، قريبة جداً من طبيعتي الآسيوية. عمل ماكين استاذاً في نوفغورود ثم هاجر الى فرنسا عام 1987 حيث علم اللغة الروسية وبدأ بالكتابة بالفرنسية. الظروف المادية لحياته في باريس كانت صعبة قبل نجاح "الوصية الفرنسية"، تخللها ليالي تسكع وكتابة في العراء ولجوء الى الدفء النسبي للمقابر. وحين قرع أبواب دور النشر الفرنسية، قوبل بالرفض اذ قررت دور النشر هذه انه لما كان يتكلم الفرنسية بلكنة روسية فلا بد انه يكتبها بلكنة أيضاً، كما روى ماكين نفسه في جلسة حوار عامة من جلسات مهرجان الكتاب في مدينة سيدني الاوسترالية الذي انعقد في شهر أيار مايو الماضي. وحين سئل عن طريقة الكتابة، وان كان يعرف تماماً ما سوف يكتبه حين يجلس الى الطاولة، أجاب انه غالباً لم يكن يملك طاولة للجلوس اليها وان ظروف كتابته متغيرة، وربما كانت تجربته لا تحمل الكثير من الدروس حول أساليب الكتابة وظروفها.
روايته الأولى، "ابنة بطل سوفياتي"، تحكي قصة جيلين سوفياتيين وانهيار احلامهما خلال الخمسين عاماً التي تفصل انتهاء الحرب العالمية الثانية عن انهيار الامبراطورية السوفياتية في أواخر الثمانينات. الجيل الأول يتمثل بجندي يستبسل في معركة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية، فينال أوسمة عديدة ورتبة بطل في الاتحاد السوفياتي المرموقة.
أما الجيل الثاني فتجسده ابنته التي تنهي دراستها الجامعية بالانضمام الى جهاز المخابرات السوفياتية، شبه مقتنعة وشبه مرغمة، فتستعمل جسدها لأغراض التجسس. لم ينجح "ماكين" في اقناع دور النشر بتبني روايتيه الأوليين الا حين ادعى، على التوالي، انه كتبهما بالروسية ثم تمت ترجمتهما الى الفرنسية. وحين طلبت احدى دور النشر رؤية المخطوطة الروسية، أي النسخة الأصلية، اضطر الى كتابة جزء منها على عجل! في روايته الثانية، "اعتراف حامل علم ساقط"، ينتقل ماكين الى مناخ بروستي الاهتمامات: الطفولة وتفتح الأحاسيس وانقضاء الزمن واسترجاع الماضي. تدور الرواية حول صداقة ولدين في قرية سيبيرية واكتشافهما سوية أو منفصلين، لبعض حقائق مجتمعهما وبعض أسرار ذويهما. أما في الروايتين اللاحقتين في "زمن نهر يسمى الحب" و"الوصية الفرنسية" فيختفي السياسي ويصبح خلفية مبهمة للقصة، ويطغى عالم الأولاد ومخيلاتهم واكتشافهم لعوالم أخرى وأحاسيس جديدة، لا سيما تلك المتعلقة بيقظتهم الجنسية. ابطال رواية في زمن نهر يسمى الحب ثلاثة أولاد سيبيريين، أول ما يصل اسماعهم حول الجنس هو كلمة "فعلها" أو فعل فلانة في اشارة فظة الى الجماع. لكنهم يكتشفون تدريجياً، عبر تلميح من هنا واختبار من هناك، ما تحجبه هذه الكلمة الغبية من عالم مدهش ومعقد، عالم يلونه قوس قزح من الأحاسيس المذهلة والعنيفة أحياناً ويبارحه الاغواء والحنان والشهوانية والألم والغيرة والاثارة والحنين... أما "الوصية الفرنسية" وهي أقرب رواياته الى السيرة الذاتية، فتحكي قصة "أليوشا" وشقيقته وهما ولدان سيبيريان تسحرهما حكايات جدتهما الفرنسية "شارلوت" فتنمو فرنسا في ذهنهما كعالم خرافي مرهف يتناقض في روعته مع بدائية السهول السيبيرية المغطاة بالثلج ويجسد لهما ثنائية الغرب والشرق. هذه الثنائية في روايات "ماكين" استشراقية، من حيث يقينها بأن الغرب والشرق عالمان حقيقيان قائمان بذاتهما ومختلفان عن بعضهما البعض أشد الاختلاف. تعود أصول هذا التباين، برأي الكاتب كما قال لي في المقابلة المرفقة، الى التواريخ البعيدة لهذه الشعوب، في حالتي روسيا وفرنسا على الأقل.
يضيف "ماكين" اذن الى معادلة "بروست" الزمنية وبحث هذا الأخير عن الزمن الضائع وعالم الطفولة، يضيف اليها معادلة مكانية يتوق في ظلها الولدان في "الوصية الفرنسية" الى "اناقة المغامرة الغربية"، هذه "الاتلنتيد" أو "الفرنسا" العابقة بالعطور الغريبة والأحاسيس المرهفة، أي هذه البلاد التي ليس أقل ما يثير اهتمامهما بها حكاية رئيس جمهوريتها الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي عشيقته. حاورت اندريه ماكين في سيدني على هامش مهرجان سيدني للكتاب الذي انتقل هذا العام الى أحد هنغارات المرفأ القديم، مرفأ كان قد أعيد تجهيزه كقاعات مسرح. قرب المرفأ رست مكتبة عائمة يصلها الزبائن على جسر مشاة صغير ويجلس فيها الكُتاب بعد جلساتهم العامة لتوقيع نسخ من كتبهم لمن يريد من رواد المهرجان، فيكون ذلك وسيلة لهم للاتصال بقرائهم وتشجيعاً للمبيع في الوقت نفسه.
وإذ يشرف الموقع على ناطحات سحاب سيدني وخليجها الخلاب ويبعد بضع دقائق مشياً على الأقدام عن مبنى أوبرا سيدني الشهير، تشبه القاعات الضخمة في الداخل المصانع القديمة بسقوفها العالية وكثرة شبابيكها العريضة وتذكّر المشاهد بالقاعات التي يظهر فيها لينين البلشفي، في الصور القديمة، مخاطباً العمال من على منبر طفيف الإرتفاع.
سألت ماكين عن الكتابة والهوية والحضارة والخسارة وسألني عن سيدني ولبنان والشرق الأوسط وهجرتي من لبنان، كما سألني عن شاطىء بونداي الشهير في شرق سيدني وأخبرني كيف قطع المسافة بين فندقه وبونداي سيراً على الأقدام مما يستغرق حوالي ثلاث ساعات وسبح في المحيط الهادىء، وقال لي: السيبيريون بحاجة لتلمس الحدود، لمعرفة متى تنتهي الأرض وتبدأ البحار، سيبيريا شاسعة، تشيخوف سافر لأيام وكان يشعر أنه ما زال يبرح مكانه نظراً لرتابة الطبيعة من حوله. ثم أضاف مازحاً: هذا هو سبب غزو الجيوش الروسية للبلدان المجاورة، لتلمّس الحدود. ولا شك ان ماكين نفسه اختبر الحدود مراراً، حدود اللغات والثقافات والبلاد.
أوتكين، الفتى الذي تبتر رجله خلال حادث في رواية "زمن نهر يسمى الحب"، هل هو الشاعر أو الكاتب قبل كل شيء؟ أي من خسر شيئاً ثميناً؟
- الكاتب شخص معرض للخسارة، للأذية، أجل يجب أن نخسر شيئاً ثميناً لكي نبدأ البحث عن وجودنا وهذا هو مصدر الحنين للماضي. الحنين هو الكتابة: حين نفقد شيئاً، نبدأ بالعثور عليه عبر الكتابة.
تمعن في وصف تفتح أحاسيس الأولاد وشهوانيتهم في "الوصية الفرنسية" و"في زمن نهر يسمى الحب"، وحتى "اعتراف حامل علم ساقط"، أين البعد الجمالي في هذا؟
- انه البحث عن الجمال في رأيي، البحث عن الجمال عبر كل ما هو مادي وجسدي، كل ما مصيره الزوال في الحب، كل ما سيفنى في الجمال، كل ما هو خارجي، انه اختراق نحو جوهر الجمال، اختراق مشحون بكل ما هو جنسي صرف. يجب ان نميز بالنتيجة بين هذين القطبين" هذا التمييز هو من العناصر الأساسية لوجودنا تارة نبغى الجمال والمثالية وطوراً نكون كالبهائم، متوحشين، الإنسان يتأرجح دائماً بين هذين القطبين.
لقد أجبت بعض الشيء عن سؤالي التالي، إلا انني سأطرحه عليك مع ذلك، هذه الثنائية التي تسكن مخيلة شخصياتك، ثنائية البربري والحضاري، الفج والمرهف، الروسي والفرنسي إلخ. هذه الثنائية هي إذن أكثر من مجرد تضارب بين الريفي والمديني؟
- هي أوسع من ذلك بكثير. انها تعبر بالأحرى عن التضارب بين الشعوب القديمة والشعوب الجديدة. الشعب الروسي شعب حديث العهد، لم يملك قبل انتشاره حضارة سبقته، كما الفرنسيون مثلاً. يجب ألا ننسى ان الفرنسيين يملكون تاريخاً اغريقياً ورومانياً. كل البرابرة كانوا برابرة إلا ان بعضهم كالإفرنج، أجداد الفرنسيين، استقر على انقاض الماضي الإغريقي الروماني وورث بقاياه. الروس ورثوا السماء والأنهار الشاسعة، لم يكن لهم أي ماض ثقافي.
هذه الثنائية في شخصياتك محددة اذن بظرف تاريخي وليست بالضرورة من مكونات الطبيعة البشرية؟
- بالضبط، لقد تلمست المثل الفرنسي على قياسي الشخصي، الا ان هذا يعكس روسيا عامة. الشعب الروسي حاول التعلق بالبيزنطيين وبحث عن أصوله في اليونان وكان على خطأ تماماً. ثم هناك حكاية الغرب وكل الكراهية للغرب والهوس به، ايفان الرهيب كان يهوى كل ما هو انكليزي، أراد الزواج من الملكة وراسلها وكاد يطلب اللجوء السياسي الى بريطانيا.
هناك فقرة في "زمن نهر يسمى الحب" يقوم خلالها المتفرجون في السينما بالبلدة السيبيرية الصغيرة بالتصفيق والتهليل لدى ذكر كلمة روسية في فيلم فرنسي. لقد شهدت لحظات شبيهة في لبنان حيث يعلو التهليل في قاعات السينما لدى ذكر اسم شخص أو مكان لبناني أو عربي في فيلم أجنبي...
- ماكين ضاحكاً: لم أكن على علم بذلك، هذا رد فعل الشعوب البعيدة. الروس نبذوا مرتين: مرة عبر الفارق بين الشرق والغرب ومرة أخرى عبر الجدار الحديدي الشيوعي، فكان عزل مضاعف. اللبنانيون بهذا المعنى أقرب بكثير من الغرب، المسيحية عندكم أقدم من مسيحية الأوروبيين، الكهنة الأوائل جاءوا من بلادكم.
أليس هناك ما هو "حضاري" في تواضع "المتفرج" الذي يسره ذكر اسمه وبالمقابل أليس هناك بعض "البدائية" في انشغال الأوروبي بذاته؟
- هذه ظاهرة روسية، لو تأملت تاريخ الروس لوجدت انهم كلما نبذهم الغرب، تمكنوا من اللحاق به. من يحدثني عن الأدب الروسي أقل له: انظر الى زمن بطرس الكبير، لم يكن هناك أدب روسي ثم جاء بوشكين، وبعد 50 عاماً ظهر دوستويفسكي. إذن الروس يتمكنون من اللحاق بالغرب بشكل لافت. انظر الى الفضاء واستكشاف الفضاء، كان الغرب قد سحق الروس تكنولوجياً، وبعد انقضاء 25 عاماً أتى غاغارين... لكن علاقة الروس بالوقت مختلفة. لا يملك الروس نظرة الغرب العقلانية الى الوقت، هذه النظرة التي تحدد لنفسها أهدافاً بعيدة وتميز تمييزاً دقيقاً بين أشكال الوقت المختلفة. ولأن الروس لا يملكون هذه العلاقة بالوقت، يفقدون حماستهم بشكل سريع، يتساءلون: ما جدوى كل هذا؟ يتراجعون نحو بدائيتهم الوجودية. "ما جدوى كل هذا؟"، يطرحون دائماً هذا السؤال على أنفسهم. الغرب لا يطرح هذا السؤال أبداً، هناك دائماً هدف، مقصد. الألعاب الأولمبية قادمة، يجب متابعة البناء... هناك حركية عقلانية، بهذا المعنى الروس شرقيون. "ان شاء الله" يلفظها ماكين بالعربية، كما يلفظها الفرنسيون. ان شاء الله: يقولها الروس دوماً. ما جدوى كل هذا بالنتيجة؟ ها أنا هنا، ليس لدي الوفير من الطعام ولكن لدي ما يكفيني. الغرب لا يطرح أبداً هذا السؤال.
هل لهذا علاقة بالدين؟
- حتى في ما يتعلق بالدين، اتبع الغرب طريقة عقلانية، لديكم في الغرب مسألة الخطيئة. الإنسان مرتكب الخطيئة، الخير والشر. لدى الروسي المسألة الدينية مرتبطة بالموت. الإنسان فان وعليه اكتشاف أزليته، لا تعني الخطيئة الكثير بالنسبة للروسي.
أنا نشأت في بيئة مسلمة في لبنان، مفهوم الخطيئة لم يكن جزءاً أساسياً من الخلفية الدينية، وإذا وجد ففي شكل مختلف عن شكله لدى المسيحيين...
- لقد حاولت التطرق الى هذا في "في زمن نهر يسمى الحب"، عبر الوعي الطفولي لشخصياتي. من هنا صورة "الميزان": مصير هذه الشخصيات ان تفهم الغرب ثم تعود الى الشرق وتصبح شرقية ثم تنطلق من جديد، كما الميزان...
لقد تحدثت البارحة في اللقاء العام في مهرجان الكتاب، تحدثت عن الحسي، كوجه أساسي من وجوه الأدب لا غنى عنه، لا بل الصفة الرئيسية للأدب، بالمقابل هناك في أدبك وفي أدب كتّاب آخرين فقرات "تحليلية" عديدة. أليس "التحليلي" على مستوى ما أبعد من "الحسي"، وفي الوقت نفسه أليس "التحليلي" وجه أساسي من وجوه الأدب؟
- التحليل مرحلة تحضيرية بالنسبة لي، "التحليلي" يجب ان تتخطاه الصورة دائماً، أنا لا أرفض الفكر أبداً. الفكر التحليلي موجود ولكن في رأيي يجب ان تتخطاه الصورة ويجب ألا يكون سوى مرحلة تؤدي الى الحسي. ما نفهمه عبر التحليلي هو حدود قدرتنا على الفهم.
ما لفت نظري الى هذا مقطع "لماذا بلموندو" في رواية "في زمن نهر يسمى الحب"، واهتمامي بعلاقة الأدب الروائي بالمقالة الطويلة essai.
- يمكن فهم ذلك كتفاوت أعمار: المراهق أو الراشد يتبع العقل، أما الطفل فهو حيوان يعيش عبر احساسه. المراهق يعكس التطور البشري، يكون بدائياً في طفولته ثم يبدأ بالتسلق نحو الفكر التحليلي.
قيل أمس في اللقاء العام نفسه ان الفرنسية لغة الذاكرة أو لغة اللاواقعي. لكي نكتب الرواية يجب ان نتعلم كيف نصف الواقع أو اللاواقع، يجب ان نتعلم كيف نصف الأشياء بأي حال، هل وجدت انه يجب عليك أن تتعلم كيف تصف الأشياء بالفرنسية؟
- أستطيع ان اقول لك بكل بساطة انه ما من لغة أقوى أو أضعف من لغة، ما من لغة تبرع في مجال وتفشل في مجال. هذه خرافة. هناك لغة شعرية واحدة، لغة جمالية واحدة واللغات الوطنية "عاميات" فيها. سأقول لك شيئاً ربما صدمك أعطني 20 عاماً أستطيع خلالها ان أتعلم العربية وأكتب كل هذا بالعربية، 20 أو 30 عاماً على وجه تقريبي.
الألسني الأميركي نعوم شومسكي Noam Chomsky حاول تلمس هيكلية مشتركة بين جميع اللغات تصبح عبرها اللغة الواحدة.
- أو تصبح رموزاً خاصة، مثلاً حين بدأت بكتابة "في زمن نهر يسمى الحب" قلت لنفسي، سيبيريا والرواية السيبيرية باللغة الفرنسية، سيكون هذا أمراً صعباً، لغة الثلج وعواصف الثلج والأعاصير ومع ذلك... تم الكتاب... إننا نبالغ في تصور حجم خصوصياتنا.
هل ترددت قبل الكتابة بالفرنسية؟
- ساورتني شكوك إلا ان المشكلة نفسها كانت ستعترضني في اللغة الروسية: التحول الأهم بالنتيجة هو التحول من لغة الاتصال الى لغة الشعر والإلهام، أياً كان لساني المستعمل. هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي: هل بإمكاني الكتابة ككاتب حقيقي؟ بالنسبة لي مسألة الكتابة هي مسألة الرؤيا.
لدى قراءتي لأعمالك، لمست انقطاعاً أو تغيراً حاداً بين الرواية الأولى ابنة بطل سوفياتي والرواية الثانية اعتراف حامل علم ساقط. انقطاع لم أجده في الروايات اللاحقة، كأنك وجدت أسلوبك في الرواية الثانية وما تبعها.
- رواتيي الأولى كانت الطفل الأول، كان هناك تردد، كانت أكثر تجريبية... مؤلف موسيقي قال مرة أنه نجح في كتابة الموسيقى حين توقف عن وضع محتوى عشر سيمفونيات في سيمفونية واحدة. أنا فعلت الشيء نفسه في الرواية الأولى.
كيف كان رد الفعل على رواياتك في فرنسا قبل "الوصية الفرنسية"؟
- ماكين ضاحكاً: صمت مطلق، يسألني الناس لماذا غيرت دور نشر ثلاث مرات فأقول لهم أنا لم أغير دور نشر، هم طردوني، كل مرة كانت دار النشر تأمل ببيع 2000 نسخة وإذا بها تبيع 500 أو 800 أو 1000 نسخة فتكون النتيجة طردي.
لقد تساءلت لماذا لم تنل الروايتين الثانية والثالثة اهتماماً؟
- الرواية الأولى الى حد ما نالت بعض الدعاية أكثر من الثانية والثالثة. في فرنسا، كتّاب الرواية الأولى ينالون بعض الانتباه.
الرواية الأولى أكثر سياسية أيضاً؟
- أجل.
هل هناك نرجسية مؤسساتية فرنسية؟
- إنها ماكينة صعبة الفهم أو التخيل، ربما كنتم بعيدين هنا في سيدني عن هذا المناخ. أتدري ان أحد الفائزين بجائزة "الغونكور" كتب رواية بعنوان "ثمن الغونكور" أي الثمن الذي دفعه نتيجة نيله "الغونكور": كلفته الجائزة مهنته، عائلته، هجرته زوجته، كانت كارثة حقيقية بالنسبة له. جن تماماً، لم يعد بمقدوره الكتابة. كل هذا نتيجة الحماسة والصخب.
روائية انكليزية اسمها انطونيا بيات قالت في احدى رواياتها "تملّك" Possession ان الرواية هي فن الممكن والمحتمل. يقال احياناً ان الأدب يتطلب القدرة على الغوص في مخيلة الآخرين. أنت قلت البارحة في الجلسة العامة ان الكتابة تتطلب من الكاتب أن "يحزر" او "يتكهن". إذا قارنا هذه النظرات الثلاث للرواية، لكان من السهل رؤية ما هو مشترك بين النظرتين الثانية والثالثة: الغوص في مخيلة الآخرين هو نوع من التكهن، ولكن ماذا عن النظرة الأولى: هل بإمكانك التفاعل مع نظرة "الممكن والمحتمل"؟
- أجل لا بأس بهذه النظرة. حياتنا، وجودنا بالنتيجة يمر بلا رجوع، لا نستطيع العودة عن حركة قمنا بها في الحياة، أما الروائي فباستطاعته القيام بذلك: باستطاعة الروائي ان يروي الحركة نفسها ألف مرة ويغيرها، بإمكانه أن يسلك سبلاً جديدة، أكثر أهمية، أكثر دلالة. مثلاً تخيّل أنك تتعرف على امرأة وتعجب بها، ثم فجأة هناك حدث تافه، كلمة خاطئة، يفسد اللقاء، لقاء ربما كان له ان يكون حب حياتك الكبير، الروائي يستطيع محو الحدث التافه، هذه الغلطة السخيفة، لأن اللقاء أهم من هذه الغلطة. يستطيع الروائي ازالة كل ما هو ثانوي من أجل البحث عن الأساسي.
اليوشا وأوتكين وساموراي، أي الأولاد الثلاثة في "في زمن نهر يسمى الحب"، يسيرون لمدة 18 ساعة عبر الغابة السيبيرية، التايغا، للوصول الى السينما في أقرب مدينة لقريتهم. يفعلون ذلك 15 مرة نتيجة حبهم لأفلام جان بول بلموندو. شخصياتك هذه، لو انتقلت الى فرنسا وعاشت في باريس حيث يمكن الوصول الى السينما خلال دقيقتين بالمترو، هل تكون قد خسرت شيئاً بذلك؟
- ماكين ضاحكاً: لا شك أنها خسرت الا انها ربحت أيضاً، ربحت الحنين للماضي، الخسارة بالنسبة لي جائزة كبيرة من الضروري ان نخسر وأن نفقد. أنا سأكون الخاسر المحترف. يجب أن نخسر. كل أوقات الفشل في حياتي، هكذا تلقيتها، قلت لنفسي الفشل نعمة كبيرة، انتصار كبير، فقط، حين ننتصر، حين نحصل على الامتيازات، نصبح كهؤلاء الكتاب الباريسيين التافهين، نساعد بعضنا البعض، نتعاون. انظر اليهم: انهم لا يكتبون شيئاً. الأدب الفرنسي بحالة يرثى لها اليوم فقط بعض الوجوه التي يمكن احترامها انهم "يفوزون" دائماً، ينتجون برامج إذاعية عن بعضهم البعض، إنها قصة كاذبة.
الهوية، هل هي مشكلة بالنسبة لك؟
- أمين معلوف سينشر قريباً عملاً هاماً حول الهوية. تابعه، سيهمك أمره، اللبناني باستطاعته فهم هذا. طلبت مني دار نشر أخرى أن أقوم بعمل شبيه، لكني رفضت لأنني أفضل التركيز على الرواية. مسألة الهوية تهمني طبعاً، ولكن في رأيي حين نختار الكتابة كمهنة، تتغير حياتنا، إنها بالنسبة لي مهنة مطلقة الى درجة ان جزءاً من الواقع يموت بالنسبة للكاتب، انها فعلاً تشكل انقطاعاً في الحياة. انه خيار وجودي: مصير الكاتب ان يغير هويته ليكتشف نسبية الأشياء، هناك هوية واحدة تمحو الهويات الأخرى.
هل تصبح الكتابة نفسها هدفاً ومتعة بغض النظر عن ظروفها؟
- الكتابة هي تجربة الحياة والموت أيضاً، اننا نولد من جديد. نموت بطريقة ما. نعيش في عالم... ليس خيالياً ابداً. على العكس عالم الكتابة، عالم واقعي تماماً. ان حياتنا اليومية هي الحياة اللاواقعية برأيي، انها مليئة بما هو عارض، ناقص، مجهض، اننا نعيش بالنتيجة دائماً في عالم مجهض تنتهي فيه الأشياء قبل أوانها.
هناك إمكانية أكبر للاقتراب من الكمال في الكتابة لأن الكاتب منفرد ومستقل...
- أجل الكاتب منفرد. الأدب غير توتاليتاري أبداً. السينما توتاليتارية. السينما حين تقدم شخصاً لك تعطيك كل صفاته: لون شعره، طوله الخ. في الأدب، خذ مثال شارلوت في "الوصية الفرنسية": تلقيت الفي رسالة من القراء يتحدثون فيها عن شارلوت وكل قارىء كوّن صورة مختلفة عنها. هذه هي اعادة القراءة: نتعاون مع القارىء والقارىء حر أن يقبل أو لا، حر أن يرى الأشياء كما يريد.
ننشر مع مجلة "حريات" هذا الحوار - التحقيق مع أندريه ماكين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.